الحركة الإسلامية بين منطق الإصلاح ووظيفة الاحتواء السياسي.

الوطن24/الحيداوي عبد الفتاح
المقدمة: الدولة ومأزق المشاركة الإسلامية
منذ مطلع الألفية الثالثة، اندفعت بعض الحركات الإسلامية نحو خيار المشاركة السياسية باعتباره مدخلًا لتحقيق الإصلاح التدريجي من داخل مؤسسات الدولة. إلا أن التجربة أثبتت أن الانتقال من منطق “الدعوة” إلى منطق “الحكم” في أنظمة ذات طابع مخزني، كما هو الحال في المغرب، ليس مجرد انتقال في الأدوات، بل هو تحول جذري في الوظيفة والهوية. فالدولة، بما هي بنية قوة مادية ورمزية، لا تتيح للفاعل السياسي الإسلامي أن يحقق مشروعه الأصلي، بل تعمل على إدماجه ضمن آليات إعادة إنتاج النظام القائم، من خلال ما يسميه البعض بـ”الاحتواء السياسي”
بهذا المعنى، تصبح المشاركة السياسية للحركات الإسلامية ضربًا من المغامرة التي تؤدي إلى فقدان الشرعية الدعوية دون أن تحقق السيطرة السياسية الفعلية. وتُعد تجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب، خصوصًا مع عبد الإله بنكيران، من أبرز الأمثلة على هذا المأزق البنيوي.
أولًا: من منطق الدعوة إلى منطق الدولة: أزمة تحول المشروع الإسلامي
تأسست الحركات الإسلامية، وفقًا لهويتها التأسيسية، كقوى إصلاحية تسعى إلى إعادة صياغة النظام السياسي والاجتماعي وفق منظومة قيمية دينية.غير أن المشاركة في نظم مخزنية يجعلها مضطرة إلى “التكيف” مع منطق الدولة الذي يقوم على ممارسات تناقض الأهداف الأصلية للحركة.
وبالرجوع إلى التجربة المغربية، نجد أن العدالة والتنمية قد مر بثلاث مراحل رئيسية:
– مرحلة الدعوة الإصلاحية (قبل الانخراط السياسي الفعلي.
– مرحلة الدمج السياسي الناعم نهاية التسعينات.
– مرحلة التحول إلى أداة استقرار للنظام (بعد انتخابات 2011.
هذا التحول لم يكن خيارًا حرًا للحركة، بل نتيجة ضغط بنية الدولة المخزنية، حيث يشكل “المخزن” نموذجًا للدولة العميقة التي تدير الحقل السياسي بمنطق الضبط والسيطرة.
ثانيًا: بنكيران بين خطاب المعارضة وممارسة الترويض السياسي
يُعد عبد الإله بنكيران من أبرز الفاعلين السياسيين في المغرب خلال العقد الأخير، وقد تميزت تجربته بمفارقة جوهرية بين الخطاب والممارسة. فمن جهة، تبنّى بنكيران خطابًا شعبويًا ينتقد “التحكم” ويدافع عن “إرادة الشعب”، ومن جهة أخرى، برهن خلال تجربته في رئاسة الحكومة (2011-2017) على قابلية عالية للتكيّف مع البنية المخزنية القائمة، مما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة دوره: هل كان فاعلًا تغييريًا أم مجرد وسيط داخل منظومة الترويض السياسي؟
1. حدود السلطة التنفيذية: بين الموقع والصلاحية
رغم توليه منصب رئيس الحكومة في سياق الربيع العربي وتبني المغرب لدستور جديد عام 2011، أظهرت تجربة بنكيران أن السلطة التنفيذية في المغرب ما تزال محدودة بحدود الثوابت الدستورية غير المكتوبة، وعلى رأسها استمرار هيمنة المؤسسة الملكية على الملفات السيادية (الدفاع، الأمن، التعيينات الكبرى…). وعليه، فإن بنكيران، رغم رمزية منصبه، لم يكن يملك أدوات الفعل الاستراتيجي الكامل، بل كان يتحرك ضمن هوامش مقيدة سلفًا. وهذا ما يتوافق مع مقاربة دانيال برومبرغ التي تصف بعض الأنظمة بـ”التحول المشروط” حيث تُمنح النخب المنتخبة سلطات جزئية تحت رقابة محكمة.
2. استعادة القيادة: تعبير عن أزمة الحزب أم عن قوته؟
بعد إعفائه من تشكيل الحكومة سنة 2017، ثم تهميشه سياسيًا، عاد بنكيران إلى قيادة حزب العدالة والتنمية سنة 2025. غير أن هذه العودة لم تكن نتيجة حراك سياسي داخلي ديمقراطي يعكس دينامية في التداول القيادي، بل جاءت في سياق فراغ في البدائل التنظيمية، ما يعكس أزمة بنيوية داخل الحزب، تؤكد اختزال المشروع السياسي للحزب في شخص بنكيران، وهو ما يقوّض الرهانات المؤسساتية لأي حزب يُفترض فيه أن يبني شرعيته على البرامج لا الأشخاص.
3. بين غرامشي ومكيافيلي: أي نموذج يمكن إسقاطه على بنكيران؟
لفهم موقع بنكيران من زاوية نظرية، يمكن الاستعانة بثنائية أنطونيو غرامشي ونيقولا مكيافيلي. فغرامشي يتحدث عن “المثقف العضوي” القادر على بناء تحالفات طبقية وتغيير الهيمنة الثقافية عبر “حرب المواقع”، وهو ما لا ينطبق على بنكيران، الذي لم يُقدّم مشروعًا بنيويًا بديلًا، بل تعامل مع الواقع القائم كما هو. بالمقابل، يبدو أقرب إلى مكيافيلي في كتاب الأمير، حيث السياسي الناجح هو من يحسن قراءة موازين القوى ويعرف متى يتراجع ومتى يناور. بنكيران مثّل هذا النموذج بامتياز؛ فقد تبنّى خطابًا جذّابًا لكنه لم يصطدم جوهريًا بالبنية العميقة للنظام السياسي المغربي، بل حافظ على استمرارية النسق، وساهم – بطريقة أو بأخرى – في ترويض جزء من مطالب الشارع بعد 2011.
تجربة عبد الإله بنكيران تكشف عن حدود الفعل السياسي ، حيث يُمنح الفاعل السياسي هامشًا للتحرك مقابل قبوله بقواعد اللعبة. وبقدر ما أظهر بنكيران مهارات في التكيّف والخطابة والوساطة، فإن تجربته تؤكد أن الخطاب الشعبوي، ما لم يكن متبوعًا بمشروع تغييري حقيقي، ينقلب إلى أداة لإعادة إنتاج الاستقرار، لا لتقويضه
ثالثًا الأحزاب السياسية في المغرب: بين الوظيفية المخزنية وتآكل الفعل السياسي الحقيقي
يُطرح سؤال جوهري في السياق المغربي: هل توجد حياة حزبية حقيقية؟ ويقود هذا السؤال إلى مناقشة أعمق حول طبيعة النظام السياسي المغربي، الذي يُختزل غالبًا في مفهوم “المخزن” — كجهاز سلطوي مركزي يحتكر القرار ويدير الحقل السياسي وفق منطق الضبط والتوجيه لا وفق منطق التعددية الديمقراطية الحقيقية.
يُظهر تحليل المشهد الحزبي في المغرب أن هناك صنفين رئيسيين من الأحزاب:
- أحزاب مخزنية بالنشأة: وهي تلك التي أُسست بقرار مباشر أو غير مباشر من السلطة، بغرض ملء الفراغات السياسية، أو لتقويض قوى المعارضة التاريخية (كما حدث مع حزب الأصالة والمعاصرة)، وهي تؤدي وظيفة مزدوجة: أولاً، شرعنة النظام من خلال تقديم واجهة ديمقراطية شكلية؛ وثانيًا، احتواء المطالب الاجتماعية والسياسية ضمن قنوات يمكن التحكم فيها.
- أحزاب تمّت “مخزنتها” تدريجيًا: وهي الأحزاب التي نشأت في الأصل كقوى معارضة أو إصلاحية، لكنها انزلقت تدريجيًا إلى دائرة الترويض السياسي، بفعل دينامية “الاحتواء الناعم” التي يُتقنها المخزن. أوضح مثال على ذلك هو حزب العدالة والتنمية، الذي دخل الحياة السياسية بشعار الإصلاح من الداخل، لكنه تحوّل خلال عقدين من الزمن إلى فاعل مهادن يكرّس الاستقرار السياسي أكثر مما يعارض أو يصوغ بدائل حقيقية.
هذا الترويض التدريجي للأحزاب يتم عبر آليات متعددة، منها:
- الإدماج المؤسسي: عبر تمكين الأحزاب من الوصول إلى مواقع تدبيرية، ما يربط مصالحها بمصالح الدولة العميقة.
- الإفراغ البرامجي: حيث تفقد الأحزاب تدريجيًا وضوحها الإيديولوجي، وتذوب داخل سردية الدولة.
- التحكم الانتخابي: من خلال قوانين انتخابية وهندسة حزبية تُصمم لضمان عدم ظهور قوى سياسية ذات وزن مستقل أو شعبية تهدد التوازن القائم.
في ظل هذه الدينامية، تصبح الدعوات إلى تجديد القيادات أو تأسيس أحزاب جديدة مجرّد محاولات شكلية لا تمس جوهر الإشكال. ذلك أن أصل الأزمة لا يكمن في الأشخاص أو الهياكل التنظيمية، بل في طبيعة النظام السياسي نفسه، الذي يفرغ الفعل الحزبي من محتواه عبر الاحتواء والتدجين، ويمنع بروز تعددية سياسية حقيقية.
ومن ثمة، فإن غياب حياة حزبية فعلية في المغرب ليس نتيجة ضعف الأحزاب فحسب، بل نتيجة هيمنة بنيوية لنظام سياسي يُعيد إنتاج نفسه من خلال أحزاب تُستعمل كوسائل تأثيث لمشهد ديمقراطي موجه، أكثر مما تُسهم في مأسسة ديمقراطية فعلية.
الخاتمة
تُجسد تجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب واحدة من أبرز المفارقات التي تعانيها الحركات الإسلامية المعاصرة عند انخراطها في العمل السياسي فبقدر ما تسعى هذه الحركات إلى تحقيق التغيير من داخل المؤسسات، تجد نفسها مضطرة إلى تقديم تنازلات استراتيجية تمس جوهر هويتها الدعوية والأخلاقية، مما يؤدي إلى تآكل مشروعها الإصلاحي من الداخل.
لقد كشفت المشاركة السياسية لحركة ذات مرجعية إسلامية، مثل العدالة والتنمية، عن معضلة مزدوجة:
- فقدان الهوية الدعوية والتربوية:
فالدخول إلى مؤسسات الدولة، بما فيها البرلمان والحكومة، يفرض على الفاعل الإسلامي أن يتحول من حامل لمشروع دعوي تغييري طويل الأمد إلى مجرد فاعل سياسي محكوم بمنطق التحالفات، والتوازنات، والاعتبارات البراغماتية. وهو ما أدى إلى تراجع الخطاب القيمي والبعد الأخلاقي لصالح خطاب تبريري يُراعي الواقع أكثر مما يسعى إلى تغييره. وقد فقد الحزب بمرور الوقت قوته التعبوية وقدرته على التأطير المجتمعي، بعدما اختزل العمل الإسلامي في آليات حكومية محدودة الصلاحيات. - الإخفاق السياسي والتكتيكي:
لم يكن الفشل في تحقيق اختراق سياسي حقيقي نابعًا فقط من شراسة المنظومة المخزنية، بل أيضًا من محدودية رؤية الحزب في إدارة معركته السياسية. إذ اختار التكيف مع منطق الدولة بدل مواجهته أو حتى التفاوض الجاد على هامش إصلاح مؤسسي حقيقي. ومع الوقت، انكشف أن المشاركة لم تكن وسيلة للتمكين، بل وسيلة للاستهلاك والتآكل، انتهت بسقوط مدوٍ في انتخابات 2021، شكّل حكمًا شعبيًا على مسار فقد البوصلة الدعوية والسياسية في آن واحد.
وهنا يظهر التحدي الأكبر الذي تواجهه الحركات الإسلامية التي تلج العمل السياسي من دون امتلاك رؤية واضحة للحدود الفاصلة بين ما هو دعوي وتربوي وما هو سياسي تكتيكي؛ فالدعوة تقوم على بناء الإنسان وتوجيه المجتمع، بينما السياسة داخل النظم السلطوية تقوم على التنازلات وتدبير الممكن. وعندما تذوب الدعوة في السياسة، تفقد الحركة تميزها القيمي، وحين لا تنجح في السياسة، تخسر ثقة المجتمع. فيكون الحصاد مزدوجًا: فشل في التأثير، وخسارة في القاعدة.
وعليه، فإن هذه التجربة تُبرز ضرورة مراجعة عميقة لمسارات المشاركة السياسية للحركات الإسلامية، وتفكيك مفاهيم “التمكين من الداخل” و”التدرج الإصلاحي”، وإعادة بناء استراتيجية نضالية تراعي خصوصية السياقات السلطوية، وتجمع بين الاستقلالية الأخلاقية والفعالية السياسية، دون التفريط في روح المشروع الدعوي.