الرجل الذي أتى بالكعك الإنجليزي والحلوى اللندنية لأبناء سوكيل.. نظرة، وفكرة، وشعور : الحلقة (2)

الوطن 24/ بقلم: الدكتور أحمد جوهري

هل شبهتُ محفظةَ سي عبسلام بصخرة تعذيب سيزيف؟.. لا، ليس هذا فحسب، لم يحمل سي عبسلام صخرة سيزيف فقط، بل شرب أيضا من الكأس نفسها التي شرب منها المعذَّب الآخر في الأسطورة الإغريقية برومثيوس: إذ كما سرق هذا النار من الآلهة في الأولمب ومنحها للبشر، استطاع سي عبسلام بجهده الفكري وذكائه في صباه وشبابه أن يسرق الكعك الإنجليزي والحلوى اللندنية اللذيذة من مِقْشَدات ديكنز، وأوسكار وايلد، وإليوت، وشكسبير ببلاد الضباب ليحملها إلى مشارف الساحل الأطلسي لأبناء سوكيل المتشوقين للكعك والحلويات الأوروبية ولكل ما هو أجنبي على الطريق الوطنية رقم 2.
ومثلما تعرض بروميثيوس لعقاب الإله زيوس على سرقته، فتمَّ ربطه إلى صخرة على جبل شاهق لينهش نسر القوقاز كبده كل يوم، ويتركه ليلا لينمو من جديد، كان قدر سي عبسلام أن يُربَط نهارا أمام سبورة سوداء بثانوية سيدي عيسى لينهش التلاميذ دماغه بأسئلتهم على مدى عدة أجيال.
ولك أن تتخيل أولئك الصبيان الذين كان معظمهم من البدو القادمين من حقول الضفة الشمالية لنهر سبو أو من التلال الشرقية والغربية لجسر بورك وهم يَنِطُّون فرحا فوق الكراسي بوجوههم الصغيرة المتَّقِدَة، تفوح منهم رائحة بذور عباد الشمس وشاي القافلة والمندرين، وعيونهم متحفزة شوقا للحلوى اللندنية العجيبة التي كان سي عبسلام يستعملها في كل حين ليفك بها عُقَد ألسنتهم، ويُقوِّمَ أخطاء نطقهم وانحرافهم عن قواعد لغة إليوت. فتتحول لحظات الدرس إلى قطع من سُكَّر، وتتقطر الجمل والعبارات الشكسبيرية عسلا بين الصفوف والمقاعد الخشبية القصيرة وعلى سطح سبورة نقتشها يُسرَى سي عبسلام الساحرة بحروف إنجليزية بيضاء بديعة. وهنا يجب أن نأتي بأمثلة شاهدة على ما نقول:
فمن بين المواقف التعليمية الصعبة على التلاميذ التي كان سي عبسلام يتدخل ليحلِّيها بالكعك الإنجليزي أذكر عملية الانتقال من فعل إنجليزي إلى فعل ثان جديد مقارب للأول في النطق: ولنأخذ فعل come (جاء) على سبيل المثال، فبعد أسابيع من التعب في التمرن على نطقه وترسيخه في الأذهان، وبمجرد الانتقال إلى فعل can (استطاع) تختلط الأمور على التلاميذ المبتدئين، وتصبح جملة: “you can come here” في أفواههم خليطا من هذا القبيل:
“you come can here”
وعلى سي عبسلام وحده أن يَحُلَّ ذلك التشابك اللامعقول ويُصَفِّيه بكعك المزاح والحلوى اللندنية. وكذلك الأمر بالنسبة لتداخل الدروس المتقاربة: مثل درس الألوان Colours الذي كان يتداخل في أذهان التلاميذ المبتدئين مع الدرس السابق عليه، درس “الهوية الوطنية” Nationalities: فكان التلميذ المسكين في حصة المحادثة التطبيقية إذا سأله زميله:
¿Are you Norwegien?
ينسى ويجيبه بعبارة درس الألوان السابق:
no, I am blue!
بدلا من:
no, I am moroccan!
وعلى سي عبسلام أن يراقب كل ذلك الجنون الأسود برئة قوية ورأسه في ثلاجة ليصححه ويعيد العِيرَ المنفلتة إلى مربدها الطبيعي.
وقد كان سي عبسلام، مثل كل أستاذ لغة حقيقي، يحرص على استعمال التلاميذ الجمل وتنويع المفردات لإثراء معجمهم الإنجليزي، ومن الطرائف أن تلميذا زميلا لنا كان مفتونا بكلمة Sheep(كبش)، لا يحيد عنها قيد أنملة، فلا يأتي بجملة إلا واستعملها فيها، كما كانت تلتبس عليه دائما مع مفردة قريبة في النطق هي Ship (سفينة)، وكان سي عبسلام يكتفي بابتسامة عريضة تدل على استيعابه العميق لنفسية التلميذ ولتأثير البيئة والمحيط في الإنسان، فقد كان يعلم أن ذلك التلميذ ابن فلاح عاصمي (نسبة إلى أولاد عاصم) ويستحيل أن يتخلى عن الكبش مقابل كل سفن العالم …
(يُتبع)