الإسلام والإسلاميون والجنس ..

الوطن 24/ إعداد: محمد جبرون
موضوع حوار أجريته مع جريدة الأيام، التي استضافتنا إلى جانب الباحثين عبد الصمد ديالمي ووموليم العروسي، أظنه حوارا مهما، إليكم نصه، تعميما للفائدة، وقراءة ممتعة:
• يشكل موضوع الجنس في علاقته بالإسلام طابو
يتجنب الناس الخوض فيه، مما يشكل تبريرا لعدد من السلوكيات والممارسات المتشددة
البعيدة كل البعد عن الإسلام، لماذا في نظركم؟
– بسم الله الرحمن الرحيم، بداية أشكر جريدة الأيام الأسبوعية على
هذه الفرصة التي أتاحتها لنا للحديث في موضوع يشغل الرأي العام الوطني.
فيما يتعلق بسؤالكم: فإن الجنس لا يشكل طابو بالنسبة للدين الإسلامي مبدئيا، وهذه من القناعات الخاطئة التي يتداولها الكثير من الناس، بل هو نشاط، وممارسة طبيعية، وفطرية، وإنسانية، شأنه شأن باقي الأنشطة الإنسانية من أكل، وشرب… وبهذا الاعتبار، فالإنسان في انتقاله من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة والمجتمع، اضطر لتنظيم أنشطته، والتحكم فيها، وضبطها، بما يحفظ استمرار النوع البشري من جهة، وبما يحفظ استقرار الجماعة، ونظامها من جهة ثانية. لقد كان الناس في القديم يتقاتلون على الطعام، والماء، والعرض (النساء)..
وما من شك أن هذه الضوابط والقوانين التي اخترعها الإنسان لتنظيم نشاطه الطبيعي بما فيه النشاط الجنسي، عرفت تطورات وتحولات لدى كل الأقوام والشعوب والديانات بما فيها المسلمين، حسب الظروف والأحوال، لكن المؤكد أنه لم يكن في يوم من الأيام نشاطا حيوانيا، مُطلقا، لا قيد له.
ومن ثم، فضوابط الممارسة الجنسية في التصور الإسلامي هي ضوابط ثقافية واجتماعية، يعود الكثير منها إلى ما قبل الإسلام، ومتصل بعضها بثقافة العرب والجماعات التي اعتنقت الإسلام بعد انتشاره. والأحكام القرآنية التي تهم الممارسة الجنسية في القرآن على سبيل المثال قليلة، وهذا القليل مرتبط بظروف وحيثيات خاصة معروفة، فالزنى مثلا باعتبارها ممارسة جنسية خارج إطار الزواج بمعناه الثقافي وليس الديني كانت محرمة قبل الإسلام، ولدى الكثير من الشعوب والثقافات غير الإسلامية، وبالتالي فالإسلام في علاقته بالجنس -شأنه شأن الكثير من المعاملات- يتدخل من أجل تخليقه، وجعله أكثر إنسانية، وحفظا لحقوق الإنسان، واستقرار الجماعة وأمنها..
ومن ثم؛ إن كل أشكال الضرر، والاعتداء الجنسي في الإسلام محرمة، كالاغتصاب، والزنى. والتشدد الذي قد نلحظه في هذا الجانب هو تشدد سوسيوثقافي أكثر مما هو تشدد ديني، ولهذا قد تجد الكثير من غير المتدينين متنطعين في قضايا العلاقات بين الجنسين، كما قد تجد الكثير من المجموعات القبلية متشددة في التعاطي مع المخالفات الجنسية، حيث تعاقب المخالفين بالقتل أو النفي… وهكذا يمكن القول إجمالا، أن التشدد والحساسية في تناول قضايا الجنس يرجع إلى موروث ثقافي وتأويل ديني-تاريخي، أكثر مما يعود لأصل الدين، الذي منح الحق مبدئيا للجماعة في تنظيم شؤونها بما يحفظ النوع، ويحقق إنسانيته وأخلاقيته.
• قلتم في حوار سابق مع “الأيام” إن المنظومة الأخلاقية التي تضبط علاقة الرجل بالمرأة، وتضبط سلوك كل منهما، بحاجة إلى مراجعة عميقة، وشجاعة. ما هو سقف هذه المراجعة؟ وهل يمكن أن يمتد إلى إعادة تعريف الحلال والحرام؟
– نعم بحاجة إلى مراجعة هادئة، ومتدرجة، ومعنى هذا أن الكثير من التصرفات التي تعتبر لدى الكثيرين غير مقبولة أو غير أخلاقية، يمكن التسامح معها واعتبارها أمرا مقبولا، ولا حرج فيه، فعلى سبيل المثال، وإلى عهد قريب، كانت تعتبر الأقسام المختلطة بين الذكور والإناث، وعمل المرأة إلى جانب الرجال، وسفر المرأة إلى مدن أو بلدان بعيدة دون محرم… أمورا غير أخلاقية، ومحرمة، لكن اليوم، وبحكم الواقع وتطوراته، أمست تصرفات مقبولة، وانتقلت من دائرة الحرام إلى دائرة الحلال.
ومن ثم، وفي السياق نفسه، فالاستقلالية التي بات يتمتع بها الرجال النساء، وأيضا بسبب النضج والنمو الفرداني في المجتمع، يمكن الاعتراف لكل من المرأة والرجل بحقهما في تقرير مصيرهما الجنسي فيما يتعلق بالاقتران والطلاق، والتخففِ أكثر من ثقل وضغوط العائلة، والقبيلة، والجماعة.. هذا الثقل الذي في العادة يتدثر بدثار الخلق، والأدب، والعادة، أو التقاليد.. بطبيعة الحال، ونحن نقر بهذه الحاجة إلى المراجعة وأفقها، نعترف في الآن نفسه بصعوبتها، وحاجتها للزمن.. وجملة من الشروط الإجتماعية والثقافية والإقتصادية.
إن مفهوم الزواج على سبيل المثال في هذا السياق هو نفسه يمكن أن يتغير، فإذا كان اليوم في المجتمعات التقليدية من قبيل المجتمعات العربية هو طقس مجتمعي-ثقافي، وديني، يضفي الشرعية على العلاقة بين الجنسين، ويتعلق ب«إرادة عامة» تتعدى الثنائي الرجل والمرأة، ولربما دون حاجة لتدخل الدولة والقانون، فإنه اليوم وفي كثير من المجتمعات هو طقس فرداني يهم الثنائي الرجل والمرأة تحديدا، وأخلاقيته، وشرعيته، مرتبطة بضميريهما، وبإعلانيهما، وإرادتيهما.
• “نحن في مرحلة انتقال جنسي من نمط تقليدي إلى نمط حديث”، كما تعتبرون، ما هي التحديات التي يشكلها هذا الانتقال على المنظومة الأخلاقية الإسلامية الموروثة؟
– إن الانتقال الجنسي من النمط التقليدي إلى النمط الحديث يتمثل في عدد من التحولات العميقة، والمختلفة الدرجة من بلد أو منطقة لأخرى، فعلى سبيل المثال لم يعد الرجل بشكل عام في جماعات الرجال صاحب السلطة والقرار الجنسي كما كان الأمر في السابق، بل أمسى الأمر مشتركا، ومتقاسما بين كل من الرجل والمرأة، فالمرأة اليوم لم تعد ملزمة بأدبيات الطاعة الجنسية، والاستجابة لنزوات الرجل إلا بالقدر الذي يلبي حاجاتها وينسجم مع رغباتها ومزاجها، وهذا الأمر يبتعد كثيرا عن ركام من الأدبيات المتوارثة في هذا الجانب.
كما أن الثورة الإستيتيكية والحضارية التي عرفتها الإنسانية خلال القرن العشرين، غيرت من الكثير من العادات والممارسات، فكما أنها حسنت من ظروف الإنسان الغذائية، والصحية، حسنت أيضا ظروفه الجنسية، حيث ابتدعت أشكالا وأنماطا من الممارسة الجنسية، تطرح الكثير من الأسئلة على المنظومة التقليدية، وتطرح سؤال ما يجوز منها وما لا يجوز في علاقة بالقيم.
ونفس الشيء يمكن قوله فيما يتعلق بتدبير الحياة الجنسية، فيما يتعلق باستعمال أدوات منع الحمل، وسياسة الإنجاب، فالكثير من النساء اليوم يرون أن الرجال هم أيضا من المفروض أن يتناولوا عقاقير منع الحمل، ولماذا المرأة هي فقط ملزمة بتناول هذه العقاقير، وتحمل تداعياتها الصحية وأخطارها..
• موضوع الجنس عند الإسلاميين غير متحدث عنه، ودائما ما كان مثار انتقاد في صفوفهم، ما هي في نظركم القضايا التي تحتاج إلى تجديد منهجي وفكري بشكل مستعجل، وتهم أدبيات ومشروع الإسلاميين، في موضوع الجنس والحياة الحميمية؟
– يجب أولا أن نفهم الإطار السوسيو ثقافي للمشكلة الجنسية في هذا الظرف الانتقالي الذي يعيشه المغرب والكثير من البلدان السائرة في طريق التحديث، إنها تتعلق أساسا بتراجع سلطة المجتمع والجماعة على الأفراد، وبالمقابل نمو تدريجي للفردانية، وإحساس متزايد بالذات الفردية كونها ذاتا مستقلة، ومسؤولة عن تصرفاتها، وهو ما يفرز أشكالا وأنواعا من مظاهر التمرد على مقاييس ومعايير المجتمع، وتقاليده الثقافية والدينية..
فالمشكلة -إذا- تتمثل في أن جل ضوابط العلاقة الجنسية هي من وضع الجماعة، وهي التي تفرضها على الفرد، فالزنى مثلا هي وصف وحكم الجماعة على ممارسة جنسية بين فردين خارج معيارية هذه الجماعة، لكن هذا الوصف والحكم يتغير تماما في مجتمع فرداني، ليس للجماعة أو الأعراف (الشرف) سلطة على الأفراد، بل السلطة فقط للقانون، والضمير، ففي هذه الحالة مفهوم الزنى يأخذ أبعادا أخرى، أكثر تعلقا بالفرد منه بالجماعة، ويصبح -في نظري- وصف متعلق بكل ممارسة جنسية لا تحقق الهدي الأخلاقي والإنساني للإسلام، المتمثل في حفظ النسل، والأسرة..
فالإسلاميون من هذه الناحية باعتبارهم يجسدون أو يحاولون تجسيد معيارية الإسلام الصحيحة، يجب أن يدركوا هذه التحولات المجتمعية العميقة والبنيوية التي تعرفها مجتمعاتنا، ويجب أن يدركوا معها أن الموروث الشرعي التقليدي غير قادر على مواكبتها. ومن ثم، يجب أن يطوروا منظومات تربوية تشتغل على ضمير الفرد، المستقل، والمسؤول، وتربي الناشئة على الهدي الأخلاقي المطلق.. وهذا التطور التربوي للإسلاميين في الحقيقة مشروط بتقدم الدراسات الإسلامية التحديثية، والفقه الجديد، الذي للأسف يعاني من صعوبات كثيرة في بلداننا.
• لازالت الحركة الإسلامية في نظر كثيرين متشبثة بأدبياتها التقليدية على مستوى العلاقة بين الجنسين، رغم حصول تحولات اجتماعية وثقافية عميقة في المجتمع، لكنها في المقابل، تستطيع تبرير سلوكيات المنتمين إليها عندما يتم ضبطهم في وضعيات ينهون الناس عنها، كيف يمكن تفسير ذلك؟
– أظن أن هذا الأمر مبالغٌ فيه، فالحركة الإسلامية في عمومها لا زالت تبدي قدرا من الصلابة الأخلاقية في مواجهة أشكال التمرد على المعيارية الأخلاقية التقليدية، وأن الحالات التي وقعت في مخالفات هي في العموم حالات محدودة، لا يمكن تعميمها، كما أنها أيضا وهذا مهم لم يتم تبريرها، ربما التقليل من أهميتها، وهذا صحيح، لكن تبريرها، فبحسب علمي، لا أظن ذلك.
إن المشكلة تتجاوز الحركة الإسلامية إلى المجتمع الذي يقترب شيئا فشيئا من النموذج الإجتماعي الليبرالي، الفرداني، لكن وللأسف دون تطور ثقافي ليبرالي- فرداني، وهو ما يجعل الناس يعيشون أشكالا من التمزق، وأشكالا لا حصر لها من المفارقات القاتلة، والمرضية. وهو ما يقتضي من كل من الفاعلين الثقافيين والدينيين وعلى رأسهم الحركة الإسلامية الابتعاد في التربية والتنشئة عن التربية بالقيم الجماعاتية، وتطبيق استراتيجيات تربوية تنطلق من الفرد/ الضمير وتنتهي إليه، فمعاكسة التطورات التاريخية الاجتماعية الذاهبة باتجاه الفردانية بوعي أو بدون وعي، والتشبث بالتربية على القيم الجماعاتية، سيفقد الأجيال القادمة المرجعيات الأخلاقية الضرورية لضبط الضمير والسلوك الفرداني، وسيُفْقِر التدين الفردي على الصعيد العام، وعلى صعيد المعاملات، وفي المجتمع عموما.