استراتيجيا وبعقل بارد: عام 2021 عام المواجهة الروسيّة الأمريكية

الوطن 24/ بقلم: د. عماد فوزي شعيبي

مع خروج ترامب من البيت الأبيض تكون روسيا والعالم قد فقدا فرصة كبيرة لتغيير الحالة العدائية النمطية بين أمريكا وروسيا؛ فترامب كان يرى موسكو شريكاً على الأقل يمكن تحييده إزاء الصراع الأمريكي-الصيني على بحر الصين الكبير وعلى الاقتصاد العالمي ممثلاً بصعود بكين الكبير. لكن الدولة العميقة في واشنطن استماتت منذ الأيام الأولى لحكم ترامب على صدّه عن مبتغاه، ولم تتورّع عن اتهامهِ بالحد الأعلى بالعمالة لروسيا وبالحدّ الأدنى بمساعدة الروس له انتخابيّاً… بل إنها جعلت سنواته الأربع في البيت الأبيض صراعاً لا يتوقف لتشتيت الرجل عن أيّ تقارب مع الرئيس بوتين.

ولم تتوقف الدولة العميقة عند هذا الحد ولم يثنها الانقسام المجتمعيّ الحاد مع ترامب ومعها عن التخليّ عن الحكمة فزجّت بكل ثقلها في معركة الانتخابات لتنحيّته عن البيت الأبيض لسببين: الأول أنها لا تريد أن يتفلّت في السنوات القادمة منها ويحقق التقارب مع موسكو، والثاني أنها لا تريد أن تتغيّر؛ فعزم (العطالة) وممانعة التغيير تحكمها وهي قد بلغت من التحجّر ما لايسمح لها أن ترى حجم التغيير في الولايات المتحدة والانقسام الحاد النصفيّ في المجتمع الأمريكي الذي يريد نصفه على الأقل التغيير، والذي كان ترامب واجهته.

عموماً، ستكون السنوات الأربع القادمة سنوات المُكاسرة الروسيّة -الأمريكية في غير مكان في العالم وفي مناطق تنازع النفوذ. وقد بدأت موسكو بالاستباق إلى التهيئة للمعركة بعيدة الأمد مع واشنطن؛ فالموقف الروسي قد ازداد تشددًا بشكل ملحوظ في الأسابيع الأخيرة. إذ أدلى الرئيس بوتين بتصريحات تقول إن الكرملين قد أعاد التفكير في سياسة “الصبر الاستراتيجي” المتبعة حتى الآن وقد يسمح للقوات المسلحة بالتصرف بحزم في مواجهة الاستفزازات الأمريكية، ملوحاً بالتفوق الروسي على الولايات المتحدة بالأسلحة التي تفوق سرعة الصوت، وبغيرها، وهذه رسالة تتوافق مع إعلان الخارجيّة الروسيّة عن أنها ليست على تواصل مع فريق بيدن ولا تتوقع من “الدولة العميقة” التي عاشت على رُهاب العداء مع الروس أيّ تغيير.

فواشنطن-بايدن-الدولة العميقة تتبنّى سياسة الحرب الاقتصادية والعقوبات بلا هوادة، ونظريتها في ذلك أن هذه الحرب لا تكلفها عسكريّاً ولا حتى ماديّاً كما تفعل المواجهات الأخرى، وهي كفيلة بتركيع الشعوب عبر تجويعها بالحدّ الأعلى وإفقارها وإعوازها بالحدّ الأعلى، وتغيير عقليتها (الوطنيّة)، وجعلها في مواجهة مع حكوماتها… وهكذا يحدث التغيير، ودفع الدول وعلى رأسها روسيا وغيرها للانصياع. وهذا ما تراه موسكو باعتباره يستحق الرد عليه -أحياناً- (بتحريك! ما) لعجلة الديبلوماسية عبر الفعل العسكري المحسوب ولكن غير المتهاون!

 فبوتين قد شدّد كما ينقل (بهادارقمر) على أن مجرد وجود أنظمة الصواريخ الروسية فوق الصوتية يؤثر على الوضع العالمي وقد غيره.  وخص بالذكر نظام (RS-28 Sarmat) المتقدم القائم على الصوامع مع صاروخ باليستي عابر للقارات والذي يعمل بالوقود السائل الثقيل بوزن رمي 10 أطنان، ومركبة Poseidon بدون طيار تحت الماء، وأسلحة ليزر Kinzhal و Peresvet، ونظام صواريخ Avangard الفرط صوتية الذي سرعته تتجاوز سرعة الصوت 20 ماخ وصاروخ كروز طويل المدى الأسرع من الصوت Tsirkon المضاد للسفن والذي يحلق بسرعة تزيد عن ثمانية أضعاف سرعة الصوت.

 وقد أشار بوتين إلى أنه “علاوة على ذلك، يمكن وضع صواريخ (Tsirkon) على ناقلات ثابتة وعلى السفن السطحية وتحت السطحية.  في المياه المحايدة.  لذلك، يمكن حساب النطاق والسرعة وسيصبح كل شيء واضحًا.  بأن هذا سيغير وسيؤثر على الوضع (العالمي) بطريقة ما “. وهذه وضعية مواجهة فوق استباقيّة. نعم تدرك موسكو أن الاقتصاد الروسي ليس في نفس مستوى الاقتصاد الأمريكي، وهي لا تسعى إلى صدام مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. لكن تلك الإشارات القادمة من موسكو تشير إلى أن روسيا لن تستسلم للمفهوم الأمريكي للسيطرة على العالم. وهي رسائل سياسيّة عبر العسكرة.

وتذهب المواجهة الاستراتيجية إلى ما أشار إليه بوتين من ما دعاه “مخاطر التصعيد الكبيرة في جنوب القوقاز والشرق الأوسط وأفريقيا ومناطق أخرى، حيث يستمر النشاط العسكري لحلف شمال الأطلسي، مستتبعاً ذلك بأنه من الضروري الحفاظ على أسلحة روسيا النووية في حالة استعداد قتالي عالي وتطوير جميع مكونات الثالوث النووي.  فهذا ذو أهمية أساسية لضمان أمن روسيا القومي والحفاظ على التكافؤ الاستراتيجي في العالم، وفي هذا تصعيد من الدرجة الأولى!

وقد ذهب بوتين لترتيب جيوبوليتيكي بالقول: “يجب أن نكون مستعدين للرد في الوقت المناسب على نشر الدول الغربية للصواريخ المماثلة بالقرب من حدودنا.  إذا اضطررنا إلى ذلك، يجب علينا اتخاذ جميع تدابير الاستجابة والقيام بذلك في أقصر وقت ممكن … والتأكيد على أنه فيما يتعلق بالقوى الإستراتيجية، فقد قمنا بالفعل بعمل بحث جاد وتقنية أساسية على قطع من المعدات التي ليس لها نظائر في العالم.”

إنها لغة استباق الصدام بالمواجهة، واستباق الضغط الاقتصادي اللامحدود والعقوبات التي فاقت أيّ حرب باردة بالتلويح بالعُدّة العسكرية.

صحيح أن هذا التلويح لا يعني الاستخدام، لكنه تعبير عن [رد الفعل] الاستراتيجي وتذكير بأن التضييق قد يدفع للاعقلانيّة!

على الضفة الأخرى في واشنطن يبقى السؤال مُلحّاً عما إذا كان التلويح الروسي بالعسكرة سيلقى رداً لاعقلانيّاً مُعسكراً أيضاً أم للمفاوضات أم لكليهما؟

يبقى أن المواجهة-لا الصدام- تلك سترافقها مناوشات هنا وهناك في مناطق النفوذ لكلا الطرفين، وقد تصل إلى تحرّشات وما فوق التحرشات في مناطق التواجد لكليهما. لكن روسيا على الأغلب ستسعى إلى جلب تركيا إلى صفّها، ولو إلى حين، باعتبار الخيار التركي الناتوي استراتيجيّ، باعتبار أن بيدن والدولة العميقة لا يخفيان رغبتهما بقلب نظام الحكم في تركيا وإزاحة إردوغان، ما يعني أن ترتيباً روسياً سريعاً في تموضع تركيا الجواريّ، إذا ما تمّ، سيكون فرصة لنزع بعض أنياب واشنطن- بيدن- الدولة العميقة وتقليص خياراته في الإقليم وتخفيض درجة الاستنزاف المبيّت لموسكو فيها.

الخيار الثاني عملانيّاً (وهو الأول استراتيجيّا) لموسكو هو الرابط الوثيق بينها وبين بيكين بحيث يخوضان معاً الخيار الرد فعليّ؛ لكن سياسة بكين الهادئة إلى حدّ (الصمت الاستراتيجي)، والتي تعتمد على إلهاء واشنطن بالآخرين قد لا تفسح في المجال أمام نوع من التحالف الاستراتيجي (المُواجه والصِداميّ)، إلاّ إذا كانت المواجهة الأمريكية لا تحتمل هذه المناورة بالتلطّي.

يبقى أن تحييد إيران عن هذا الصراع تكتيك مُعلن لإدارة بيدن، بالعودة إلى الاتفاق النووي، مع بعض التفاهمات حول الصواريخ الباليستية (والنقطية في الإقليم) -إن تمّ-، سيكون هدفاً لإدارة بيدن يحتاج إلى ترتيب غير نمطي نظراً لتواجد هذه الدولة الإقليمية في توازٍ مع الروس، في منطقة مُرشّحة لاختبارات القوة بين واشنطن وموسكو!

باختصار 2021 عام ليس هيّناً على الجميع في الإقليم وفي العالم.