أبو يعرب المرزوقي: أو حينما يتحدث المتفلسف في غير فنه

الوطن24/ بقلم: نورالدين الحاتمي
تعرف القارئ العربي على أبي يعرب المرزوقي ككاتب عربي يهتم بالفلسفة ويكتب عنها، منذ عقود، ولكنه رغم انكبابه عليها، أي على الفلسفة، واشتغاله بها وعلى موضوعها، فإن أسلوبه لا يشد إليه القارئ ولا يجذبه إليه، شأنه في ذلك، شأن عدد من الكتاب و “المفكرين”. وليس مرد ذلك ـ فيما أعتقد ـ إلى تقعر في تعبير أو عمق في طرح، وإنما إلى العجز عن الاحاطة بالموضوع و التمكن من مادته.
وهذه الظاهرة ـ في تقديري ـ تنسحب على جملة من الكتاب الذين يوصفون عادة ب “الحداثيين” و “التنويريين” فهم في الجملة كذلك، لا تكاد تفهم عن الواحد منهم إلا “قليلا”،وقد أشار عبد العزيز حمودة في كتابه “المرايا المحدبة” إلى هذا الغموض الذي يلف إنتاجاتهم، وقال أنه كان يتهم عقله بالقصور وعدم القدرة على استيعاب فلسفاتهم ونظرياتهم وتعقل أغراضهم، أو كما قال، ونبه إلى أنهم كانوا يميلون إلى ذلك الغموض في محاولة منهم ستر عيوبهم وتغطية جهالاتهم، وإلا فإنهم لا يأتون بجديد فيه إبداع، بل لا يأتون بشيء.
إن هذا الالتباس راجع بالأساس، إلى تواضعهم العلمي وضحالتهم المعرفية فيما يتعلق بموضوع اشتغالهم وبحثهم، وليس إلى سبب آخر.
وأبو يعرب المرزوقي نموذج لهؤلاء الكتاب”المتفلسفة” الذين لم يأخذوا من الفلسفة حكمتها فيتواضعوا تواضع من اثقلتهم المعرفة، وإنما أورثهم الجهل بها وبجوهرها،الجرأة على القول في كل شيء، دون معرفة أي شيء.
لقد كتب هذا “المفكر” دراسة حملت عنوان “محاولة في فهم مآزق أصول الفقه بعد بلوغ تأسيسه الأول الغاية” شارك بها إلى جانب المرحوم الشيخ محمد سعيد البوطي و صدرت عن دار الفكر العربي، تحت عنوان”إشكالية تجديد علم أصول الفقه” نهاية القرن الماضي.
وقد كانت هذه الإشكالية: “إشكالية تجديد علم أصول الفقه” مثار نقاش و جدال كبيرين في التسعينات من القرن الماضي، و ذلك بعد دعوة حسن الترابي في كتابه “تجديد الفكر الإسلامي” إلى ضرورة تجديده، بسبب ما ادعاه من عدم قدرته على الاستجابة للتحديات التي ما برحت الساحة الإسلامية تطرحها، وقد كان يتطلع إلى إنتاج “علم أصول فقه” جديد و معاصر يسمح له باجتراح حلول لإشكالات مستجدة تتعلق بالسياسة وملحقاتها بالأساس، لأن علم أصول الفقه كما وضعه الأوائل لا يسعف ذلك و لا يسمح، لأنه إنما وضعه هؤلاء العلماء في أفقهم و وحسب احتياجاتهم وظروفهم. وقد تبدلت تلك الظروف وتغيرت تلك الاحتياجات، ولم يعد في جعبته ما يقدم.
وعليه، يحتاج المسلمون اليوم إلى أن يضخوا فيه دماء جديدة و يمنحونه قدرا من المرونة، حتى يتمكنوا من النهوض للتصدي للآفات التي لم تكن فيما مضى.
وقد ظل حسن الترابي نفسه عاجزا عن بيان أوجه هذا القصور التي يعاني منه هذا العلم، وظل كلامه مفتقرا إلى الحجة والدليل، والامثلة التي ساقها لم تسعفه كثيرا في توضيح موقفه وتبرير دعواه، لأن المشكل ـ حقيقة ـ ليس في هذا العلم، وإنما فيمن يتعاطاه ويتفاعل معه، وعدته منه قليلة وبضاعته مزجاة، ولم ينل منه إلا القشور.
وإذا كان حسن الترابي قد أوضح موقفه وقاربه، بشكل يسمح بالاتفاق معه أو الاختلاف، فإن هذا “المتفلسف” الذي يعتبره البعض آخر من بقي من الفلاسفة العرب ظل عاجزا تماما عن تناول الموضوع بالشرح والبيان.
لقد كان هذا “المفكر” واعيا تماما الوعي، أنه لا يفهم جوهر الإشكالية ولا يستوعبها و لذلك لم يقصدها رأسا، ولم يبن مبحثه بحيث يتمكن القارئ من فهم مراده. واللغة التي صاغ بها دراسته تكشف هذا الأمر حتى وإن أرادها حاجبة لعدم إحاطته بالموضوع وقدرته على استيفائه. فماذا سيستفيد القارئ من مبحث طويل يتجاوزمائة و أربعين صفحة من فقرة كهذه:
” إن المنهج المؤثر هو التلازم بين تأويل معطيات الانطلاق وتحليل علاقات ما فصلت إليه من عناصر لفهم محددات الوضعية محدداتها التي تكون مادة للعلاج الفلسفي لذلك كان كل المنطلقين مضاعفا. وبذلك يكون العلاج التاريخي تأويلا لما حدث في ماضي التاريخ مشروطا بتحليل عناصر الحدث لتحديد معادلة الوضعية التي نريد علاجها بالمنطلق الثاني، ويكون العلاج المنطقي تحليلا لما يحدث في حاضر التاريخ مشروطا بتأويل معطياته لتحديد اتجاهاته في المستقبل فيتلازم تحليل الحدث وتأويل معناه في كلا العلاجين …” ومن مثلها؟ والبحث كله على هذه الشاكلة وعلى هذا النحو.
أكيد أنه لن يظفر منه بأية فائدة يرجوها، و أكيد أيضا،أنه لن يعرف من مبحثه ذاك لا أصل الإشكال و لا فرعه، ولا جرثومة الداء ولا وصفة الدواء.
يقول أن كون الفقه على هامش المسلمين دليل على أزمة علم أصوله. ولا أحد يسلم له بذلك، لأن وقوع هذا العلم على الهامش دليل على انحراف المسلمين وعلى ابتعادهم عن تعاليم دينهم، وعلى انسياقهم وراء أهوائهم و رغباتهم، والشريعة إنما جاءت من أجل تحريرهم من دواعي أهوائهم، كما يقول الأصوليون أنفسهم.
ويقول أن المسلمين ظلوا يجترون الحديث عن الاخلاق بفهم ساذج وسطحي لـ “نظرية التوسط بين التطرفين” في حين أن أخلاقهم في الحضيض و”اسفل سافلين” و من قال ان المسلمين ساءت اخلاقهم بسبب تعلقهم بهذه النظرية التي تظل سليمة من الناحية المنطقية لأن الفضيلة هي كذلك بالفعل؟ فالناس في جملتهم لا يعيشون حياتهم كما هو وعيهم، أي بنوع من التطابق. والحداثة التي يدين بها هو قائمة على هذا الأساس: أساس الفصل بين الوعي و السلوك.
ويقول أن “أن المسلمين يفهمون السياسة” مجرد كلام في نظرية المدينة الفاضلة ونظرية الاستبداد الغفل” يقول ذلك، وكأن الانظمة القائمة تؤسس استبداها على ما يكتبه هؤلاء الباحثون، وأنه متى تغيرت نظرة المسلمين للسياسة تغير تعاطيهم معها، والواقع ينطق بأن الممارسة السياسية في البلاد الإسلامية لا علاقة لها بما يسطره مفكروها. السياسة هي التي تملي على هؤلاء ما يكتبون وليس العكس. ثم ما هي علاقة هذه الآفات بتجديد علم أصول الفقه؟ أين يكمن الخلل؟ أفي علم تم تهميشه و إقصاؤه، وتعاطاه من لا تأثير لهم ولا يحسنون الاستفادةمنه؟ أم في واقع انفصل بالكلية عن هذا العلم و قطع معه كل؟ من المطالب بالخضوع لمن؟ هذا العلم أم الواقع الذي يعيش فيه أهله مغتربين ومستلبين؟
أما حين عرج على ابن تيمية وابن خلدون ملتمسا منهما السند لدعوى لا يستطيع حتى شرحها وبسطها، فضلا عن المرافعة من أجلها، وقد احتاج إليهما لأنهماعالمان مسلمان أحدثا ثورة تجديدية في هذا المجال كما زعم، فقد قولهما ما لم يقولا و نسب إليهما ثورة لم يفكرا فيها أصلا ولا تخطر على بال أي منهما. وجاء بابن تيمية غير الذي نعرف في “الفتاوى” وبابن خلدون آخر، لا علاقة له بابن خلدون “المقدمة” ولم يشر إلى المصادر التي استقى منها مزاعمه مما يقطع بأنه لم يقرأ لهما و لم يفهم عنهما.
والمصيبة أنه اعتبر “نظرية المقاصد غير مشروعة لا عقلا ولا نقلا وهي ضارة عقلا ونقلا” ليكون بهذا النفي غير المؤسس وغير المعقول قد جعل مشروع “تجديد علم أصول الفقه” المفترض برمته غير ذي معنى. وليس المقام هنا مقام بيان بطلان زعمه وبيان تهافته. إن هذا الموقف سيجعل الاجتهاد نفسه في مأزق إن لم يكن لا معنى له.، ولاحاجة إليه.
لقد كان الكاتب واعيا أن دراسته تلك لا وجهة لها ولا غاية، ومفتقدة للبوصلة، و كان متأكدا أنه لا يعرف حتى ماهية الإشكال الذي يتعرض له بالبحث والتحليل، ولذلك، نصح القارئ الذي “لا يجد متعة البحث وأناة التحليل” “بالعزوف عن قراءة” دراسته…” ودعاه إلى اعتبارها” محاولة تنتسب إلى التجريدات الفكرية التي تشبه الكلمات المتقاطعة” مبررا ذلك “بتعقيد الاستدلال على فرضية العلاج الجريئة” يقصد فرضيته هذه.
ولكن هل صحيح ان دراسته تلك قائمة على استدلال معقد؟ وهل هذا الاسلوب من الاستدلال هو الذي جعل الدراسة غير ذات معنى؟ إن هذا المبرر مجرد لغو، ومجرد كلام فارغ.
فلم يكن الاشتغال بالفلسفة يوما سببا في الغموض والالتباس والفيلسوف العربي “الحقيقي” و الوحيد ـ كما كان يعتبر نفسه ونعتبره نحن ـ في الوطن العربي: عبد الرحمان بدوي يكذب هذه الدعوى إذ بقدر ما كانت إنتاجاته عميقة ورصينة بقدر ما كانت في غاية من الوضوح والبيان، وما تأتى له ذلك إلا من جهة تمكنه من الفلسفة وتملكه لها.
لقد كتب الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي نفسه في معرض تعقيبه عليه أنه لم يستطع أن يفهم الكثير مما اراده ، وأن طريقته هذه إذا كانت هي الطريقة الفلسفية الفضلى فإن الفلاسفة الذين قرأ لهم كفلاسفة لم يكونوا كذلك وأن الفلسفة التي اطلع عليها لم تسفر إلا عن “بضاعة مزجاة” أو كما قال.
واحسب ان موقف البوطي هذا هو موقف كل قارئ حصيف يعي ما يقرأ.
ليبقى السؤال هنا هو: ما الذي يجعل هؤلاء الكتاب الذين يكتبون أكثر مما يقرأون مفكرين كبارا وفلاسفة؟