أنــماط التـدين نـتاج التـدين الطبـقي (في الملل الثلاثة) الجزء الثاني

الوطن24/ بقلم: حسن حلحول (باحث) 

١) الصلاة ومظاهر التدين الطبقي في الديانات الثلاثة.

قد يبدو أن الأمر غريب وعجيب أن يتم ربط بين الصلاة والتدين الطبقي، وإذا ما تأمل المتأمل في هذا الربط الواقعي، نجد أن الوعي الطبقي الديني تظهر بجلاء في هذه الشعيرة المتداولة والممارسة من قبل المصلين بشكل توقيتي في اليوم في الديانات الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية.
إن الملاحظ أن الصلاة في الإسلام هي عماد الدين، ومن ثم فإن أداء الصلاة واجبة في كل وقت على كل متدين كيفما كان مذهبه الذي يعتقده، وكيفما كانت الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، لقول الله تعالى، :” إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا:” إن الله ذكر في هذه الآية أن الصلاة واجبة على كل مؤمن في كل وقت محدد في اليوم، ولم يقل واجبة على كل مسلم، لأن الفرق بين المؤمن والمسلم محدد في الآية لقوله تعالى ”قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ،وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا…”.
إن الملاحظ أن الناس سواء كانوا مسلمين ومسيحيين
ويهوديين، الذين تجدهم لا يفارقون الصلاة في أوقاتها، ينتمون إلى طبقتين أساسيتين، الفقيرة والمتوسطة فالاولى هي بالدرجة الأولى لا تفرط في الصلاة الى درجة تذوب فيها، لأنها ترى في الصلاة الخلاص من الفقر الذي سيعوض بالجنة، وأن حرمان هذه الطبقات من متاع الدنيا ، هي في الأصل نعمة حباهم الله بها ،لينالوا الجنة النعيم، وهذا ما يؤدي بالطبقة الفقير من أن تكثر من الصلاة وتعكف عليها ، للاعتبارات التالية:
أ) ليس لهم ما يشغلهم بشكل يفتنهم وليس ما يلهيهم عنها، لهم الوقت الكافي والزائد يتفرغون لها.
٢) يعملون كل ما في وسعهم، لأداء الصلاة بشكل مضبوط في وقتها وبإخلاص وبايمان، ولا يؤدونها من أجل المتعة والترفيه والتباهي وإنما تقربا الى الله وطمعا في جنة الخلد.
٣) يجتهدون ويجهدون في الإتيان بالنوافل من الصلوات،كل وقت أداء الصلاة وخارج أوقات صلاة الواجب، لأداء العبادة وممارستها للحفاظ على تزايد الخشوع والرفع من الإيمان.
٤) وأن ما إذا تغيرت الحالة الاجتماعية لأحد أفراد هذه الطبقة الفقيرة، إذا أصبح من ذوي المال تجده لم يعد كما كان عليه، انقلب على وجهه بات لا يتردد على المعابد كما كان عليه، تراه مهموما كل وقت بأشغاله الدنيوية حسب وضعه المالي الذي يحدد له وضعه الإجتماعي كانتماء جديد للطبقة البرجوازية.
وهذا التدين الطبقي ينطبق على الطبقة البرجوازية من المتدينين في هذه الأديان الثلاث وغيرها.
إن الصلاة لدى هذه الطبقة البرجوازية على ما يبدو تختلف عن الطبقة الفقيرة سلوكا ومعاملة ومكانة داخل المعبد،
للاعتباراتالتالية:
١) لا يوفون الصلاة حقها كما يوفيها الفقراء، فهم ينشغلون كل أوقاتهم التي لا تكفيهم حتى في تسيير شركتهم وتوفير الأموال لمشاريعهم الضخمة،
٢) إن الصلاة عند هذه الطبقة تتسم بالظاهرية، خصوصا عندما يكونون في حضرة رجال الدولة المهمين،للظهور في الصفوف الأمامية الاولى لأداء الصلاة ، للتقرب إليهم لا التقرب الى الله، وتبقى الصلاة عندهم يغلب عليها الطابع المادي الدنيوي بدل الروحي التعبدي.
٣) أن الصلاة عند الطبقة البرجوازية مناسباتية لملأ الفراغ الروحي، حسب أهمية المناسبة الدينية، هو تدين ظاهري لا يعكس باطن التدين لكي يتظاهروا أمام المجتمع، بل أكثر من هذا فانهم يتظاهرون بالورع والايمان، و تراهم يذكرون الله وما هم من أهل الذكر والاتقياء، وترى شفتيهم تهتز تان لتوحي للغير بالخشوع و قلبهم وعقلهم في واد آخر .
لقد جاء في الحديث حدثنا زياد بن عبد الله بن الأعمش بن عطية عن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام”
فإذا كان الفقراء يكثرون من الصلاة بشكل يختلف عن الطبقة الغنية، بالرغم من ثمة وحدة الطقوس في الأداء. فإن هذا يرجع إلى أن الطبقة الأولى تطمع في الجنة، والثانية تملأ به الفراغ الروحي الذي تشعر به.
إن الأغنياء عندما يؤدون صلاة الجماعة فيما بينهم في مكان غير مختلط بالفقراء لا روح فيها، تكون جافة يفتقد فيها الجانب الروحي، وأنها تبقى مجرد حركات لا تغني ولا تسمن من جوع، بمعنى أخرى تواجد الفقراء في المعابد يخلق لدى الأغنياء الإحساس الروحي، والمتعة الروحية من تلك الأجواء الروحانية التي يخلقها الفقراء المستمد من قناعاتهم الإيمانية العميقة، وهذا الحماس الروحي التعبدي يمتعهم ويدخل في نفوسهم الإحساس بالعبادة ضمن المتعبدين من الفقراء وتراهم فرحين مسرورين.
هذه الأجواء تبرز وتجسد لنا التدين الطبقي الحقيقي باستغلالهم للطبقة الفقيرة حتى على المستوى الروحي الذي يبعث في نفوسهم اللذة والسعادة بالعبادة عندما يكونون حافين بهم ومحاطين من حولهم بالطبقة الفقير.

٢) التصوف وتجليات التدين الطبقي في الملل الثلاثة.
إن التصوف قديم يمتد في الفكر الديني عموما، وأنه عرفه ومارسه الهنود والفرس واليهود والنصارى قبل الإسلام، اول ما يلاحظ على التصوف إنه نمط من أنماط التدين، يميل الى الزهد والترفع عن متاع الدنيا.
اعلم أن التصوف بدأ فقيرا وأصبح غنيا، أي أن التصوف عرف تطورات على المستوى النظرية والممارسة وعلى مستوى البنية التحتية المكونة منه والبنية الفوقية التي تعمل على تكريس التصوف الطبقي، فلا يمكن لأحد أن يختلف معي في مسألة اساسية وهي أن التصوف الإسلامي في كنهه ليس هو التصوف “قابالا” في اليهودية ولا هو التصوف المسيحي المتمثل في اللاهوت الصوفي الذي ظهر في القرون الميلادية الأولى عند الكاثوليكية وارثذوكسية الشرقية والذي تطور الى الرهبانيات الجديدة في القرون الوسطى.
إذا كانت هناك قواسم مشتركة في الجانب الروحي للمتصوفة في الملل الثلاثة،فإن الاختلاف القائم بينها هو من حيث كيفية ممارسة التصوف الخاضع لطقوس خاصة حسب كل دين.
إن التصوف المسيحي لا يخرج عن الإطار العام المشترك بين التصوف الإسلامي واليهودي المتمثل في” قابالا”، إذ نجد التصوف بصفة عامة مكون من الطبقة الفقيرة في هذه الملل التي ترى في التصوف الخلاص من متاع الدنيا ورذائلها للفوز بالآخرة التي هي الحياة الأبدية، المقصود أن البيئة التي نشأ فيها التصوف هي بيئة الطبقة الفقيرة، بالمعنى الآخر ان هذا يجسد التدين الطبقي في أبهى صورها، اذن بداية التصوف نشأ في الأصل بين الفقراء، وقد يقول القائل أن كثير من الطبقة الغنية البرجوازية، تنازلت من برجها العالي الغنى ورفاهيتها الى التصوف والزهد تاركة كل متاع المال وما تملكه من إمكانيات البذخ والترف لتنضم الى طبقة الفقراء وتعيش حياة الزهد معها وتذوق الجوع والحرمان، نقول عن هذه الطبقة إنها لما التحقت وانضمت الى الفكر الصوفي نظرية وممارسة، كان من أجل التخلص من ملل حياة البذخ والفراغ الروحي الذي قد أدى بالكثير منهم بالانتحار، وأن هؤلاء بأموالهم التي يهبونها للمعابد الصوفية لصرفها على المتزهدين في الأماكن العبادة والذكر للمريدين من المتصوفة، سرعان ما يحظى هذا الرجل بالتقدير والاحترام ليتبوأ مكانة عالية الى درجة التقديس في الطريقة الصوفية التي ينتمي إليها، كما يتبوأ هذه المكانة من الفقراء المحظوظين الذين عاشوا وتربو في هذه الأماكن العبادة وهو فقيرا، ويصبح غنيا بتبوئه المكانة المرموقة في الطريقة،فيما بعد من خلال مايقدم إليه من الأموال الكبيرة كل يوم من طرف عامة الناس الذين يأتون لينالوا البركة والتقرب الى هؤلاء الأولياء والشيوخ التابعين لهم.
إن المتصوفة عامة في الملل الثلاثة يتفقون على مبدأ هو العمل من أجل اتحاد الروح الصوفية مع الله، ذلك بالتركيز على ممارسة العبادة بشغف وفرح لأنه هو الأساس الذي يصل بالمتصوفة الى حب الله بالقلب والعقل والكشف ، هذا المدلول يختلف عن مدلول الفلسفي في نظرية حب الله العقلي عند سبينوزا، ويتم التعبير عن هذا الحب بكل الطرق والوسائل، بالانشاد أو بحركات الجسد أو استخدام الموسيقى يقودها شخص مقدم له خبرة كبيرة في التصوف يعلمهم الزهد والاتكال على الله والصبر على تحمل مشاق الفقر، والخلوة التعبدية في الليل والصوم ومجاهدة النفس تقربا الى الله، حتى يتم الوصول إلى التواصل المباشر مع الله.
والتصوف نوعان السني (السلوكي) والفلسفي .
الاول التصوف السني: هو ينبني على أسس التصوف العملي السلوكي ينشغل بالتربية الروحية وتزكية النفس وتطهيرها ومن الأئمة الجنيد البغدادي وعبد القادر الجيلاني وغيرهم.
الثاني التصوف الفلسفي: هو التصوف النظري الذي ينطلق من الرؤية التوحيدية التي تؤسس على صلة عضوية بين الإنسان والله ،مصدره فهم أو النظر في النصوص الدينية و قراءتها قراءة روحانية، ومن أهم أقاربها محي الدين بن العربي، عبد الحق بن السبعين، الحسين بن منصور الحلاج، شهاب الدين السهروردي، جلال الدين الرومي.
وحاصل الكلام يحق القول أن التدين الطبقي الحديث هو نفسه القديم، غير أنه عبارة عن تطور طويل يمتد عبر الزمن، وسلسلة من التجديد في نمط التدين حسب التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، واكب التطور والتقدم التكنولوجي،
ويمكن تحديد وسائل متعددة التي لها تأثير مباشر على التدين الطبقي وهي كتالي:
١) نمط التدين: هو الطريقة التي يدين بها الناس يجمعهم دين واحد، في مجتمع معين لكي يبقوا مرتبطين بعقائدهم التي يدافعون عنها، والتي هي مرتبطة بمصالحهم، ونمط التدين كلية تشمل، وسائل التدين وقوة الإيمان بالتدين وعلاقة التدين بالإيمان بالتدين ومراتب التدين والبنية التحتية والبنية الفوقية للتدين في حقبة تاريخية لمجتمع ما.
٢) وسائل التدين: هي مجموعة من الوسائل التي تتيح للمتدينين ممارسة تدينهم، كالمعابد، والأذان للصلاة أو الأجراس والأماكن المقدسة…
٣) قوة التدين: تشمل كل متدينين الذين ينتمون الى طبقة معينة من طبقات المجتمع، للحفاظ على مستوى تدينهم مرتبط بنمط التدين الطبقي.
٤) علاقة التدين: علاقة التدين بالإيمان تفرضها صيرورة التدين والبقاء على نفس النمط الديني للحفاظ على وحدة التدين وعلى أسس وقواعد التدين الطبقي للمتدينين، وذلك من أجل الطبقة التي تملك الحق اعادة إنتاج التدين وتجديده، وتوزيعه ونشره وفق مصالح طبقية.
٥)البنية التحتية: تشكل أسس ظاهرة الصراع التدين الطبقي. وهي مكونة أساسا من المتدينين الفقراء أو البروليتاريا، في علاقتهم بين الطبقات المسيطرة (بالكسر)، وهذا الصراع يبدو خفيا ولكن في الواقع هو موجود على المستوى الأنطولوجي.
٦)البنية الفوقية: هي النص التاريخي المتمثلة في المؤسسات الدينية، التي تحرك سياسة الدول لأنها المسيطرة على وسائل الإنتاج الفكري، والفكر السائد هو دائما فكر الطبقة السائدة. والبنية التحتية هي البنية الحاسمة في إنتاج وصياغة المؤسسات والتصورات التدين الطبقي.

يتبع بالجزء الثالث: (النص المعياري والنص التاريخي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *