الـــغــريـــب

الوطن24/بقلم: د.محمد أبخوش
ماقبل الحكاية
كتب أحد المثقفين المغاربة ما أدهشه وهو يقترب من دخول البلدة زائرا عبر الحافلة، وعنون مقاله بما يفيد أن القمر قريب جدا من تالسينت لأنه لم يراه أكثر قربا من قبل. لقد تكرم بالكتابة عن تالسينت ووضعها في مرتبة النجوم والكواكب ولم يخطئ كاتبنا صاحب الحس المرهف والفكر النافذ، فتالسينت تحتضن نجوما وكواكب أسست المكان وجعلت نورها يسطع في الكون. نجومنا ليست بقيمة نجوم هوليود ولا بوليود ولا تفترش السجاد الأحمر في كـــــــان. إنها نجوم متواضعة لا تبحث عن الشهرة ولا تهمها عدسات مصوري مجلات الفضائح. فقط تنتقل في هذا المكان وتصنع لحظاته وتؤرخ للإنسان. إنها تتحرك بالصورة التي تنقلها إحدى الأشعار الأمازيغية:
أداويغ أحودر أدونيت أدزريغ.
الغريب
- أنت.. من؟؟
تستفزني حروفك وهذا الإسم الغريب الذي تحمله،
تبدو كنبتة غريبة في تربتي، من أين أتيت؟
في غفلة مني أخذت كل شيء، ألا تعلم أن هذه الزنقة هي كل ما تبقى لي؟ تمتد من الواد الى الواد نفسه، المشكل ليس في استقامتها بل في انعراج مسار الواد. تمتد من شجرة الصفصاف العظيمة شرقا حتى المطحنة القديمة التي كان الناس يطلقون عليها اسم مالكها غربا، وقبر الشهيد لا يبعد كثيرا عنها. كنت أجوبها كما أجوب كل الأزقة، كان هناك الكثير من المعالم التي يمكن أن تطالب بحقها في الاسم لكن لا أحد فعل ذلك، هل تعلم لماذا؟ صحيح أنت لا تعلم كم كان الناس شرفاء وعظماء على طريقتهم. كان بها فرن خبز مشهور لا زال الكثيرون يذكرونه، وكان هناك النزل القديم الذي يحمل اسم الأصدقاء بالرغم من أن واجهته في الزقاق الخلفي، كان هناك أيضا أستوديو للتصوير وتلك الآلة القديمة حيث يدخل المصور رأسه لإلتقاط الصور، أما مرابض الحيوانات فتلك معلمة كبيرة تجمع الناس والبغال والحمير وحتى الخرفان والماعز، يطلق عليها الناس اسم الفندق، كانت بها غرف منفردة متعددة، وكانت هناك معالم أخرى لم أذكرها لأن ذاكرتي أصبح ضعيفة مع تقدمي في السن.
- أنا من أرض سوريال، حملني الفينيقي عبر البحر ثروة سومارية بابلية، حملني في أكياس الهيروغليفية معرفة وصورا للحياة. أمجد الرب في السماء كلما ضاق بي الحال، وكلما جاء الطوفان، سليل حضارة الماء.
- الماء؟؟ مول الماء؟؟؟ ليس لي عداد وحاجتي منه أحضرها من النبع لي ولجيراني.
- لا أنا لست الجابي، أنا شاعر.
- شاعر؟؟ ماذا تريد أن تقول؟ ماذا يعني شاعر؟
- أكتب الشعر، القصائد والدواوين، أمزج الألوان والحروف، الصور المعاني والدلالات، أغرق في بحر التشبيه والمجاز فتولد القصائد.
- أنا أيضا أفعل أشياء مثلك لكنني لست شاعرا.
- فماذا تفعل إذن؟؟
- أحب الألوان وباستطاعتي أن أقيس درجة تفتحها حتى تصير طبيعية، أنا محترف في صباغة الصوف، تقصدني نساء البلدة تختار ألوانها وأقوم بالعمل.
- صباغ صوف !! ههه أنت إذن لست شاعرا.
- لكنني فنان !
- فنان في صباغة الصوف وزبائنك من النساء فقط.
- أنت غريب ولا تعرف شيئا عني، فأنا الوحيد الذي تدخل النساء منزلي وكذا الرجال دون أن يثير ذلك أي مشكل كيف ما كان.
- أنت مشهور إذن، فما اسمك؟ نسيت أولا أن أعرفك عن اسمي: نزار.
- أعرف بالرغم من أنني أمي فقد سمعت الناس تردد ذلك، أما أنا فأدعى أحايلا.
- ماذا تقصد بقولك أن النساء والرجال تدخل منزلك دون أن يثير ذلك أي مشكل، من أي جنس أنت؟
- بعض أسئلتك تحمل غباء الرافديين الاوائل.
ماذا تقصد؟ - ما معنى أن تكون ذكرا أو أنثى؟؟ يبدو أنني أكثر حكمة منك، المهم هو الحياة،لقد ولد إيروس من النشوة وظل حبيس اللبيدو قدره أن يكون كذلك.
_ والحب ؟
_ الحب يا صديقي لا يسكن القصيدة، إنه لحظة عابرة في حياة الإنسان امرأة كانت أو رجلا. ألم تنتبه إلى هذه المؤلفات الكثيرة حول الموضوع، إنها تدور كلها حول اللحظة العابرة، صرحت بذلك أو أحجمت، إنها تحاول أن تصف هذا المنفلت باستمرار والذي يلهث الإنسان وراءه، كلما وصل إلى القمة إلا وهوى لينهض من جديد، إنه سيزيف… قدره أن يعيد الزمن من أجل متعة منفلتة.
_ يبدو أن لا مكان يأويني هنا، أبدو غريبا، هل غادرت المثل الكبرى عالمكم؟ كيف يمكن أن يعيش الإنسان بدونها؟ هل نسيتم أن الحضارة الإنسانية لم تكن ممكنة دون هذا العتاد الذي تم صهره عبر قرون مضت؟
انتظر سأعود يبدو أن هذا الحديث لن يستقيم بدونها، نحن في حاجة لمنبه قوي، حملتني إلى أماكن قصية بحوارك الشجي هذا، أحتاجها وسأحضرها، فقط انتظر !
يعود حاملا قنينة وكوبين، يضع الكل على الطاولة، ثم يسكب الكأس الأولى يناولها لنزار الذي يفرغها في جوفه دفعة واحدة، ثم يقفز من مكانه من شدة وقعها كأن شيئا لذغه.
_ ما هذا بحق السماء جوفي يحترق؟
_ لا تخف، إنها ماء حياة محلي الصنع
_ لكنه قوي جدا مما صنعتموه؟
_ هل تظنني أقدم لك جعة بابل (شرب الى بغيتي تشرب، احمد الله مفيها لا تقاشر لا خميرة) إنها عصير التمر والتين فقط إنها جيدة.
أعتذر، لكنني سأعود إلى حيث توقف حديثنا قبل قليل، سأعود إلى حديثك عن القيم الكبرى، أليست هي نفس القيم والمثل التي يعيش بسببها الإنسان اليوم التعاسة؟؟، انظر من حولك، هل فقدت البصر والبصيرة؟. هل تذكر الأسباب التي جعلتك تهجر اختيارك الشعري الأول : المرأة، نحو اختيار آخر: القضية؟؟؟
_ لا أرى أي اختلاف في ذلك، فالمرأة والقضية بالنسبة لي أمر واحد، فقط زاوية النظر هي التي قد تظهر العكس.
_ من تظن نفسك؟ غلغامش عصره؟ القيم والمثل هي الحياة، فإن تعارضت معها فهي غير صالحة ويجب استبدالها. أنا اخترت المتعة كي أعيش، اخترت الألوان للحب ودافعت عن ذلك وكسبت ود الناس واحترامهم. الم تلحظ أني أتجول في الأزقة وأقضي حاجاتي دون مشاكل؟
_ لا يمكنك أن تعيش أنوثة الأنثى، هل نسيت آلام المخاض والحمل؟
_ لا تلد كل نساء الأرض ولا تعشن حالة المخاض، كما أن المخاض أيها الغريب حالة وجودية أحياها في كل وقت وحين.
اخترت الألوان واخترت الفصول مجتمعة، أكره أن أسجن نفسي في لون واحد، أتدري لماذا؟ لأني أحب الحياة وأزرعها أينما حللت وارتحلت.
_ يجب أن نوقف هذا العبث، تعالى واجلس إلى جانبي لقد راقني مشروبك، اسكب لي كأسا أخرى.
_ أراك قد استوطنت تربتي وبدأت تدعوني ضيفا عندك، هيا اجمع حروفك وقصائدك ولا تنسى حقائبك المهترئة من كثرة تنقلاتك، لا أريد أن يتبقى منك شيء يذكرني بك هنا.
يخرج نزار متثاقلا يتبعه أوحايلا،
_ خذ القنينة فقد تحتاج ما بها مؤنسا لوحدتك أيها المهاجر، قدرك أن تتبع أوهامك أما أنا فقد اخترت الحياة.