تمثل قيمة الحرية عند كل من علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني

الوطن24/ بوعزة عابيدي
تعتبر الحرية من القيم الإنسانية الكونية وهي إطار الحياة الراهنة التي تتحرك فيها البشرية لإثبات وجودها وفعاليتها، وهذه القيم هي ما يصطلح عليه اليوم بمنظومة حقوق الإنسان، إذ بدونها لا تتحقق أدميته ولا تتجسد كينونته، ولا تحضر مواهبه وتطلعاته، وهي بوصفها هذا وبحكم حساسيتها لا تتجزأ ولا تتبعض لأنها مرتبطة بالكائن الإنساني الذي لا تقبل ماهيته ذلك، وتأتي في مقدمتها: الحرية، والكرامة، والعدالة، والديمقراطية، والمساواة.
ومنذ القدم والإنسان يحارب ويناضل ويدفع الغالي والنفيس في سبيل حريته، وفي أحيان كثيرة يدفع حياته ثمنا من أجل الحرية، ويروي لنا التاريخ صورا مشرقة ونماذج رائعة جاهدت حتى الموت لتحصل على حريتها، وتوالت الأزمان والأحداث وأصبحت الحرية هي هم كل الشعوب بمختلف أجناسهم ودياناتهم، وقامت المسيرات والثورات والحروب وسالت الدماء في كل مكان من أجل الحرية، وأصبحت كلمة الحرية تعني الحياة والأمل والسعادة.
طرحت مسألة الحرية عبر مسار التاريخ ومازالت لحد الأن، ولكن مفهومها كان يختلف في كل مرحلة وحقبة ومن مجتمع إلى آخر ومن فلسفة إلى أخرى، كذلك اختلفت تعريفاتها عن تطبيقاتها حتى ضمن النظرية الواحدة. واختلف المنظرون لها والمناضلون من أجلها حول مكمن أسسها والطرق المؤدية إليها. وقد أدى ذلك إلى وجود حاجة دائمة للبحث فيها وفي جوانبها المدنية والسياسية والدينية، والتعمق في دراستها فلسفيا وتاريخيا سواء كقيمة بذاتها أو كقيمة لا تنفصل عن القيم الأخرى للفرد والبشرية.
وفي العالم العربي احتلت الحرية مقدمة الاهتمامات خلال القرن العشرين، وبدت أولوية مطلقة في مرحلة التحرر من الاستعمار ليتقدم بذلك مفهوم “تقدم الشعوب” على أي مفهوم آخر للحرية، لكن سرعان ما جاءت مرحلة الاستقلال لتعدل في معركة الأولويات ولتنضج معها بعض المفاهيم الأخرى، ولتحتل الحريات الفردية والسياسية والمدنية مكانة السبق في الجدل لاسيما مع بقاء تحديات التنمية والتقدم والاستقرار أمام المجتمعات العربية على حالها، أو دون تحقيق إنجازات كبرى فيها تذكر.
وإذا كانت الحرية تبقى مسألة خلافية مادامت تواجه أسئلة جوهرية مازالت الفلسفة تواجهها ولكونها تتعلق بدرجة تكاد تكون متساوية بمكونات الفرد وبكيانات الجماعة، فإن الأكيد أنها تبقى بمفهومها الأصيل الشغل الشاغل للإنسان عبر الزمن، ومهما تعددت المكتسبات منها أو المؤدية إليها، فثمة شيء أكيد آخر وهو أن للحرية مستويات مختلفة يسعى البشر للوصول على أعلى قدر منها.
مفهوم الحرية عند علال الفاسي
ارتبطت الحرية عند علال الفاسي بتجربته في الكفاح وحضوره الوازن في هيكلة العمل الوطني، نتيجة التحول التاريخي الذي عرفه المغرب آنذاك، الشيء الذي أفرز الوعي الشخصي المبكر لعلال بأن الحرية هي المسألة المركزية التي تستحق الوقوف على مفهومها ورسم حدودها والإحاطة بمضامينها. ولقد نهج علال الفاسي في مقاربته لمفهوم الحرية، نهج قريب من الطرح الابستمولوجي، بمعنى وضع الأداة المفاهيمية والحقائق والمنهج موضع التقويم للوقوف على مصداقيتها وصلاحيتها في بناء النظرية وتأسيس التطبيق.
ويميز علال الفاسي بين صنفين من الحرية، الحرية الإلهية المطلقة والخلاقة والحرية الإنسانية المطلقة المبدعة كما قررها الإسلام، وتتمثل الحرية الإنسانية في:
الحرية السيكولوجية: وهي حرية النفس التي هي مطلقة لأنها خاصة بالفكر وعلاقته بالإرادة والواقع.
الحرية المدنية: وأساس هذه الحرية هي كون الإنسان مزودا بعقل قادر على التمييز والاختيار يعني أن يختار بين الخير والشر، بين الحق والباطل، والحرية المدنية عند علال خمسة أنواع وهي:
الحرية القومية: ويعني بها حق استقلال الشعوب والأمم من كل سيطرة أجنبية على أراضيها ومقدراتها، لأن السيطرة الأجنبية على البلد تنعدم بها عادة كل كرامة شخصية وكل ضروب الحريات الأخرى، وهذه الحرية في نظر علال لا يمكن أن تعتبر تامة وصحيحة إلا إذا كانت عامة وشاملة على كل الدول، ويعلن علال أن هذه الحرية هي أيضا واجبة فليس من حق دولة ما أن تتنازل عنها وتقبل الاستعمار “لأنه كما لا تسمح الحرية للشخص أن ينتحر فكذلك لا تسمح للدولة أن تنتحر”.
الحرية الشخصية: وهي لا تعني إرادة الإنسان في أن يفعل ما يشاء، بل هي تمتع الإنسان بالحقوق وقيامه بالواجبات وهي لا تتضمن فقط حرية الفكر وحرية الإحساس، بل أيضا مجموعة من الحريات الاجتماعية والسياسية الخاصة بالفرد، فهي ترتبط بحريات الإنسان القانونية داخل المجتمع “وتتحقق بضمان الحريات السياسية”، ومنها حرية السكن وحرية التنقل والزواج والتناسل… ومن أهم هذه الحرية، حرية الدين وحرية الفكر، إذ كما لا يجوز لأحد أن يضطهد أحد من أجل عقيدته الدينية يلزم كذلك ان لا يكره الناس على اعتقاد أي مذهب إذا كان لا يختاره بإرادته.
الحرية السياسية: أما الحرية السياسية فالغاية منها تحقيق مساهمة الأفراد في حكم بلدهم وانعدام النظام الإستبدادي المحتكر للسلطة، سواء أكان في يد فرد أو جماعة لا تؤمن بالشورى، ولا بحق الشعب في المشاركة والمساهمة في الحكم أو مراقبته، وتتضمن حرية التفكير وحرية إبداء الرأي وحرية الاجتماع والتجمع، وحرية الأحزاب وحرية العمل والإنتخاب.
الحرية الإجتماعية: وتتمثل في حرية التعلم، أي حق التعليم والصحة والعمل والحرية النقابية.
الحرية الإقتصادية: يرى علال الفاسي أن الخطر على الدولة لا يكمن في الهزات الإقتصادية، بل في ضياع الحرية وانتفاء وجودها، لذلك فالتأكيد على الحرية ضرورة استراتيجية وليس دعوة تنتصر لحرية المبادرة في مجال الإقتصاد، وإطلاق العنان للطبقة ذات الإمتيازات لاحتكار كل الخيرات والاستحواذ على الثروات. الحرية مشروطة بوجوب تعميمها على الكل لأن المشكلة الإجتماعية العصرية كلها تتلخص في هذا الاحتكار المشؤوم للثروة في يد أقلية ضئيلة يقول علال: “إن الحرية التي ننشدها لا تبقى لها قيمة إذا كنا عبيدا للمصالح”.
وهكذا يرى علال الفاسي أن الحرية الإقتصادية ليست هي تشجيع المبادرة المطلقة لطبقة اجتماعية على حساب باقي الطبقات الأخرى فهذه تصبح عبودية. إن الحرية الاقتصادية تعني تهيئة العمل للجميع، وإشراك اليد العاملة وسائر المنتجين في الشؤون الاقتصادية والمالية والتحرر من الفقر وحماية الدولة للمواطن اقتصاديا بضمان حقه في الشغل والدراسة. الحرية الاقتصادية الحقيقية تعني التحرر من المال ومن سيطرة الاتجاه المادي في التفكير الاقتصادي، لأن خطأ أغلب النظريات يرجع إلى تقييمها للمال كعامل أول وأخير في فهم تطور الوقائع الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما تؤكد عليه الكثير من النظريات كالماركسية والفاشية وغيرها.
مفهوم الحرية عند محمد بن الحسن الوزاني
حظي مفهوم الحرية لدى الوزاني عناية خاصة؛ إذ يعتبره أحد المبادئ والركائز الأساسية “الحرية والديمقراطية وفصل السلط” الكفيلة بإرساء نظام ديمقراطي قائم على المساواة، والعدالة الاجتماعية. وقد انطلق الوزاني من تعريف الحرية الذي يعتبر “أن حرية كل إنسان تنتهي عندما تبدأ حرية إنسان أخر”.
هذا ما يدفعنا نستنتج أن تحرير الإنسان لدى الوزاني لا ينطلق إلى من خلال الوثيقة الدستورية، فهذه الأخيرة تحدد حدود السلطة السياسية وكذا الحقوق الفردية والجماعية.
ولقد كرس المفكر والزعيم محمد بن الحسن الوزاني على التأصيل للمفهوم الحرية في الإسلام من أجل مواجهة:
على المستوى الداخلي: اعتراض المجتمع التقليدي لكل القيم الوافدة، وقراءة النص الديني قراءة حرفية ومواجهة كل أشكال الانفتاح والتجديد.
على المستوى الخارجي: النظرة السلبية السائدة عن الإسلام لدى العديد من المفكرين الغربيين، من أمثال مونتيسكيو، وجون ستيوارت ميل، الذين ينظرون الى الإسلام كنظام اجتماعي متشدد ينبني على فكرة الإجماع ويحارب فكرة الإنشقاقات.
ويذهب الوزاني على القول بأن “الإسلام بصفته الشريعة الإنسانية الفاضلة ودين الحق المطلق يرتكز على الإخاء والمساواة والعدل والحرية”، ويضيف أن مسألة “سلب الناس لحريتهم واستقلالهم؛ هو ما يعبر سياسيا عنه بالاستبداد والاضطهاد، والاستبعاد الذي ينكره الإسلام إنكارا شديدا و تأباه شريعته إباء مطلقا”. إذ أنه يقول “لا طاعة في الإسلام إلى ضمن العدل والحرية”. كما أن “إتباع الكتاب والسنة لا يصوغ مصادرة الأراء مطلقا”؛ ويضيف إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يفتأ “ينادي بحرية العقل، ويعمل على تثبيتها في النفوس وإدخالها في التقاليد العامة”. وقد اعتبر الوزاني أن عدم تحديد الرسول صلى الله عليه وسلم من يخلفه دليل واضح على مدى “الاحترام الواجب لإرادة الأمة في تقرير مصيرها، وصونا لحقها في إسناد رئاستها إلى من تراه الأصلح لسياستها، ونصرا لمبدأ الحرية التي يقدسها الإسلام”.
ويحوز الإسلام، في نظر محمد بن الحسن الوزاني؛ على نظرية معيارية أقوى من نظرية الحقوق الطبيعية؛ إذ تنشد الأمة المسلمة حقها في الحياة باسم الإسلام الذي هو أصل شريعة الحق والمساواة والعدل والحرية، وليس فقط باسم الحقوق الطبيعية الإنسانية وضرورات الحياة العصرية فحسب.
ويخلص الوزاني إلى أن “حرية الرأي هي من أقدم الحريات وأقدس الحقوق الإنسانية، التي يجب على السلطة الحاكمة أن تصونها صيانة أمينة دائمة”.
قد إختلف كل من علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني في نظرتهم لمفهوم الحرية، فعلال في معالجته لمفهوم الحرية كان أعمق وأشمل، بالمقارنة مع الوزاني الذي إقتصر في معالجته لمفهوم الحرية على الجانب القانوني أكثر، لكن بالرغم من هذا الإختلاف فأنهما التقيا في تصورهم للإصلاح السياسي.