حماية الإنسان أم تقليل الخسائر الاقتصادية
الوطن24/ الدكتور محمد فاضل
الآن، وبعد مرورعدة أشهرٍ على جائحة فيروس كورونا المستجد، الذي بدأ في مدينة ووهان الصينية، لا يزال الجزء الأكبر من العالم الإسلامي يواجه صعوبات في التأقلم مع ما أحدثه الوباء من تأثيرٍ.
اتخذت الحكومات في أنحاء العالم كافةً تدابير صارمة تهدف إلى وقف انتشار الفيروس القاتل، ومنها فرض قيودٍ صارمةٍ على التجمعات الدينية، وحتى حظر الصلوات اليومية في المساجد، ومن ضمنها صلاة الجمعة.
حتى إنَّ المملكة العربية السعودية اتخذت خطوةً جذريةً فيما يبدو – وهو إجراء يضر بمصالحها الاقتصادية – ومنعت استقبال الحجَّاج الأجانب، ومن بعدهم حجَّاج الداخل، القادمين لأداء مناسك العمرة. وفي 31 مارس/ آذار، نوَّهت السلطات السعودية عن احتمالية تعليق الحج السنوي، وهو تصعيد لاقى ترحيب الحكومات في مختلف أنحاء العالم والتي تكافح من أجل احتواء واحد من أكثر الأوبئة فتكاً منذ الإنفلونزا الإسبانية التي ضربت العالم في عام 1918.
هل الوباء اختبارٌ من الله؟
لكنَّ هذه التحركات قوبِلت بالجدل في بعض مناطق العالم الإسلامي، حيث قلل الناس من خطر الصحة العامة الذي يُشكِّله فيروس “كوفيد-19″، أو استرسلوا في الحديث عن نظريات المؤامرة المتعلقة بطبيعة الفيروس.
ومن ناحيةٍ أخرى، يقبل عديد من الجماعات والأفراد حقيقة وجود وباء، لكنهم يرفضون الامتثال للقيود المفروضة على ممارسة الشعائر الدينية علانيةً، والتجمعات الدينية الحاشدة لأسبابٍ دينية، بحجة أنَّ الوباء مجرد امتحان آخر من الله يفرضه على المؤمنين، أو أن المسلمين ينبغي أن يعبروا عن ثقتهم بالله، ليحميهم من آثار الوباء من خلال ممارسة شعائر الإسلام علانيةً.
ثمة نقاش يدور على نطاقٍ أقل في العالم الإسلامي حول الالتزام التضامني الذي يدين به المسلمون لأنفسهم وللبشرية في أوقات الطوارئ، مثل أوقات انتشار الأوبئة.
تُهدد جائحة فيروس كورونا بتدمير الجزء الأكبر من الجنوب العالمي، أي الدول النامية، ومن ضمنها دول العالم الإسلامي. ومثلما تعكس الإجراءات التي اتخذتها دولٌ مثل الصين، وتايوان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، تكمن مفاتيح احتواء آثار فيروس “كوفيد-19” على الصحة العامة في تطبيق التباعد الاجتماعي بصرامةٍ، وإجراء اختبارات موسَّعة للكشف عن الفيروس، وتقفِّي أثر مخالطي المرضى الإيجابيين، والرصد المستمر للسكان؛ تحسباً لعودة الفيروس مُجدداً.
كل ذلك يتطلَّب وجود بنية تحتية متطورة للصحة العامة، وسكاناً مثقفين قادرين على تنفيذ توجيهات الصحة العامة، وهما عنصران تفتقر إليهما بعض دول الجنوب. ومن ثم، ربما تضطر بعض البلدان إلى قبول كون “مناعة القطيع” هي طريقتهم الوحيدة للتعامل مع الوباء.
الإنهيار الإقتصادي
محتملٌ أن تنجم عن هذا عواقب وخيمة تقع على جميع البلدان التي تفتقر إلى وسائلِ تنفيذ “أفضل الممارسات”، ومنها ارتفاع معدلات الوفيات إلى حدٍّ كبيرٍ في البلدان المتقدمة التي لا تملك المعدات الطبية اللازمة لإنقاذ الأرواح، وبالأخص أجهزة التنفس الإصطناعي.
لن تقتصر الوفيات على ضحايا فيروس كورونا، لكنها ستشمل أيضاً الأفراد الذين يعانون أمراضاً أخرى وليس بمقدورهم الحصول على العلاج. أولئك الذين يعانون من حالات مرَضية مُسبقاً، مثل مرضى السكري أو مرضى السمنة -وهي أمراض أصبحت منتشرة في عديد من الدول الإسلامية – سيكونون أكثر عرضة لخطر الإصابة بمضاعفات خطيرة أو الوفاة إذا أُصيبوا بفيروس “كوفيد 19”.
تواجه عديد من دول الجنوب خطر الانهيار الاقتصادي، حتى إن لم تُفرَض تدابير التباعد الاجتماعي. فكلما أُصيب السكان بالمرض، تقل إنتاجية القوى العاملة بشكلٍ متزايد.
وبالإضافة إلى ذلك، ستشهد الأزمة الاقتصادية المتزامنة، الحاصلة في العالم المتقدم، انخفاضاً هائلاً في الطلب على الصادرات من دول الجنوب. فضلاً عن التأثير البالغ على الدخل العائد من السياحة والتحويلات المالية من العمال في الخارج.
في الوقت الذي نستعد فيه لحرمانٍ واسع النطاق يطال العالم كله في العام المُقبل (2021)؛ على أثر جائحة “كوفيد19″، ينبغي أن تلعب المبادئ الإسلامية دوراً مهماً في توجيه صانعي السياسات بالبلدان ذات الأغلبية المسلمة، رغم الشائعات المُضللة التي يروِّجها البعض للتخلي عن الالتزام التضامني في مواجهة هذه الأزمة.
تقليل الخسائر
وضع الفقهاء المسلمون قواعد معينة تُطبَّق في حالات الطوارئ، تهدف إلى حماية الأرواح وتقليل الخسائر الاقتصادية. ومثالٌ على ذلك، إذا علقت سفينة في عاصفةٍ بقلب البحر وكانت على وشك أن تنقلب، ينبغي حينها التخلص من البضائع المُحمَّلة عليها، وليس الأشخاص، بموافقة أصحاب السفينة أو من دون موافقتهم. ويُمكن تعويض أصحاب الممتلكات التي فُقدت بحصةٍ من أي بضائع نجت من العاصفة، بنسبة تعادل قيمة بضائعهم المفقودة.
ينبغي للدول ذات الأغلبية المسلمة أن تحمل على عاتقها تعزيز روابط التضامن المتبادل، في ظل هذه الفترة العصيبة، من خلال تبادل الخبرات، والموظفين، والمعدات، والمساعدات المالية في مجال الصحة العامة.
ومما يُثلج الصدر أنَّ هيئاتٍ مثل البنك الإسلامي للتنمية ومنظمة التعاون الإسلامي، اتخذت بالفعل خطواتٍ تهدف إلى التخفيف من العواقب الاقتصادية والصحية الكارثية لهذا الوباء، لكن ينبغي بذل كثير من الجهود في هذا الصدد.
لن تنتهي جائحة فيروس كورونا في أي وقتٍ قريب. لذا ينبغي للمجتمع الإسلامي- وكذا قادته السياسيين- اتباع سياساتٍ تقدِّم إنقاذ أرواح الناس على حساب الربح، مع تأكيد قيمة التضحية الجماعية المشتركة. وبهذا يتمكن العالم الإسلامي، بمشيئة الله، من تقليل الخسائر الحتمية التي ستنجم عن هذا الوباء.
أما فيما يتعلق بالمسلمين وخلافاتهم الداخلية حول خطورة الوباء، وما إذا كان يمثل امتحاناً من الله أم لا، فمن الأهمية بمكانٍ أن تنضم السلطات الدينية المعنية كافةً إلى المسؤولين العموميين، ليؤكدوا ضرورة الامتثال لتدابير الصحة العامة.