الحد الذي وصله التقاطب بين الحداثيين والمحافظين، لايبشر بخير.

الوطن 24/ بقلم: مصطفى الحسناوي – السويد-.

لا أتحدث عن حق كل طرف، في اختيار مايراه صالحا ومناسبا، ولا في التعبير عن ذلك الاختيار، والدفاع والمحاججة عنه، وإبطال اختيار الطرف الآخر… حديثي عن احتقار الآخر واستصغاره، ووصمه واتهامه، وممارسة شتى أنواع العنف اللفظي تجاهه.

الذين يتخيلون أنهم يمثلون المجتمع، أو ينصبون أنفسهم ناطقين باسمه، مخطئون واهمون، إن لم نقل أنهم مفتئتون.

المجتمع المغربي عبارة عن قِدْرٍ يغلي، وبحر يموج، تعرض لعمليات نحت ومسخ وتغيير وتشكيل وتطور… ساهم فيها عامل الزمن والعمل الممنهج والاحتكاك… متأثرا بأيديولوجيات الشرق والغرب، ولا أحد من حقه الادعاء أنه يمثله كله، أو يرفع عرائض أو مطالب باسمه، ومن أراد أن يفعل ذلك فليفعل باسم فئته وطائفته وحزبه وأقليته، وأبناء قبيلته الأيديولوجية. لكن ينبغي فعل ذلك، ضمن الحد الأدنى من احترام الآخرين، ومراعاة وجودهم.

ليس ثمة في مجتمعنا إجماع على أي شيء، إلا من عبارات عامة وشعارات فضفاضة وأفكار متناثرة ومطالب هلامية، لكن عند التفصيل سنكتشف أننا مجتمعات متعددة وليس مجتمعا واحدا، وأننا طوائف وفرق قددا، وجدت نفسها في وطن واحد بالصدفة، وجمعها نظام سياسي واحد بالقهر. فلماذا لا ندبر خلافاتنا باحترام وعقلانية، بعيدا عن عنتريات الإرغام والفرض والسيطرة والإقصاء؟

عند كل جدل تثيره هذه القضية أو تلك، ينبري كل طرف، لحماية المجتمع من الدخلاء، على اعتبار أنه هو ممثل المجتمع والآخرين دخلاء، ولو فصل القول في دعواه، وبسط مشروعه ومطالبه، لوجد المعارضة الشرسة من أقرب المقربين منه، وممن يعتبرهم موافقين لطرحه. ثم ليته اكتفى بالتعبير عن رأيه، بأدب واحترام، محافظا على هامش النسبية والإعذار، كلا بل يفعل ذلك متسلحا بترسانة من ألفاظ التنقيص والتحقير والسب والشتم والوصم والتهديد والوعيد…

قلما تجد إسلاميا يتحدث مع المخالف له، دون استصحاب مفردات ومصطلحات وقاموس البراء والمفاصلة والفضح على رؤوس الأشهاد…، بطريقة توحي أنه يصفي حسابات شخصية، متجاهلا أن لتلك المفردات سياقات مختلفة. فتجده يقحم عبارات من قبيل، عدو الله، الرويبضة، التافه، الجاهل، تحارب الله ورسوله، تحارب الإسلام، عميل… متناسيا ومتجاهلا كل التعليمات والأوامر والنواهي والأخلاق، التي تلزمه بالتراحم والعذر والقول الحسن والصبر….

كما تجد الحداثي العلماني، كلما دخل في نقاش مع إسلامي أو محافظ، أو أثيرت قضية ما للنقاش، إلا وتخلى عن كل شعاراته والمبادئ التي يعلنها، من احترام الرأي المخالف، والدعوة للتعددية، وحرية الرأي وحرية التعبير، والتحاكم إلى إرادة الشعب والجماهير، واحترام معتقدات الناس واختياراتهم الدينية، وتدبير الخلاف عن طريق الصناديق…. فيتحول الحداثي إلى داعشي، يريد القضاء على كل من خالفه، وسجن كل من عارضه، وإخراس لسانه وكتم أنفاسه وإرساله إلى الجحيم، تحت مسميات واتهامات وتصنيفات سرعان مايخرجها من حقيبته، ويقذفها في وجه مخالفه، من قبيل الداعشي والظلامي والإرهابي والمتطرف والمنغلق والمتخلف والإسلاموي وتاجر الدين…

الغريب أن هذا التراشق، يأتي في معرض النقاش والدعوة والحوار والجدال والمناظرة… وليس في ساحة حرب تمايزت فيها الصفوف، وتقابلت الجيوش. الكل يتحدث باسم الشعب المغربي السني المسلم، أو الشعب المغربي الحداثي المنفتح المتحرر. ولا نحن مجتمع مسلم سني محافظ، يحكمه خليفة المسلمين وولاته وقضاته ودواوينه، يخشى عليه من أي اختراق. ولا نحن مجتمع علماني متحرر، تحكمه العلمانية ومؤسساتها وأجهزتها، يخشى عليه سريان الدين في شريانه.

نحن مجتمع مركب معقد متناقض، فيه من المحافظة والتدين، مايجعلك تعتقد أننا في دولة إسلامية، وفيه من التحلل والانفلات والطوائف والاختيارات والإلحاد والعلمانية والأحمدية والتشيع والمسيحية واليهودية والديمقراطية والشيوعية والفساد والاستبداد، والسلفية والطرقية والتسنن والشعوذة والعروبة والفرانكفونية والتأمزغ…. مايجعلك تحتار في تصنيفه.

فليكف كل واحد على تقديم نفسه أنه المتحدث باسم المجتمع، وليكف كل طرف عن استعمال أساليب الشيطنة والضرب تحت الحزام، وليكف كل طرف عن الاعتقاد أنه سيمحو خصومه من الوجود، في النهاية لا أحد سيربح، وقضايانا المصيرية ورهاناتنا ستتعثر وتتأجل، وسندفع كلنا ثمن ذلك. سبب هذا الكلام ماجاء في مقال الدكتور الريسوني، من عبارة نشاز شاردة، أكدت بعضا مما قلته آنفا، في سياق كلامه المنطقي والمعقول وحقه في التعبير المضمون والمكفول، وهذا الأسلوب في السخرية والتحقير، الذي أورده الدكتور في مقاله، يعتقد الكثير من الإسلاميين أنه مفحم للخصم، مسكت له قاض عليه، في حين هو أسلوب مستفز يدغدغ عواطف الأتباع فقط، ويشبع رغبتهم في الانتقام، ويبني أسوارا عالية بين المخالف، ويشوش على الفكرة الرئيسية، بالإضافة أنه سهل النقد والنقض والهدم.

فما استدل به الريسوني من أن القبيحات هن اللواتي يلجأن لمثل هذا النضال، بعد أن يفوتهن قطار المتعة الجنسية المحرمة منها والحلال، يمكن الرد عليه بنشر صورة لجميلات فاتنات تمارسن نفس النضال وترفعن نفس المطالب، وهن كثيرات بالمناسبة.

بالمقابل لم يكد حبر مقال الريسوني أن يجف، حتى توالت المقالات والتدوينات من الصف العلماني، منددة مستنكرة، متوعدة مهددة، مستعملة مصطلحات التصنيف والترهيب والوصم، التي أسلفنا ذكرها.

فمتى يتوقف هذا الشحن المتواصل، ونعترف أننا كلنا أقليات وسط مجتمعات متعددة تعاني القهر، وليس مجتمعا واحدا يعيش في وضع سوي؟