الرجل الذي أتى بالكعك الإنجليزي والحلوى اللندنية لأبناء سوكيل الحلقة (1)

To my dear Teacher Si Abdessalam
الوطن 24/ بقلم: الدكتور أحمد جوهري
يقال إن السعادة شعور نفسي يختلف باختلاف المواقف والأوضاع ويتطور بتطور حاجيات الشخص والمجتمع. لست متأكدا من صحة هذا القول، لكنني متيقن تماما من أن السعادة بالنسبة لتلاميذ ثانوية سيدي عيسى في لحظات زمنية قديمة لم تكن كلمة لغوية أو مفهوما فلسفيا أبدا، بل كانت ببساطة لوحة حية يتلألأ داخل إطارها وجه ذلك المدرس الباسم الودود بعينيه الكستنائيتين وجبينه الشامخ في كبرياء تضيئه أشعة شمس الضحى الذهبية المتسربة من الزجاج الشفاف لنوافذ قاعة الدرس الباردة. ذلك المدرس البهي كان اسمه ستي، لكن تلاميذه كانوا ينادونه دائما سي عبسلام. فهل يمكن أن ننساه؟
هل يمكن أن ننسى ذلك الرجل السوكيلي الذي شرب من معين “الدعادع” حتى ارتوت عروقه، واصطبغ جلده “الغرباوي” الملوَّن ببياض الملح أسفل جسر بورك، وغاصت ساقاه النحيلتان في طين سوكيل حتى الركبتين وهي تَعبُر وادي الحيمر ذهابا وجيئة. ذلك المدرس الشغوف بتلاميذه الذي تطلع صورة وجهه الشكسبيري من تحت رغوة السنين كلما حاولتُ الغوصَ في بحيرة ذكريات الماضي البعيد لسوكيل. ذلك الجنتلمان الذي يستيقظ باكرا جدا لينفض الغبار عن الأسوار الرمادية النائمة لمدينة الملح والخيول، ويستنشق نسيم الشروق الصافي بين أشجار الكليبتوس في بَرِّها الجنوبي قرب حي أولاد عاصم. ما كان أشْبَهَهُ بسيزيف وهو يحمل يوميا محفظته السوداء الضخمة الثقيلة، ويدحرجها في دروب سوكيل، منطلقا من شارع عقبة بن نافع ليعبُرَ شارع مفضل الشرقاوي قبالة مكتب البريد، ثم يلج سور الثانوية من الباب الصغير، ويصعد السلالم وهو ينوء بثقل صخرة سيزيف، أقصد محفظة الكتب الجلدية السوداء. وما أن يدخل إلى قاعة الدرس حتى تشرئب إليه أعناق صبيان سوكيل المتلهفة بوجوههم الترابية المتحمسة وأفواههم اليابسة وعيونهم المتشوقة للكعك الإنجليزي والحلوى اللندنية اللذيذة التي يحملها معه. أما هو فيقف بين مكتب خشبي اسودَّ سطحه بفعل غبار الأيام وسبورة شاحبة.. يقف شامخا بنظراته الواسعة التي تعكس رحابة صدره النحيل تحت جبين وضاء تستطيع أن تقرأ عليه بوضوح أسطر تلك العبارة القديمة لسوفوكلس التي لا يخلو منها جبين أي مدرس في العالم الثالث:
” لا أحد يستطيع أن يهرب من مصيره.”…
(يتبع)