القبر المنسي (مستمدة من الواقع) “الجزء1”

الوطن 24/ بقلم: فؤادالعنيز

رنّ جرس الهاتف، حملت السماعة وأجبت:

– ألو …

صوت ناعم رد على الطرف الآخر:

– سلام سيدي …

– سلام, من معي ؟

– اسمي وردة وعمري ثمانية وعشرون سنة, أنا حفيدة الحاجة طامو المنحدرة من مسقط رأسك.

– أهلا ابنتي, الحاجة طامو من أعز من أعرف في هذه البلاد النائية وهي تذكرني دوما بمدينتنا الصغيرة. أسعدتني مكالمتك ابنتي، هل من أمر نقضيه؟

– في الحقيقة, التجأت إليك سيدي لأني أعرف كم تحترمك جدتي وكم تعزك.

– مرحبا ابنتي.

– جدتي الحاجة طامو نزيلة مستشفى بالمدينة التي تسكنها حضرتك. ولأني غارقة في العمل وبسبب بعد مكان إقامتي عن مدينتكم بحوالي ساعتين، فإني لا أجد وقتا كافيا لزيارتها. وسأكون ممتنة لك لو تكرّمت بزيارتها والاطمئنان عليها. إذا كان وقتكم يسمح بذلك طبعا..

– طبعا ابنتي, سأزورها ومعي زوجتي وابنتي, هذا واجب فالحاجة طامو عزيزة كما قلت لك … وسأطمئنك عليها فور انتهاء الزيارة.

– هذا من كرمكم ودماثة أخلاقكم. جميل لن أنساه ما حييت.

– العفو ابنتي, هذا من صميم واجبي وهو أقل ما يمكن أن أقدمه للحاجة. نتمنى لها الشفاء العاجل بإذن الله.

انهيت المكالمة وسرح ذهني بعيدا.. تذكرت مدينتي الصغيرة المستلقية بين أحضان سهل الغرب. تذكرت دروبها الشعبية التي تضج بالحياة. أنا بالديار الكندية منذ سنوات خلت. هنا حيث البرد سيد المكان والزمان. برد في كل شيء وخاصة في العواطف. مجتمع كالنمل كل وقته عمل، آلات لها روح لكنها لا تحس إلا نادرا.

في الغد، قمنا بزيارة الحاجة طامو. زوجتي، ابنتي وأنا. وكم كانت مفاجأتها شديدة وهي ترانا نقبل عليها وفي يد زوجتي باقة ورد.

 تحدثت كثيرا عن مدينتنا الصغيرة بحب وشغف وبنوستالجيا واضحة فهي لم تقبل بالغربة إلا حبا في ابنتها (أم وردة) التي تزوجت من كندي وهاجرت معه منذ كانت شابة.

مكثت الحاجة قرابة أسبوع في المستشفى وفي اليوم الأخير زرناها مرة أخرى، ابنتي فاطمة وأنا. هناك، صادفنا الشابة وردة التي دعتنا بعد الزيارة إلى احتساء فنجان قهوة.

ونحن في المقهى، كنت أسترق النظر إلى الشابة وردة وهي منغمسة في حديث ودّي مع ابنتي فاطمة. أحسست أنها وإن كانت لا تشبه والدتها المرحومة “هناء”، إلا أنها كانت تمتلك نفس ابتسامتها وإقبالها على الحياة بالخصوص، بالإضافة إلى نفحة المغرب التي تجري في عروقها وإن كان والدها كندي.

 كانت وردة منغمسة في حديث حميمي مع ابنتي فاطمة وكأنها تعرفها من زمان وبين الفينة والأخرى تختلس النظر إلى وجهي وكأنها تحاول أن تستشف من خلالي نفحة الغرباوي كما كانت والدتها. أو لعلها لمست أني أنا أيضا كنت أرمقها بطرف العين وأني أنا أيضا كنت أحاول أن أسترجع من خلالها سحنة أمها التي صادفتها ذات يوم وحملتني صورتها إلى بقعة بعيدة في مستهل شمال المغرب بقعة يطلق عليها سوق أربعاء الغرب.

شكرتنا مرة أخرى وودعنا بعضنا.

بعد أسبوع، تلقيت مكالمة جديدة من وردة. جددت لي شكرها على ما قمنا به تجاه جدتها. أجبتها:

– إن ما قمنا به لهو من صميم الواجب. فأنا أعرف جدتك قبل ولادتك.

فجأة أحسست بنبرات صوتها تتغير وهي تقول:

– لي طلب صغير أرجو ألا ترفضه.

أجبتها وعلامات الاستغراب تستبد بي:

– بكل فرح, تفضلي بنيتي, كلي آذان صاغية.

” يتبع “