الاختلاف الإسلامي ـ الإسلامي في خدمة الاستبداد السياسي
الوطن 24/ بقلم: نور الدين حاتمي
كيف يمكننا أن نفهم سر هذا الانقسام وهذا الانشطار في الجسم الحركي الإسلامي؟ كيف يمكننا أن نضعه في سياقه “الحقيقي” والواقعي؟ هل يمكن أن نصدق أن هذا الانشطار وهذا التشرذم، إنما مصدره الرغبة في خدمة المشروع الدعوي الإسلامي، كما تزعم بعض النخب؟ لماذا الفُرقة، والإصرار عليها، وما يجمع بين التنظيمات والحركات أكثر مما يُفرق؟ لماذا تتوحد الأولويات ويتم الانقلاب عليها؟ ألم يأمر الإسلامُ العاملين له، والقائمين في “سبيله”، بالوحدة ونبذ الفرقة؟ لماذا تصر الحركات الإسلامية على اعتبار اختلافها اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد؟
يتعلق السؤال هنا، بالأسباب الكامنة وراء هذا الاختلاف، والامعان في الاختلاف، الذي يصل إلى حد التباغض والتبديع والتكفير.
تحاول قيادات الجماعات الإسلامية أن تقنع نفسها أولا، وتقنع غيرها ثانيا، بأن وراء هذا الاختلاف قضايا عقدية وفقهية تحول دون هذه الغاية، التي يتطلع إليها كل العاملين في المجال الدعوي، ولكنهم يسكتون تماما عن العامل السياسي الذي يمنع، فعلا وحقيقة، تحقيق هذه الغاية السامية، فهل صحيح أن هناك اختلافات عقدية وفقهية تصل إلى حد الحيلولة دون توحُد هذه الجماعات “العاملة” للإسلام، على الرغم من أن هذه الوحدة مطلب شرعي وفريضة إسلامية؟
لقد كان الدكتور فتحي يكن، وهو للإشارة واحد من أهم وأعظم الشخصيات الإسلامية التي ساهمت بشكل كبير في التنظير للعمل الإسلامي، وغطت أعماله جل القضايا والإشكالات، التي همت العمل الدعوي في القرن العشرين، كما كان شأن جل المنظرين والمفكرين “الكبار” في ذلك الوقت، أقول لقد كان “فتحي يكن” واعيا بخطورة هذا الانقسام وهذا الانشطار، وواعيا أيضا بخطورته على هذا المجال، ولذلك، ولكون الدكتور فتحي طبيبا، فقد اعتبر هذا الانقسام” إيدزا” وحذر منه غاية التحذير، في كتابه “احذروا الإيدز الحركي”
والحق أن التحذير من فتنة هذه الافة، ومن مخاطر هذا المرض، الذي أطلق عليه المرحوم فتحي يكن “الايدز الحركي” من واجبات الدين، حيث يأمر جماعته بالوحدة، والتمسك بما من شأنه ان يجمع ويوحد، والابتعاد، بالمقابل، ما أمكن، عما من شأنه ان يفرق ويشتت، حتى أنه أجاز التخلي عن بعض السنن والمندوبات قصد الحفاظ على وحدة الصف، غير أنه، وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الجسم الإسلامي منقسم على نفسه، مشتت ومفتت، وما هو كذلك في كبير، وإنما هي الأهواء والرغبات والمصالح.
كيف نفسر عمق الأزمة بين جماعة “الإخوان” وباقي الفصائل الإسلامية “السلفية” المتناثرة في الساحة؟ إن المبررات التي تقدمها الجماعات السلفية، بكل عناوينها و الوانها، لهذا الحقد الدفين القائم بينها و بين جماعة “الاخوان” مثلا، لا يمكن الاعتراف بها ولا اعتبارها، فقول “السلفية” مثلا أن جماعة “الاخوان” غيرت الدين، وابتدعت فيه ما ليس منه، وأنها طائفة “بدعية”ـ حسب تعبيرها ـ مجرد دعوى تحتاج إلى دليل، وهي لا تأتي عليه إلا في معرض التشهير والافتراء والتهويل، ونشر “المغالطة” لتضليل الناس وصرفهم عن تلك الجماعة، وهذه الاعتبارات التي توردها جماعات “السلفية” في معرض مناجزتها و منازلتها لغيرها، لا محل لها، عند التحقيق و الفحص، في الشرع ولا قيمة.
تقول جماعات “السلفية” أن “الإخوان” مبتدعة ضالون لأن عقيدتهم “أشعرية” وسلوكهم “صوفي” وهذا ما يعترف به الإخوان أنفسهم ولا ينكرونه. ولكن هل كونهم “اشاعرة” يقوم مبررا للبراءة منهم والتحريض عليهم، والتشفي فيهم بما يلقونه من العنت والشدة؟ أليس الأشاعرة هم أغلب جمهور علماء المسلمين وشيوخهم؟ بل هم أغلب المسلمين؟ أليس الزعم أن معتقد “السلفية” هو معتقد الجيل الاول، المؤسس، محل نزاع، وأنه ليس مسلما لهم بذلك القول والمذهب؟
إنه مما لا شك فيه أن مذهب “السلفية” في العقيدة لا يسنده دليل واضح وصريح، تماما، كما هو مذهب غيرهم من السادة “الاشاعرة” وأن ما هو محل نزاع ونقاش، مما هو ملتبس، كان من نوع “المسكوت عنه” في “فجر الإسلام” وأنه لم يُنقل عن الرسول “ص” ما يفصل القول فيه ويرفع الخلاف، بل إن “الأشعرية” اليوم، لم تعد كما كانت بالأمس، وأنها تحولت إلى “سلفية” كما لا حظ بحق الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله، وأن “السلفية” اليوم، ليس لها من الحق في الاتصاف بهذا اللقب، إلا مثل الذي للأشاعرة. وهل ينهض كونهم “صوفية” دليلا شرعيا يجعل العداوة والبغضاء، والتآمر عليهم مسألة مشروعة ومبررة؟ أليس للتصوف، من الحق، من الناحية الشرعية مثل الذي لغيره؟ أليس الصوفية أيضا لهم قدر ونصيب من السلف، وأنهم “سلفية” بمعنى ما وبمفهوم ما. ألم يقولوا أن التصوف، عند التحقيق و التدقيق، ليس إلا تخلية و تحلية و تجلية كما قال الشاطبي رحمة الله عليه، وأنه يكاد يطابق مفهوم “الإحسان” كما في الحديث؟
واضح إذن، أن الزعم أن جماعة “الإخوان” أشاعرة و “صوفية” لا يمكن اعتباره مبررا شرعيا لهذا الانقسام. ويقولون ايضا أن تلك الجماعة تشارك في الإضرابات والمظاهرات وهي من “مبتدعات” الغرب، ولم يسبق للجيل المؤسس: الرسول “ص” والصحابة، أن انخرطوا فيها أو شاركوا فيها، وهم ـ بالتالي ـ ينطبق عليهم قوله ص “من تشبه بقوم فهو منهم”، وأنهم يقولون “بالديمقراطية” الصنم، وواضح ما فيها من الشرك والكفر. الامر الذي يجعلهم على حافة الردة إن لم يكونوا مرتدين فعلا.
والغريب في الأمر، أنهم يروجون للأتباع ان هذه القضايا من المقطوع به، ومن المعلوم من الدين بالضرورة، أي ما لا يسع أحدا جهله، ويعلم كل من أوتي مسكة من عقل، أن هذا غير كائن وغير حاصل، حيث أن هذه القضايا غير مقطوع بشأنها، وأنها ليست معلوما من الدين بالضرورة، وأنى لها أن تكون كذلك؟ وهي من المسائل التي لم يتوقف النقاش حولها، ولم يرفع النزاع في شأنها، منذ شُرع في الخوض فيها والكلام في موضوعها، وهي لا تزال مزاوجة بينها وبين الالتباس والغموض. وإذا كان الخلاف بشأنها، قائما بين “اهل العلم” فكيف يصح أن يُلزم به “عوام المسلمين” ومن هم من جملة المقلدة؟
وإذا كان الأمر بين جماعة “الإخوان” وغيرهم من “المتسلفة” على هذا القدر من الوضوح، أي أن النزاع بينهم ليس إلا نزاعا مفتعلا وصداما “مفبركا”، فلننظر الآن إلى الخصومة القائمة بين جماعات “السلفية” نفسها، اي بين “السلفية الجهادية” ونظيرتها من “السلفية العلمية”، فغني عن البيان هنا القول أن ما يجمع بين جماعات “السلفية” أكثر بكثير مما يفرق، فهي تمتح من نفس الأصول، ومن نفس المرجعيات والأدبيات: مصادر عقيدتها واحدة، ومصادر “مذهبها” الفقهي واحدة، ومصادر اختياراتها أيضا، واحدة، فما الذي يفسر هذه العداوة و هذا الخصام؟
إن الذي يُخالف بينها، حقيقة، هو الاعتبار السياسي، ليس غير. تتفق جل التنظيمات “السلفية” الجهادية وغيرها في جل القضايا “العقدية” و”الفقهية” ولكنها تختلف في الموقف من الحكام: الرؤساء والملوك، الذين لا يحكمون بالشريعة الإسلامية، فحيث تعتبرهم “السلفية الجهادية” طواغيت مرتدين يجب الخروج عليهم و الإطاحة بهم، لأن البيعة لهم تعتبر باطلة ولاغية بمجرد ردتهم، كما يقول الفقهاء، تجتهد “السلفيات” الاخرى في عدم التورط في هذا الحكم الخطير، وتبحث عن شواهد وحجج وأدلة تحلها من هذا الحكم و تنجيها من تبعاته، وهي تبذل قصارى وسعها، وتجتهد ما أمكنها الاجتهاد، حتى تبقى على صلة طيبة مع الأنظمة، و حتى تظل قريبة منها وتستحق نوالها وعطاءها، و”الإرجاء” على أية حال، ليس إلا دينا يعجب الملوك كما يقول البعض، والخلاف الدائر بينه وبين من يطلق عليهم “اهل السنة والجماعة” حول مسمى “الإيمان” ليس إلا خلافا سياسيا، حتى وإن تدثر بلباس الدين، آية ذلك أن تصور “أهل السنة والجماعة” للإيمان يتعارض مع رغبات السلطة ورجال الدولة، في حين أن تصور “خصومهم” له، أي للإيمان، يخدم ذوي السلطان والملحقين بهم، إذ إدخال العمل في الإيمان ـ كشرط صحة وشرط كمال ـ يُضيّق على الناس بضبطهم، وإخراجه منه، وجعله مجرد شرط كمال، يحررهم منه و يفلتهم من قبضته.
واضح أيضا، أن سر هذا الصدام يكمن في السياسة، وليس في الدين، إذ حين تنتج الجماعات “الجهادية” فتاوى خارج السلطة وضدا عليها، تنتج الأخرى فتاوى أخرى من أجل السلطة وخدمة لها، وحين تناور الواحدة من تلك الجماعات خارج رغبات السلطة تفعل، الاخرى عكسها فتفسد عليها خطتها. وحتى تتضح الصورة، نضرب هذا المثل، فحين تقرر جماعات “الإخوان” الخروج في مسيرات احتجاجية: إما تنديدا بممارسة قمعية من الدولة، وإما دعما لقضية عادلة للمسلمين، وتعتبر الخروج في تلك المسيرات لونا من ألوان الجهاد بمعناه العام والشامل، تعمد الأخرى إلى التشكيك في مشروعية هذه الخرجات، بحسبانها تقليدا للغرب ونقلا لأعماله التي نهى الشرع عنها. ولا تستفيد من هذا إلا السلطة، وذلك بعد أن كانت جموع “الإسلاميين” ستظهر في شكل كبير يسر المؤمنين ويغيظ خصومهم، يخرجون قلائل فتنكسر شوكتهم، ويبدو حجمهم باهتا لا وزن له ولا تأثير.
ثم خذ مثلا غيره: قضية التمرد على الأنظمة والخروج عليها، فحين تخرج طائفة ما من طوائف “الإسلاميين”، بدعوى أن الأنظمة خائنة و”مرتدة”، وتسوق لدعم رؤيتها، وتجييش الناس عليها، عددا من النصوص والشواهد، تنهض غيرها لتفعل الشيء ذاته، ولكن بالمقلوب، فتأتي، ايضا، بالشواهد على بطلان رأي الأولى، وإثبات “إسلامية” الدول و “شرعية” الانظمة، وما ذاك إلا لتفت في عضد الأولى وتفسد عليها خطتها، ولا يستفيد، أيضا، من هذا الفعل إلا السلطة.
ننهض من هذا الكلام كله، للقول أن تفتت الحركات “الإسلامية” و تشتتها، وعسر وحدتها، إنما يجد تفسيره في السياسة، وقد سجل الدكتور” فتحي يكن” في كتابه السالف ذكره “احذروا الإيدز الحركي” من الأسباب التي تمنع هذه الوحدة المنشودة وتكرس حالة التشرذم والانقسام، واعتبر من أكثرها، اللهث “وراء الغنائم” و”اللهث وراء السلطة والحرص على بلوغ مراكز القوى” و”الارتهان الخارجي” الذي يفقدها استقلالها، ويجعلها أسيرة في أيدي الجهات الممولة التي تدفع لها مقابل خدمات ترجوها منها، و”الاختراق الخارجي”.
إذن، الأسباب الحقيقية وراء هذا التشتت ليس كما يزعم قياديو الجماعات، اي لا يعود إلى اختلاف الرؤى والأفكار والبرامج كما يقولون. من يدفع إذن، ومن يصنع ومن يخترق، هم من يقف وراء الستارة لصناعة مستقبل تلك الجماعات والتنظيمات، وهم من يختبئ وراء الكواليس، لتسيير تلك الجماعات وفق الرؤية، ووفق الاستراتيجية المرسومة، وأولئك الذين يتحكمون ويترأسون، حقيقة، إنما يقدرون على ذلك عبر استغلال الأطماع، التي تتربص بها تلك القيادات وتحرص، أي الحصول على الغنائم وتحقيق المصالح المادية الرخيصة، وهي وحدها تفسر لنا حرص كل واحد منهم على التمسك بكونه قائدا وزعيما، وامتناعه عن التواضع والتخلي عن الألقاب، طمعا فيما عند الله، وخضوعا لأمره كما أوصى الله وأمر رسوله.