الهجرة السرية تضرب بقوة من جديد
الوطن 24/ بقلم: ذ. بوسلهام عميمر*
أكثر من عشرين ضحية تتراوح أعمارهم بين 20 سنة و30 هي الحصيلة المؤقتة لحد الآن لشاطئ “بالوما” بضواحي المحمدية، وما تزال لائحة الموت مفتوحة على كل الاحتمالات، بما أنه لا أحد يستطيع أن يتكهن بعدد من كان على متن الزورق المطاطي، فالجرة لا تسلم كل مرة، إذ كان المصير مفجعا، فكانت الوجهة لهؤلاء الضحايا بدل الفردوس المؤمل، مستودعات الأموات في أبشع صورة بندوب وتشوهات لم تستطع أسرهم تحمل منظرهم.
وما هذه الفاجعة سوى حلقة في سلسلة طويلة من الفواجع التي تكتوي بها الأسر المغربية البسيطة في فلذات أكبادها، على عكس الأسر المخملية ممن يولد أبناؤها وفي أفواههم ملاعق من ذهب، مساراتهم الدراسية مرسومة سلفا وكذا مستقبلهم، بما لديها من إمكانيات مادية تقيهم مرارة هذه المصائر الكارثية في الأرواح المعششة أساسا والمفرخة في الأوساط الشعبية بالبوادي والحواضر على حد سواء.
ألم يحن الوقت بعد لوقفة حقيقية لمساءلة هذه الظاهرة الخطيرة وصمة عار على جبين الوطن، التي بكل تأكيد تتكسر على صخرتها كل تصريحات التطمين، سواء الموجهة للداخل أو الخارج، الصادرة عن الجهات المعتاشة على هذا الوضع الذي لا يزيد الأغنياء إلا غنى والفقراء فقرا؟ وما موقع الحكومات المتعاقبة من إعراب هذه الكوارث المتوالية على رؤوس البسطاء وخاصة الحكومتين التاليتين في ظل دستور 2011 الذي منح صلاحيات واسعة للحكومة ولرئيسها؟ وما الذي حققته للحد منها ومن آثارها المدمرة؟
السلطات الأمنية على كل حال تقوم بدورها، نأمل أن يتحسن الأداء أكثر لتتصدى لها قبل حدوثها، وإن كانت المهمة ليست باليسيرة مع طول الشريط الساحلي، وتطور صناعة وسائل الهجرة السرية كاستعمال الفانطومات بمحركات صامتة واستعانة أباطرتها بمحترفي النقل السري للوصول إلى السواحل عبر الأراضي الفلاحية، فهي تتولى التحقيق في هذه الجرائم القاتلة مع المشتبه فيهم والسعي للوصول إلى الرؤوس المدبرة وتقديمهم للقضاء لينظر في ملفاتهم المثقلة بتهم خطيرة كالقتل العمد والاتجار بالبشر بمقابل مادي باهظ، مستغلين حاجة المنكوبين ممن يعميهم بريق الضفة الأخرى ليدفعوا بأيديهم إلى التهلكة، غير مكترثين بمآلات غيرهم ممن سبقوهم إلى الموت في عرض البحر، ومع ذلك يٌقْدمون عليها متشبثين بخيوط أمل أوهن من خيوط بيت العنكبوت.
فما الذي أنجزته هذه الحكومات على أرض الواقع يحسن من أوضاع المهمشين المزرية لتثنيهم عن المقامرة بأرواحهم إذا استثنينا الوعود والشعارات التي لا تحد منها قلامة ظفر بما أنها تكتفي بوضع المرهمات على الجروح المجتمعية الغائرة دون الجرأة على مواجهة أسبابها الحقيقية الثاوية وراء استفحالها ومعالجة دائها من الأساس؟ لا تجد ما تتحجج به أكثر من وصف معارضيها ومنتقدي سياستها بالعدميين، الذين تعتبرهم مغرضين لا ينظرون سوى لنصف الكأس الفارغة، ولا هدف لهم غير تبخيس عملها ووضع العصي في عجلاتها، علما أن الواقع المزري لا يمكن إخفاء أشعة شمسه بغربال مهلهل.
الطبقة السياسية تتحمل كامل المسؤولية فيما يقع، بما أنها هي التي تتولى تدبير شأن المواطنين العام وتسيير مجالسه القروية والحضرية بالتصرف في ميزانيات ضخمة، وولوج قبة البرلمان ومنها إلى الإستوزار وتولي المناصب السامية بالدواوين وغيرها من مؤسسات الدولة العليا.
فلم لا مكافأة هذا المواطن البسيط بتحسين وضعيته المأساوية لتجنيبه الإقدام على مثل هذه الكوارث بما أن على أكتافه يتم الصعود لتولي هاته المسؤوليات التي تبيض ذهبا؟ ولم لا التنازل قليلا عما يتحصلون عليه من امتيازات للرفع من مستواه المعيشي بما يضمن له الحد الأدنى من العيش الكريم حتى إذا أقدم أحدهم على هذه الهجرة القاتلة فلا يلومنّ إلا نفسه؟ لم لا يبادر البرلمانيون بالتنازل عن جزء من امتيازاتهم المادية لصالح البؤساء من أبناء هذا الوطن الذين يدعون تمثيلهم وينصبون أنفسهم نائبين عنهم وناطقين باسمهم؟ ولم لا يتنازل الوزراء أيضا بدل إرهاق خزينة الدولة بالتعويضات الخيالية التي يخرجون بها لصالح صناديق المرافق العمومية من مدارس ومستشفيات وغيرها مما يحتاج إليه المواطن البسيط؟
الوطن للجميع، إذا كان الفقر فعلى الجميع وإذا كان الغنى فالجميع من حقه أن ينال نصيبه منه. لذا، فلا يعقل أن يعيش البعض محلقا بين النجوم، بينما الآخرون ملتصقون بالتراب بالكاد يحصلون على ما يسدون به رمقهم.
فهل يتصور لو تم الإلتزام الحرفي بما دأب جلالة الملك على ذكره في خطبه السامية والحض عليه، من ربط المسؤولية بالمحاسبة، والحكامة، ومطالبة الأحزاب بالتحلي بروح المسؤولية والإلتزام بما تعد به المواطنين وترك الصراعات السياسوية جانبا، وتجنب كل ما يفوت على المواطنين ما يصلح حالهم، وإقتراح الكفاءات بدل الترضيات، والسعي الحثيث لتنزيل مقتضيات النموذج التنموي الجديد كما يريده جلالته بما يلبي إنتظارات المواطنين الملحة، فهل يمكن تصور إستفحال مثل هذه الظاهرة المميتة؟
- كاتب وباحث