بين اللين والقوة تبحث عن ذاتها في مجموعة ( وأنت تكتبني آخر الأسفار) للشاعرة كريمة نور عيساوي
الوطن24/ طالب زعيان
المجموعة الشعرية (وأنت تكتبني آخر الأسفار) الصادرة عام 2021عن مؤسسة مقاربات المغرب للشاعرة كريمة نور عيساوي من المغرب .. لنقف قليلا عند العنوان لكونه المفتاح أو العتبة الرئيسية للكتاب التي تنبثق منه كل الدلالات إلى مضمون الكتاب… بدأت الشاعرة بالضمير المخاطب (أنت) وهو من المعارف الذي يعرب مبتدأ، يتبين لنا أن هناك خطاب وحوار مع الآخر ربما يكون وطنا أو حبيبا أو شخصا ما أو مع النفس.. ثم جاءت بالخبر جملة فعلية (تكتبني) التي تدل على الاستمرارية والتجديد
فضلا لو نظرنا إلى غلاف الكتاب الذي يعتبر عتبة من عتبات الكتاب، اسم الشاعرة كتب في أعلى الكتاب، وهذا يعطي لنا ثقة الشاعرة بنفسها وبمنجزها وإشهار لأسمها وللكتاب.. والجزء الأعلى من الكتاب كان بلون الأبيض الذي يرمز للسلام والنقاء والإصرار والتحدي.. وعنوان الكتاب كتب باللون الأخضر الذي يرمز إلى الخير والانتعاش والأرض الخصبة.. فاللون أصبح لغة يحاكي الواقع.. والجزء الآخر من الغلاف لوحة فنية تضمن عدة بيوت قديمة وهذا يشير إلى ارتباطها بمدينتها ووطنها. فغلاف الكتاب ليس شيئا عابرا أو شكليا، بل هو يعطي لنا بعض الدلالات الأولية لمضمون الكتاب.
نص (لا عليك)
هنا استخدمت لا النافية للجنس الذي يكون فيها النفي مؤكد.. وكأنها تعطي رسالة بأن الحياة مستمرة لا ينقصها منا فقط الصبر وتأتي بصورة جميلة:
(لا عليك
لا عليك الحياة ممتدة
والنخلة في مكانها تنتظر هبوب الرياح،
لتحريك سعفها وتَلْقيم فروعها مما حولها
مما يشبهها… ويختلف فيها
مما يعريها من غطائها
ويكشفها أمامك دون غيرك)
النخلة في مكانها_ تمثل صورة المكان
تنتظر _ تمثل صورة الصبر
هبوب الرياح_ تمثل صورة حركية
هذه الصور والانتقال من حالة إلى حالة أخرى يعطي للقارئ مساحة اكبر في هذا الفضاء الشعري التنقل النفسي والفكري لديه.. وهذا يعود إلى قوة الشاعرة في استخدام الصور المتداخلة مع بعضها لكن تصل للقارئ أنها منفصلة عن بعضها وكل صورة لها حالتها فضلا عن ذلك تعطي دروسا للقارئ أو المتلقي تبقى عالقة في ذهنه
لا عليك
لا عليك الحياة ممتدة
والنخلة في مكانها تنتظر هبوب الرياح،
لتحريك سعفها وتَلْقيم فروعها مما حولها
مما يشبهها… ويختلف فيها
مما يعريها من غطائها
ويكشفها أمامك دون غيرك
نص (قلم هارب)
حين يهرب القلم وهي صورة مجازية بمعنى يتوقف الإنسان عن الكتابة في برهة من الوقت بالرغم من أنه بحاجة للكتابة عما يدور في خاطره لكن يكون عاجزا عن التعبير.
(أتمدد كعادتي على هامش الصفحة…
لاشيء يقتل الوقت…
أو يهدئ تباريح الشوق
غير ابتسامة مبللة وقت القيلولة…
الظهيرة جمعت أفياءها في حقيبة جلدية..
وتوسدت ما بقي من نصفي المنهك هنا… ونافذتي المشرعة هناك..
لازلت أفتش في بياضات سكينتي… عن البداية)
أتمدد كعادتي على هامش الصفحة…. صورة مجازية
لا شيء يقتل الوقت… هنا استخدمت النفي ب(لا) النفي وهي تبحث عن شيء يقضي هذا الوقت
أو يخفف تباريح الشوق
غير ابتسامة مبللة وقت القيلولة… (ابتسامة مبللة) كلمة مبللة توحي لنا أنها تشكو من الظمأ والعطش… وحدد وقت هذه الابتسامة في وقت القيلولة أي وقت الظهيرة التي يكون فيها الحر بأعلى درجاته.. هكذا حين يكون الشوق في ذروة الاشتياق يصل بالإنسان إلى حد الموت كالظمأ
الظهيرة جمعت افياءها في حقيبة جلدية.. هنا وكأنها تتهم الظهيرة كانت حتى هي ضدها واختف أفياءها عنها في حقيبة جلدية.. وذكرت جلدية بمعنى حقيبة محكمة لا تسمح يخرج منها شيء.
وتوسدت ما بقي من نصفي المنهك هنا
ونافذتي المشرعة هناك
نصفي المنهمك ونافذتي المشرعة.. دليل على ضعفها والشوق الذي أتعبها مما جعلها عليلة
نص (يا سيدي القاضي)
جاء العنوان بصيغة أسلوب النداء في اللغة العربية، وغالبا ما يدل النداء على الضيق والاستعانة بالله وبالآخرين فتشعر هنا أن النداء فيه رفق ولين واستعطاف، وربما ضعف وهي تطلب من القاضي الرفق بالقلم حين يكتب، أي لا يكون قاسيا، ووصفت أوامره بالسلطانية أي أنه متسلط
(قبل أن تُدون أوامرك السلطانية
ترفق بقلمك وورقتي الملكية
تلك القصيدة تَكتُبنا تَسرقنا)
القصيدة تترجل في منتصف الطريق)
تُصغي لقرع الصوت،
لضرب السوط،
لعزف الأنين،
القصيدة تغزو لغتنا ولهجتنا)
تشير إلى القصيدة وتحولها إلى صورة معادلة بين الأفعال (تكتبنا ، تسرقنا) (تطوعنا، وتذرينا) وأصبح هنا لكل فعل ردة فعل
بينما حولت القصيدة في المقطع الثاني إلى كائن حي يترجل وهي تصغي إلى الصوت، والسوط، والأنين وتغزو اللغة الفصحى والعامية، فهنا القصيدة ليست حروف فحسب، بل هي كائن تصور وتغزو كل ما يدور حولها
نص (صمتي سفينتي)
الطريق طويل والظلال مستلقية
وأنا أنتظر شعاع الشمس يقرص خذ نافذتي الغافية
لم يبق شيء في هذه الصباحات غير هذا الصمت يزمجر وحده
أرقبه يبغش إلى كوته
لا طرق… ولا صخب… هو الموت المحقق
لا بد أن نقف عند العنوان الذي صمتها كسفينة يدل كم هو حجم الصمت، وحجم الألم الذي تعانيه… وتصوره لنا بأنه:
طريق طويل….. وظلال مستلقية
انتظار شعاع الشمس…. قرص خد نافذتي
صور جميلة.. انتظار… يقابله حركة وهي القرص وهنا جاءت به مجازا
بعد ذلك تجيب نفسها بالنفي بأداة( لم)
تقول لم يبق شيء سوى الصمت الذي يعتبر سلاحها الوحيد الذي يقودها بلا ربان تبين لنا أن الأمر ليس بيدها وهذا ينقلنا إلى حالة من التيهان والأمر خارج عن سيطرتها لا طرق ولا صخب بل هو الموت المحقق
أرنو إلى سمائي في لونها لا أبيض… لا أسود …ولا رمادي
إن الشاعرة لها اطلاع واسع في أساليب اللغة العربية النحوية والبلاغية، وذلك ما يسمى بلعبة الضمائر وتنقل ما بينها منها الضمير (أنا) وهو أقوى المعارف والضمير المخاطب ( أنت) يدل على أن هناك حوار مع الآخر سواء مع النفس أو مع الحبيب أو أي شخص آخر.. فضلا عن استخدامها الضمير (هو) الذي يكون الكاتب في مختفي ويعطيه مساحة كبيرة في حرية الكلام.. أن هذا الانتقال بين الضمائر يعطي للقارئ عنصر التشويق في اختلاف الشخصيات التي نعوض عنها بالضمائر اختصارا للغة
هو القيد يكسر بابك… أنا من النساء
استخدمت أيضا أسلوب الاستفهام الحقيقي ولاسيما التصوري.. والمجازي الذي يخرج بلاغيا لا يريد جوابا بل يخرج إلى أغراض أخرى، مثل التعجب هذا التنوع في أساليب الاستفهام يعطي حركة اكبر في الحديث وكشف أشياء أخرى مخفية
ما بها نافذتي هادئة اليوم؟
لِمَ غاب عصفوري يا ترى؟
عندنا في اللغة أسلوبان التمني والترجي هنا الشاعر اختارت أسلوب الترجي بمواقع مختلفة (لعلك، لعلني، لعلها) الذي من الممكن حصوله فهذا يدل لنا أن الشاعرة لم تطلب المستحيل بل هي أكثر واقعية ( لعلها تجلس، لعل سمنتك زادت، لعلك تطوف، لعلها تحن. لعلني من الكلمات أتحسس)
اغلب الجمل الفعلية فعلها مضارع الذي يدل على الحاضر والاستقبال أي بمعنى أنها تنقل إحداث في الوقت الحاضر وعندما يقراها القارئ يكون أكثر تفاعلا معها وكأنها تجري الأحداث أمامه عكس الفعل الماضي حدث في الماضي وانتهى مثل (تترصد، أمشي، أحب، تستلقي،تتراشق)
من أساليب البلاغية في هذه المجموعة ظاهرة (التكرار) اللفظ سواء بالاسم أو بالفعل أو بالحرف.. وغيرها.. هناك من يعتبر التكرار ظاهرة ذميمة ربما تخلق حالة ملل عند القارئ.. وهناك رأي للغويين بخلاف ذلك ويعتبر التكرار حالة صحية عندما يخرج التكرار إلى معاني أخرى منها الغرض منه التوكيد الإرشاد التحذير الأهمية وأشياء أخرى.. وهنا نقول هي قوة الكاتب التي تجعل التكرار غير ملل لأنه يخرج لأغراض أخرى كما قلنا. وهنا استطاعت الشاعر أن تأتي بالتكرار بدون ملل أو ثقل على القارئ.
مثل تكرار حرف الجر (من)
من الحروف…
من خرير..
من هوس الضوء
وتكرار الضمير الغائب
هو العجز
هو التسكع
هو الانشطار
هو الحصار
أسلوب النفي لم يكن بعيدا عنها فهي ترفض وتمنع أحيانا بقوة وأحيانا لا…. مثل لا الناهية ولا النافية للجنس ولا النافية.. مثل:
(لا تكتبي، لا تترد، لا تهدأ، لا عليك، لا تسرع، لا تجرح)
أخذ الخطاب في مجموعتها جانب اللين والرفق بأنوثتها الساحرة تحاول كسب الآخر، لكن بنفس الوقت تشعرك أنها سيدة قوية تبحث عن مكان يليق بها، هكذا هي صفة المرأة العربية سليلة المجد الواثقة بنفسها.
نفهم من ذلك أن الشاعرة أخذت أسلوب المد والجزر أي بين القوة واللين لكي تحقق ما تطمح إليه نحو الأفضل واستطاعت أن تستخدم كل أساليب اللغة العربية بأسلوب جيد في مجموعتها الشعرية وكل أسلوب له التأثير النحوي واللغوي والبلاغي بشكل صحيح مما أعطى للمجموعة وهجا آخر من التمييز.