الحوار مقياس النضج الإنساني في تدبير الإختلاف والحفاظ على المكتسب

الوطـن 24/ محمد عسيلة*

 

نحو تأسيس إسلامي سليم لثقافة الحوار

أدب الحوار عنصر من عناصر السمو الإنساني المستحق، كثيرا ما نتساءل عن غيابه في العلاقات الإنسانية، كما نتساءل عن هذا الميل غير المفهوم إلى تحويل المواضيع من أرضيات للتواصل والتفاهم، إلى قضايا للصراع و”حلبة للملاكمة” يضيع فيها الحوار وتُحجب المعاني وتُغير مقاصد الحديث.

لقد خلق الله تعالى الإنسان وجعل له من وسائل الحوارأسبابا تسعفه في الإفهام والإستدلال، ومكنه من مدارك تلبي فيه الحاجة إلى الإقناع والحِجاج، فلماذا نخسرربح المعنى مع ما حبانا الله تعالى من تميز عن باقي ما خلق بالخطاب وباللسان؟ ثم أليست لنا في القرآن الكريم آيات وحِكم ومواعظ لا تعد ولا تحصى، تبصرنا بالمنهج وترشدنا إلى أدب الحوار؟ لقد عرض القرآن الكريم في محكم تنزيله أمثلة للإستهداء والإقتفاء، وقصصا للإعتبار، في بعضها دلائل لأساليب الحواروكيفياته وآدابه، ومن الصور الحوارية الإرشادية في القرآن الكريم، ما جاء في مساءلة الله تعالى للشيطان عن سبب رفضه وعدم امتثاله لقضائه وأمره الرباني، مع أن أمر الله لا يقبل الجدل، ومع أن جواب الشيطان لم يكن ليزيد في علم الله شيئا حتى إن سأله عن دوافع عدم الإمتثال في قوله عز وجل: “ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك” فعلم الله وسع كل شيء. الآية كما يبدو والله أعلم، تكشف عن تلكم القيمة الكبيرة التي يختزنها الحوار، والتي تتعلق بإثبات وتحمل المسؤوليات، وإظهار الأدوار وإشباع نهم الإستفهام وكشف المبهم الخفي من الكلام، حتى إن تعلق الأمر بمخالفة في مستوى العصيان الشيطاني للخالق المتعالي.

وفي موقف حواري آخر سطره الله تعالى في القرآن الكريم تسطيرا شافيا كافيا، يكلف نبيه موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون الذي ادعى الألوهية، فالله تعالى لم يترك موسى عليه السلام على الهوى والسجية التي قد لا تحتمل موقف الاستعلاء الذي أبداه فرعون المتأله، ولذلك مكنه من طرق الحوار على نحو راق عكسه توجيه الله عز وجل: “فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى”.

وهنا أمر صريح بالتلطف مع فرعون الذي حاج الله في الربوبية ونازعه فيها، في قول صارخ ودنيء في آن، فرعون الذي قتل أبناء بني إسرائيل واستحيا نساءهم، إمعانا في إثبات ربوبية مزعومة تنازع الله عز وجل في ملكه وعظمته. فمن خلال القول اللين الحكيم المبني على الحجة يستطيع كليم الله من استصغار طاغية متجبر متأله عن طريق حوار يلتزم أدب المقارعة والحجاج، رغم ثقل المهمة على النفس، كما بين ذلك القرآن الكريم.

والسنة المطهرة ترسخ هذه التوجيهات القرآنية أيضا، والرسول صلى الله عليه وسلم بما هو أسوة حسنة، كما جاء في القرآن الكريم، استخدم الحوار ووظفه في أعلى مقاييس الحكمة والسداد، مع الكفار والمنافقين والمعادين للرسالة الربانية؛ استعمله مع المسلم والكافر ومع الرجل والمرأة، ولم يحد عنه مع الشيوخ والأطفال، ولا مع الأغنياء ولا الفقراء، كان صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في أخلاق الحوار وآدابه وكان في ذلك ترجمان للقرآن.

 

يعرف الفيزيائي ديفيد بوهم الحوار بالمعنى الأصلي للكلمة: “ديا” والتي تعني “من خلال” و “لوج” والتي تعني “الكلمة ذات معنى” بمعنى “سيولة وتمرير المعنى، وهذا التعريف يحيلنا كذلك على معنى التواصل كما نعيشه في الواقع وكما عرفه العلماء وهو يعني بالتبع: تدفق المعنى وتطويره من خلال تفاهم الأطراف المتحاورة وتواصلها؛ فالغرض من الحوار هو فهم الافتراضات والأفكار والمعتقدات والمشاعر الإنسانية التي تتحكم في التفاعلات. وبالتالي فإن الحوار لا يمكن أن يكون جدلا ومجادلة ولا نزاعا ومنازعة، بل يكون الحوار حيث تكمن القدرة على خلق نوع من الارتجاج وتشريح المحتوى بغرض خلق أرضية مشتركة للتفاهم وإزاحة مكامن الخلاف الذي يؤدي في الغالب إلى التشنج وربما إلى التباغض. وفي هذا السياق يمكن القول إن الحوار ليس تنسيقا منسجما بل يقود إلى الانسجام من خلال التدافع الذي نادى به الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم.

الحوار ليس مسلكا لتحقيق الذات التي تبحث عن الفوز ومغالبة الآخر باستعمال تقنيات خطابية وبلاغية ومنطقية، فكثير من المتحاورين يسعون إلى إبطال مشروعية ومصداقية بعضهم البعض تحقيقا لمصلحة شخصية أو دونية لا تخدم المجتمع أو المبدأ، وهذا واقع يدعو للأسف.

إن عملية الحوار هي وسيلة لتوضيح كيفية تفكيرنا، كما هي مسلك للإفصاح عن نفوسنا وخفاياها ومركباتها، الحوار يفضح سلبا وإيجابا نظام القيم في الدواخل الإنسانية، ويعري عن السلوك، واللغة، ويكشف عن هندسة العقول، فإذا أردنا حقا أن نستكشف أسس الأزمة الراهنة، علينا أن نستكشف مختلف مستويات التفكير من خلال فحص طرق حوارنا والسياقات التي ترد فيه، ومآل الحوارات وما تسفر عنه من نتائج؛ فالتفكير كما يقول ديفيد بوهم ليس هو تلك النتائج الفكرية لعمليات التعلم الواعية فحسب، بل هو أيضا مجموع العواطف والمشاعر والرغبات والنوايا والتلميحات والمخاوف المشروطة بالقيود التاريخية، حسب الجنس والقوة والتقاليد ذات الصلة بالثقافة.

علينا إذن إعادة النظرفي حوارنا وطرق تحقيق التواصل بنية تحقيق الفوز للجميع وتحقيق المصالح المشتركة ليستقيم المجتمع الذي نتقاسم العيش فيه وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

* أستاذ الحضارة الإسلامية بألمانيا

تعليق واحد

  1. السلام عليكم
    بداية كادت تناقض النص المطروح هل الاسلام فعلا يحتاج الى تأسيس .
    النص القراني صريح في هذا الباب بحكم الآية ” الْيَوْمَ اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ”
    من الذي يحتاج الى تصحيح رديكالي الاسلام ام المسلمين؟
    استقم انت واستقم انا ودع الاخر يستقيم واحترم الذين استقاموا وكن معهم والا اهجرهم هجرا جميلا لك دينك ولهم دينهم هذه أرقى العدالة الربانية والحريّة والديموقراطية
    الحوار البناء يجب ان يكون على أساس مبدأ الاعتراف بالطرف الاخر والمساهمة في إصلاح ذات البين وليس فقط أنا أنا والا فلا .
    فاعل جمعوي من ألمانيا