الرجل الذي أتى بالكعك الإنجليزي والحلوى اللندنية لأبناء سوكيل…نظرة، وفكرة، وشعور (الحلقة 3/4).

To my dear Teacher Si Abdessalam

الوطن24/ بقلم: الدكتور أحمد جوهري

د.أحمد جوهري

عندما نكون صغارا تكون عقولنا كالمرايا المقَعَّرة، فتنعكس عليها صور الطبيعة والحياة بطريقة مائلة عجيبة وأحيانا مضحكة تُدخل البهجة على نفوسنا، لكن عندما نكبر تستوي مرايا عقولنا، دون أن تستشيرنا طبعا، فيتجلى لنا الواقع في معطفه الأسود القاتم بقامته الطويلة المستقيمة، وعينيه الماكرتين، وأنفه الحاد، وعلى وجهه الأصفر ابتسامة باردة. وسرعان ما ينزع قبعته وقفازيه السحريين الفضيين اللذين كان يُخرِج منهما العصافير الملونة ليسحر بها عيوننا الطفولية، فيُبرِز أصابعه الحديدية القاسية، ويبدأ في توجيه لكماته المستقيمة والخلفية والجانبية إلينا قبل أن يركلنا بصفيحة قدمه المفلطحة، كل واحد إلى حيث مصيره المحتوم، فنكتشف الأشياء على حقيقتها، ونشعر بالألم، ليس ألمنا فحسب، بل الآلام التي عاناها من أجلنا الآخرون: أمهاتنا، وآباؤنا، ومدرسونا، وخاصة مدرسو اللغات. ومازلت أذكر ذلك الصباح البعيد في بداية السبعينيات عندما كنا نتلقى درس اللغة الفرنسية بحضور المفتش في قاعة باهتة النور بملحقة ثانوية سيدي عيسى (لاميسيون)، حيث تعذر علينا نحن تلاميذ الأولى 9 (السادس ابتدائي اليوم) فهْمُ كلمة فرنسية مركبة في نص فرنسي. كانت تلك الكلمة جديدة وغريبة تدل على طريقة ما في الجلوس، وهي (s’asseoir en tailleur)، فلم يجد المدرس المسكين بُدّاً من أن يجلس القرفصاء على أرض القسم ليشرحها لنا. ولما نهض كان سرواله الأزرق اللامع قد ابيضت جوانبه بغبار الطباشير، لكن أساريره المتعرقة علتْها ابتسامةُ انشراح ونصر صافية ومشرقة شبيهة بفرحة العالم أرخميدس حين عثر على مبدأ دافعته وخرج عاريا من الحمام يصيح: وجدتها.. وجدتها !.. ذلك المدرس الرائع كان اسمه سي القيسومي(كيف يمكن أن أنسى اسمه !)، ولست أدري لماذا كلما تذكرته أتذكر ذلك الرعيل الطلائعي من أساتذة اللغات المتميزين بسوكيل: سي بديع، سي أوشرقي، سي الغرناجي… وفي مقدمتهم سي عبسلام. أولئك المدرسون الذين اختاروا الطريقة الحوارية في التعليم والمشاركة والتواصل مع التلاميذ في زمن بداية السبعينيات الذي تميز بسيادة المنهجية التعليمية السلطوية وتعنيف التلاميذ، وعَرَف توترا سياسيا وانقلابات عسكرية فاشلة، وصارت سنواته الآن تسمى في الأدبيات الحقوقية بسنوات الجمر والرصاص.

وقد عرفتُ فيما بعد، حين ولجتُ سلك التدريس صديقا حميما يُدَرِّسُ اللغة الإنجليزية. كانت مهمته هي تصوير المعاني على السبورة في غياب وسائل الإيضاح. فكان المسكين يحرص، على أن يرسم للتلاميذ البدو معنى كل كلمة جديدة على الخشبة السوداء: فإذا أتى، مثلا، بكلمة frog رسم لهم ضفدعا، أو كلمة snake رسم لهم ثعبانا مفلطح الرأس (بومراية كما كان يقول)، وهلم جرا… ولمّا تتعب أصابعه، كان يقلد القرد ليشرح لهم كلمة monkey، وينهق ليوضح لهم كلمة Donkey… وكذلك كان يفعل مع سائر الوحوش والحشرات. وطالما رأيته في البيت الذي كنا نتقاسم سكناه يتضرع في محرابه كشخصية عم هملت في مسرحية شكسبير، ويرفع يديه الطويلتين كمجدافين إلى الأعلى راجيا من الله أن ينقذه من جحيم تعليم اللغة الإنجليزية. وقد استجاب الله لدعائه وغادر الفصل بعد سنة واحدة إلى النمسا. وأتخيله الآن يتجول مع طفلته الصغيرة ويقلد لها رفرفة فراشة عجيبة الألوان بين أزهار حديقة بفيينا أو سالزبورك.

أما سي عبسلام فلم يغادر سوكيل لا إلى النمسا ولا ألمانيا ولا حتى تنزانيا، وأقسَمَ الأيمان الموثقة أن يشرب مِلحَها حتى الهرَم والسقم من أجل الأجيال المتعاقبة لأبنائها. وفعلا ففي أسرتي وحدها درَسَ عليه أزيد من عشرة أبناء وبنات، بدءا من جيل الغيوان وجيلالة و”سروال علي”، إلى جيل سعد المجرد و”في قرية التوت”، مرورا بجيل الشاب ميمون وباربا الشاطر وكريندايزر، وجيل راغب علامة و”بيل وسيبستيان”. وطيلة كل هذه الحقب ظل سي عبسلام يوزع الكعك الإنجليزي على تلاميذ سوكيل بابتسامته المتألقة المعهودة حتى إنه التقى ذات يوم بالفقيه والدي رحمه الله قرب بيته فقال له بأدب وتوسل لا يخلو من مزاح وخفة ظل:

– يا عمي الحاج، لقد درس علي كل أبنائك وحفدتك، وأرجو أن تشرفني بالدخول معي إلى بيتي لأعطيك درسا في اللغة الإنجليزية، وبذلك أحصل على شرف تدريس كل آل الجوهري.

ولا أعلم بقية القصة، هل دخل الفقيه ليتعلم أول درس في اللغة الإنجليزية أم وعده بالحضور هو والحاجّة في وقت لاحق بعد أن يشتري لها محفظة جديدة تناسب الدرس الإنجليزي الجديد؟  الله أعلم. كل ما أعلمه هو هذه الحقيقة:

ليس سي عبسلام من نال شرف تدريس عدد من الأسر والأطر بسوكيل، بل هي من نالت شرف التتلمذ على يديه…

(يتبع)