دور الاحصاء في صناعة السياسات العامة بالمغرب

يعتبر مجال السياسات العامة حديثا وهاما في علم الإجتماع السياسي، إذ أنه لا يكتفي بدراسة مضمون السياسة، وانما يتطرق إلى كيفية صنعها وتكلفتها وبدائلها وكيفية تنفيذها والمطابقة بين أهدافها المعلنة والنتائج العملية للتطبيق، ويدخل في ذلك تحليل الأثار المتوقعة من تنفيذ سياسة ما.

إن ما يميز فرع مجال السياسات العامة ضمن محددات ارتباطه بحقل علم الإجتماع السياسي، هو سعيه الدائم إلى تناول الدولة انطلاقا مما يصدر عنها من أفعال وأعمال، أي من خلال تناول المدخلات والمخرجات المؤثرة في السياسات العمومية وفي عمليات صناعتها وتنفيذها وتقييمها، وتتبع عوائدها من خلال تناول المدخلات والمخرجات المؤثرة في السياسات العامة وفي عمليات صناعتها وتنفيذها وتقييمها، وتتبع عوائدها من خلال ما تحدثه من تغيير وأثار على المجتمع وحياة الأفراد.

وترتب السياسات العامة بحسب درجة سموها في سلم الهوية القانونية على مستويات داخل هرم الدولة وذلك بالنظر إلى طبيعة الموضوع الذي تروم تنظيمه حيث هناك:

  • السياسات العامة ذات الصلة بتأسيس السلطة وممارستها وكيفية انتقالها؛

السياسات العامة المنظمة لموضوع خاص بالأنشطة العادية للفرد داخل الدولة أو في علاقته بمؤسساتها وعليه يتم التمييز بينهما .*1*

أ.السياسات العامة التأسيسية

السياسات التأسيسية هي السياسات التي تهدف الى خلق وتجديد المؤسسات، فهي مسومة بالاستقرار والديمومة حيث يندرج في مجالها ما يلي:

  • السياسات الدستورية التأسيسية: يتم التعبير عنها بدساتير مكتوبة وتروم تأسيس أنظمة سياسية جديدة ذات خصوصية وجدية مقارنة مع ما هو موجود من أنظمة سياسية.*2*
  • السياسات الإدارية: تهتم السياسة الإدارية بوضع سياسات هدفها خلق دينامية جديدة متميزة بالقطع مع الممارسات السابقة التي أبانت عدم قدرتها على مسايرة التطورات المتلاحقة حتى تتوافق التركيبة العامة لإدارة الدولة ونظامها مع التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
  • السياسات القضائية: يمكن للقضاء أن يكون مصدرا للسياسات التكسيبية من خلال الاجتهاد القضائي فمثلا أرس الاجتهاد القضائي لمجلس الدولة الفرنسي بصدد حكم سياسة قضائية جديدة خولت للقاضي النظر في دستورية القوانين على الرغم من أن الدستور لم يمنحه هدا الحق وسيتم دسترة هده السياسة سنة 1946م حيث أعطيت القيمة الدستورية لإعلال حقوق الإنسان والمواطن مما مكن من ظهور قضاء جديد حسب الفقيه ” أندريه هوريو “*3*

ب. السياسات العامة الإصلاحية:

تهدف هذه السياسات إلى إدخال تعديلات أو إصلاحات تهم الجانب الدستوري أو الإداري:

  • سياسات التعديل الدستوري: يكون هدفها ادخال تغييرات على الوثيقة الدستورية لمسايرة التطورات او الدينامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
  • سياسات الاصلاح الاداري :غالبا ما تهم الهيكلة الترابية وتترجم الى اصلاحات سواء على المستوى المركزي او على الصعيد اللامركزي.
  • يكون الهدف الأساسي لهذه السياسات إنتاج القواعد والأنظمة القانونية أو تغييرها، سواء المتعلقة منها بمجموع إطار الدولة أو التي تهم فقط مجموعة من المواطنين ومن أنواعها:*4*السياسات الانتخابية؛  و  السياسة النظامية.

إن ما يميز مجال السياسات العامة محددات ارتباطه بحقل علم الإجتماع السياسي هو سعيها الدائم الى إحداث تغييرات سياسية واقتصاديو واجتماعية  يكون لها اثار على حياة الناس خاصة و مع  الجديد الذي أتت به الثورة السلوكية في حقل العلوم الإنسانية وكذلك الفكرة التي يراد التأسيس لها الدور الجديد للدولةالذي باتت تمليه ظروف المرحلة الراهنة توسع مجال تدخلها ليشمل قضايا أوسع تندرج في نطاقها قضايا مثل البيئة، الاسرة.

وبعد تدخل الدولة محورا لتخفيف الامن والدفاع عن السيادة الوطنية، وهو ما جعل برنامج الحكومة للسياسات العامة يتسع ليشمل مجالات كانت بعيدة كل البعد عن اهتمام رجل السياسة،لقد ساعدت السياسات العامة ضمن المنظور الجديد لعلم الإجتماع السياسي والذي ظهر بصيغته الحالية في الولايات المتحدة الامريكية في مطلع القرن العشرين باعتباره علما جديدا مستقلا عن هذا التراث، يعطي الأولوية الأمبريقية والاستقراء والجمع الممنهج للمعطيات، وتجريب الفرضيات على المعطيات على عجز السياسة بمفهومها الكلاسيكي، أسبابه عوض الاقتصار كما كان في السابق على الدراسات الوضعية للمؤسسات والنصوص أو تقديم افتراضات حول الشأن السياسي لا تتأسس على تجميع ممنهج للمعطيات المادية فقط، وهو في هذه الصيغة غير المسبوقة يقترب من شروط لعلوم البحثة، الى قوانين حول السلوك السياسي تسمح ليس فقط بمعرفة حقيقة السلوك في الحاضر، بل وقادرة أيضا على التنبؤ بمستقبل هذا السلوك ،و بما أن السياسات العامة تتخذ رسميا باسم جهاز الدولة فإن لهذا الاعتبار تبعات مهمة وأساسية، وهذا ما يمنح للسياسات العمومية مميزات خاصة تنفرد بها وتعطيها أهمية بالغة.  فالسياسة العمومية تعبر منطقيا وافتراضيا على الأقل عن المصلحة العامة، ثم إنها تصدر في إطار محدد مسبقا من المشروعية، ومن المفترض كذلك أن تعبر السياسة العامةعن درجة محترمة من الانسجام، وأخيرا فإن ضخامة فعل السياسة العامة وخطورة المصالح التي تمسها تتطلب درجة كبرى من الواقعية لكي لا تؤدي السياسة العامة إلى إثارة آثار عكسية غير مرغوب فيها.

  • خصائص السياسات العامة :

من خصائص السياسات العامة أنها ذات طابع رسمي وذي استشراف؛ ومن أبرز خصائصها:

  • السياسات العامة ذات سلطة شرعية فبجرد اقرار سياسة عامة معينة من قبل صانعيها لابد من اصدار قانون بشأنها أو مرسوم.
  • السياسة العامة تشمل البرنامج والأفعال التي تقوم بها مؤسسات الدولة المخول لها صلاحيات ضمانها وتنفيذيها وتقدمها وتقويمها. وبذلك فهي تعبر عن توجهات السلطة.*5*
  • السياسة العامة تشمل الأعمال الموجهة نحو أهداف مقصودة ولا تشمل التصرفات العشوائية والعفوية التي تصدر عن السياسة العامة تحتوي على أسلوب معين من الأحداث الحكومية التي ينفذها أشخاص رسميون بدلا من قرارات لم تصل الى مرحلة الانهاء من تنفيذها، السياسة العامة تمتاز بالشمول وتهدف الى تحقيق المصلحة العامة وليس المصالح الخاصة والشخصية.
  • السياسة العامة هي توازن بين الفئات والجماعات المحليةلأنها إستنتاج التفاعلات المختلفة داخل البيئة من احزاب ومصالح ونقابات مما يجعلها محلا للصراع والمساومة والتفاوض بغية تحقيق أكبر المكاسب والمنافع لصالح فئة دون أخرى.*6*

إن السياسة العامة تمتاز بالاستمرارية، فالسياسة العامة تعكس ما يسمى بالجدوى السياسية، أي أنه لابد أن تقيم السياسة العامة قبل المباشرة في تنفيذها حيث تمثل الجدوى مؤشرا هاما من مؤشرات نجاح السياسة العامة وذلك بطرح تساؤلات حول النتائج والأهداف من قبل السياسات.

في بلادنا، كانت عملية صنع السياسات العامة  تتسم بالانفرادية والمزاجية، فبعد إجهاض تجربة التخطيط الاقتصادي التي جاء بها وزير المالية المرحوم بوعبيد، عاش المغرب نوعا من التخبط في صنع المخططات الاقتصادية، فبعد فشل الرهان الكلي على القطاع الفلاحي، تم التفكير في إقامة قاعدة صناعية وطنية صلبة، واصطدم هذا الحلم بنقص في التمويل وبعزوف الرأسمال الوطني عن الاستثمار في القطاع الصناعي.*7*

وبالرجوع إلى منطوق الفصل 49 من الدستور الذي يعرض القضايا والنصوص التي يتداول بشأنها المجلس الوزاري لا نجد ذكرا لتعبير السياسة العامة، ولكننا في المقابل نجد على رأس القضايا المذكورة: التوجيهات الإستراتيجية لسياسة الدولة.

وبالجمع بين الفصلين نصل إلى أن السياسة العامة هي الإطار العام الذي تنعكس فيه التوجيهات الاستراتيجية لسياسة الدولة،استنادا إلى فصول الدستور دائما نستطيع أن نميز بين مستويين من السياسات، ويتعلق الأمر بالسياسات العمومية والسياسات القطاعية، فالوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به طبقا للفصل 93 من الدستور، ومن تم فالسياسات القطاعية سياسات مرتبطة بالقطاعات الحكومية المختلفة كل بحسب اختصاصه، ويمكنها أن تشكل جزءا من سياسة عمومية لأن هذه الأخيرة تبقى أشمل وأوسع لكونها تسمح بتدخل فاعلين اجتماعيين إلى جانب الفاعل الحكومي الرسمي طبقا لما يقضي به منطوق الفصل 13 من الدستور الذي ينص على أنه: ” تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور،قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيليها وتنفيذها وتقييميها.

  • دور الاحصاء في صناعة السياسات العمومية :

يعتبر الإحصاء العام للسكان والسكنى أحد أهم مصادر البيانات السكانية، وذلك بالنظر لما يتمتع به من دقة عالية في تجميع وتصنيف وتقييم وتحليل ونشر البيانات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بجميع السكان في بلد معين أو جزء محدد بدقة من ذلك البلد وفي نفس الفترة.، كما أنه يتيح إمكانية التعرف بشكل دقيق على خصائص السكان من حيث العدد والسن والجنس والمستوى التعليمي والمهنة والهجرة وظروف السكن والتغطية الصحية والمؤشرات المرتبطة بالتنمية البشرية والسياسات الاجتماعية، كما أنه يعتبر إحدى الوسائل المهمة لمعرفة حجم التحولات الديمغرافية والاجتماعية والقيمية لأي بلد من أجل وضع سياسات عمومية ناجعة ومعقلنة ورشيدة عمومية آنية ومستقبلية، كما أنه يعتبر في الدول المتقدمة إحدى الآليات لوضع تصورات وخطط استراتيجية واستشرافية بعيدة المدى، كما أنه يعتبر إحدى الطرق التي تؤدي دوراً مهماً في تحليل واستخراج النتائج لمختلف البحوث والدراسات في مجالات العلوم كافة.

إحدى المصادر الرئيسية لإعداد السياسات العامة لمختلف القطاعات، وبالرغم من تعدد مصادر البيانات والإحصاءات التي تقوم بها العديد من المنظمات الدولية ومراصد الخبرة والعديد من البحوث العلمية، فإن الإحصاء العام مازال يحظى بأهمية كبرى في استيفاء البيانات في المغرب.

ويمتاز هذا الإحصاء الذي يدخل حيز التنفيذ بالمميزات التالية:

الميزة الأولى: يعتبر أول إحصاء مرقمن في تاريخ المغرب

الميزة الثانية: أول إحصاء يجرى بخرائط مرقمنة وذلك باستثمار جميع الأشغال الخرائطية ونظام المعلومات الجغرافية وذلك بالاعتماد على تقنية القراءة الآنية للوثائق.

الميزة الثالثة: إنه إحصاء عام للأفراد والسكنى يستقي العديد من المحاور والمؤشرات التي كان المغرب يعتمد فيها على البيانات الإحصائية للتقارير الدولية ومراصد الخبرة.

ومن شأن بيانات هذا الاحصاء أن يكون مدخلا لصناعة السياسات العامة بالمغرب، اذ استثمر صانعي القرار السياسي والفاعلين العموميين معطياته في تشخيصهم لوضع السياسات العامة في البلاد .

ان البيانات الاحصائية التي تقوم بها الدولة بواسطة استمارة منظمة وشمولية تتوفر على محاور متعددة من شأنها أن تكون مدخلا لبناء السياسات العامة من خلال توجيهها لمجالات تدخل صانعي القرار السياسي والفاعلين العموميين ،لكن كل هذا يتطلب باحثين لهم معرفة بالوقائع الاجتماعية وعلم الاجتماع العلمي والعملي.

إن زمن السياسات العامة مرتبط بالوثائق والمنشورات والمذكرات والتوجيهات التي تتضمنها هاته السياسات، واذا كانت كل هاته الأشياء مبنية على بيانات وإحصائيات غير دقيقة فإن تموجات أثرها يذهب في الاتجاه المعاكس.

إن دور الاحصاء يجب أن يكون أولوية لبناء السياسات العامة في المغرب ومدخلا في التخطيط الاستراتيجي وفي تقييم وتتبع السياسات العامة واستشراف الحاجيات المستقبلية للسكان في عدة مجالات كالتربية والتعليم والصحة والتشغيل والهجرة والسكن والبيئة وذلك على الوطني والمحلي ،كما أن الاحصاء يمكن من إعداد قاعدة بيانات بطريقة علمية جميع البحوث لدى الاسر سواء من طرف مؤسسات عمومية أوخاصة وكذلك من تجديد عدد الساكنة لكل فئاتها المستعملة في احتساب المؤشرات الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية والبيئية ويمكن كذلك من توفر المعطيات الضرورية لإنجاز الاسقاطات الضرورية عبر تجويد السياسات العاموة وعقلنتها وتكييف مختلف البرامج مع مصلحة البلاد ورفاه الشعب .

  1. كحلاوي عبدالرحيم، إندماجية السياسات العامة بالمغرب ومتطلبات التنمية المحلية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية، جامعة عبدالمالك السعدي، طنجة،2016ـ2017، ص 48.
  2. علي الحنودي، الدولة وتدبير السياسات العمومية الترابية، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد مزدوج 134ـ 135، ماي 2017، ص 186.وثيقة دستور المملكة المغربية 2011.
  3. المرجع نفسه.
  4. حسن طارق، السياسات العمومية بين السياسة والإدارة ملاحظات حول الإدارة المغربية، المجلة المغربية للسياسات العمومية، العدد 7 سنة 2011، ص17
  5. وصال نجيب العزاوي، 2003: ” مبادئ السياسة العامة” دار النشر والتوزيع اسامة، الطبعة الاولى، الاردن، عمان، ص3.
  6. جفري سعيد، قضايا علم السياسة، مقاربات نظرية، مطبعة دار المناهل، الرباط، 2018، ص 160.
  7. الصالحي ياسمين، 2014: مفهوم السياسات العامة والسياسات العمومية والسياسات القطاعية في ضوء دستور 2011، ص 1.