( رواية البعيدون) قراءة مختلفة أو درجة الغفلة في القراءة .

الوطن 24/ أحمد الطود

أحمد الطود

الفصل الثالث : إدريــــس

الجزء الأول :
   لا نجد في الأوراق التي سلمها إدريس للراوي ما يدل على أنها مذكرات ، فالمذكرات ـ كمصطلح ـ تسجيل أحداث عامة جرت خلال حياة كاتبها ، وكان له فيها دور بارز ، أو كان له حظ معايشتها ومراقبتها عن كثب ، إنها سرد يقص فيه الكاتب تاريخ عصره ومجتمعه من خلال رؤيته وتقويمه للأحداث ، فهي ليست تاريخا بقدر ما هي تبرير لأحداث تاريخية .

   ومع ذلك سنسلم تجاوزا ـ وتجنبا للخوض في ما لا تتسع له سطور هذه القراءة ـ بأنها (مذكرات) رغم أنها ليست سوى كلام صادر عن متحدث عن نفسه يستعرض فيه تجارب شخصية جدا وخاصة به وحده .

   فما هي التجربة الذاتية التي سجلها إدريس في أوراقه / (مذكراته) ؟ ..
   ما قيمتها وما جدواها وماهدفها ؟ ..
   فإن كانت لها من قيمة وجدوى وهدف ، فما معنى تخليه عنها لشخص لا تربطه به إلا علاقة واهية جدا هو الراوي ؟ .

    لقد كفانا إدريس عناء البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة ، إذ قال للراوي وهو يسلمه مذكراته أو بالأحرى يتخلص منها :
   [  قد أفرغت فيها أشياء كثيرة عن حياتي ، وستجد بها أجوبة كافية عن كل ما يراودك من أسئلة ] (ص29) .
   وبعد سطر واحد في الصفحة ذاتها ، أضاف مخاطبا الراوي :
   [ ربما لن تجد بها أجوبة شافية … إنما وأنا أدون مذكراتي لم أضع نصب عيني أي سؤال … لكنني بعد أن عدت لقراءتها وجدت  أنها تـثير سؤالا محيرا ].
   وبدلا من أن يسأله الراوي توضيحا لهذه الخلطة الكلامية ، سأله :
   [  لماذا تهديني مذكراتك ؟ ] .
   فكان جواب إدريس : [ … ربما لأني فكرت يوما في إحراقها … لأني لم أجد بها شيئا ذا أهمية أو هدفا مشجعا على نشرها ] (ص30)  .
 
    نحن الآن أمام (مذكرات) فريدة من نوعها ، فيها أجوبة كافية ، وفي الوقت نفسه ليس فيها أجوبة شافية . لم يضع كاتبها نصب عينيه أي سؤال ، ومع ذلك يزعم أنها تـثير سؤالا محيرا . ورغم هذا الخلط فسنقلب صفحاتها لنتعرف تركيبة شخصية بطلها إدريس من خلال حديثه عن نفسه . لكن .. قبل ذلك يجدر بنا أن نسجل ثلاث ملاحظات هامة  :

   أولاها : 
   إن هذه (المذكرات) التي بين أيدينا ليس فيها جملة واحدة باللغة الإسبانية ، مع أن كاتبها إدريس قال وهو يهديها للراوي : [ …  مزجت في كتابتها بين العربية والإسبانية لأدرأ ما قد يعيق انسياب أفكاري ] (ص29)  . فلا نعرف بالتحديد ما هي العبارات أو الفقرات أو حتى الفصول التي كتبت أصلا بالإسبانية ، وحتى الرسائل التي كتبت أصلا بالإسبانية لا نعرف بالضبط من ترجمها إلى العربية . هـذا إذا لم يكن المزج بين اللغـتين فيها في المذكرات مجرد زعم من صاحب (البعيدون) للتزويق والتنميق .

   وثانيتها :
   إن زمن هذه (المذكرات) يبتدئ باليوم السابق ليوم الرحيل السري لإدريس عن مدريد أواسط يوليوز 1968 ، وينتهي بحفل العشاء الذي حضره إدريس مرفوقا باليهودية إستر في شقة زميله ستيف أواخر ماي من سنة مرض الجينرال فرنكو الأخير ، أي سنة 1975 التي أقحم فيها صاحب (البعيدون) تعسفا حرب المالوين التي لم تشتعل إلا بعدها بسبع سنوات في 1982 . كما وضحنا ذلك في الفصل الذي خصصناه لـ ” الزمن في (البعيدون) ” .
   أما الملاحظة الثالثة :
   فهي أن بين توقف إدريس عن تدوين (مذكراتـ)ـهِ سنة 1975 وبين لقائه الأول بالراوي في لندن سنة 1999 يوجد فراغ طويل مدته أربع وعشرون سنة .

    ولابد أيضا قبل تقليب صفحات (المذكرات) أن نتذكر (الصفات والمزايا والفضائل) التي أغدقها صاحب (البعيدون) في الفصلين الأولين ، بلسان الراوي على إدريس :
   – إنه زعيم طلابي .

   – خطيب مفوه يحرك وجدان الطلبة .
   – مثقف متمكن .

   – أجمع الكل على أنه فنان عبقري موهوب .

   – صحافي مواكب لمستجدات الفكر والفن والحياة .
   هذا ما نطق به الراوي معظِّما صديقه ومسبحا بحمده ، قبل أن نعثر على صفة أخرى أضفاها إدريس على نفسه وهي أنه :
   – ينبذ كل أدب غير ملتزم .
   ولاشك أن تلك الصفات إن اجتمعت في شخص ما ، فلابد أن يكون متميزا متفوقا ، له أهداف سامية يسعى جاهدا إلى تحقيقها .

   وهنا يمكننا أن نتساءل :

   أكان إدريس حقا متصفا بتلك الصفات ؟

   أم أنها مجرد لباس فضفاض مضحك على جسد هزيل نحيل ضئيل ؟

   عندما تأملنا مليا شخصية هذا البطل اتضح لنا أنه عجينة اختلطت فيها مواد غير متجانسة ، فقد لفق صاحب (البعيدون) ملامحها تلفيقا فبدت نشازا فاضحا ، وما ذاك التلفيق إلا لعجزه عن بنائها بإحكام وتـناسب وانسجام .

   إدريس إذاً .. طالب مغربي جامعي بكلية الآداب في العاصمة الإسبانية مدريد ، لا بل هو كما أوهمنا الكاتب زعيم طلابي ، فكونه يلقي خطابا يعني أنه مناضل ملتزم يعمل في إطار نقابي مسؤول ، وهذا يوحي لنا بأن له مستوى عاليا من الوعي يؤهله لمواجهات سياسية ، واقتحام مجالات فكرية ، وركوب نضالات مستميتة دفاعا عن قضايا وطنية وقومية وإنسانية ، وأن له رؤية ثقافية حضارية متميزة . لكننا لا نجد من ذلك الخطاب إلا صورة لإدريس – عثر عليها الراوي في رزمة الرسائل – وهو  [ يمسك جهاز الميكروفون متصدرا حشدا من الطلبة العرب ] (ص16) .
   فلماذا أخفى صاحب (البعيدون) مضمون ذلك الخطاب ؟ 

   وهل كان الخطاب منسجما مع توجه المنظمة الطلابية التي كانت وقتئذ شوكة في حلق النظام المغربي ؟ ومنسجما مع الثورة الطلابية تلك السنة في مختلف العواصم وخاصة باريس ؟
   ولماذا اختار لبطله أن يهز بخطابه وجدان الطلبة لا أن يحرك به عقولهم وألسنتهم في مناقشات هادفة ؟

   إن الخطاب الذي يُلقى في حشد من الطلبة ليس قصة يحكيها حكواتي في مقهى ، وليس أغنية عاطفية في ملهى ، وليس تعديد ندابة في مأتم ، ولكنه طرح قضية أو قضايا تـتصل بالواقع الطلابي ، وبالتيارات الفكرية المتصارعة وترتبط بالأحداث السياسية في تلك الفترة الحرجة المتوترة من التاريخ المغربي / العربي ، طرح من شأنه أن يُجَلِّي أفكارا وأن يثير جدالا ونقاشا ، كما أن الظرف الذي ألقي فيه تلك السنة كان دقيقا وخطيرا :

   مغربيًا : 
   كان ضحايا 23 مارس 1965 – وهي السنة التي انتقل إدريس في شهر أكتوبر منها للدراسة بمدريد – ما يزالون يتململون في قبرهم الجماعي المجهول ، بعد إعلان حالة الاستثناء ودخول المغرب في ما سمي بــ ” سنوات الجمر والرصاص ” ، وكانت أسرهم ما تزال تعاني آلام فقدهم ، وكانت الجينرال الدموي أوفقير يصول ويجول بقبضته الحديدة ، وكان الشد والجذب على أشده بين النظام المغربي والمعارضة في الداخل والخارج .

   إسبانيًا :
   كان الخينيراليسمو فرنكو بديكتاتوريته باسطا نفوذه ، وكانت إسبانيا تحتل المدينتين المغربيتين السليبتين سبتة ومليلية وعددا من الجزر والصحراء المغربية .

   عربيًا :
   كانت جراح نكسة حزيران 1967 في أوج تعفنها وإيلامها للجسد العربي على امتداد الخريطة العربية . رغم النصر الجزئي الذي حققته معركة الكرامة …

   دوليًا :
   كانت الثورة الثقافية الصينية قد دوى صداها في العالم ، وكان الطلبة في بيكين وشنغهاي ولندن وباريس وروما وبرلين يتحركون ضد بيروقراطية النظم القديمة ، وكانت أحداث ماي 1968 في فرنسا ، وكانت الآلة الحربية الأمريكية الإرهابية مستمرة في حصد أرواح الفييتناميين .
   فما معنى القفز على مضمون خطاب إدريس ؟

   بل .. أين كان إدريس من كل ما جرى ويجري من أحداث ؟
   وبماذا هز وجدان الطلبة في خطابه ؟


   لا نملك من جواب سوى أن صاحب (البعيدون) اختار السير في طريق السلامة تجنبا لتوريط بطله وتوريط نفسه في مواقف لا قبل لهما بها ، وأيضا ليقينه أن ادعاء زعامة صورية لبطله كافٍ للرفع من شأنه مادام غير مؤهل بالفعل لأداء دور الزعيم الطلابي الذي يحمل هموم الطلبة المغاربة والعرب ، ويفكر في قضاياهم ، ويناضل من أجل حقوقهم ، ويقف المواقف المعبرة عن وعي ناضج شريف تجاه وطنه وأمته ؛ لقد آثر لإدريس زعامة من نوع آخر : زعامة السهرات الجنونية مع من كانوا يواظبون على ارتياد الملاهي الليلية والسهر في المغارات أكثر من مواظبتهم على الدراسة الجامعية (ص13) .. فكيف يكون زعيما طلابيا من كان لا يفرق بين اليمين واليسار حتى في جسده بسبب نظره المضبَّب ووعيه المغيَّب . كما سيتضح من خلال رصد سلوكه في المذكرات.

   إن بطولة إدريس الحقيقية لم تكن إلا في علاقاته المتعددة مع النساء :

   أخبرنا الراوي أنه بعد لقائه الأول بإدريس في المطعم الجامعي كلينيكو ، التقاه صدفة صحبة بيلار المدريدية زميلته في كلية الآداب .
   وبعد أسابيع التقاه صدفة ثانية مع ماري كارمن المشهورة في مسبح الجامعة بعزفها على القيثار.

   وبعد أن صارا صديقين أخبرنا بكذب إدريس على الصحفية الفرنسية المتخصصة في النقد التشكيلي لضمان حضورها إلى غرفته.

   لكنه حين زاره في شقته اللندنية سنة 1999!؟ أي بعد أكثر من ثلاثين سنة على اختفائه ، لم يجد إلا ملابس نسائية داخلية معلقة على مشجب بغرفة النوم ، وصورة ( فوطوشوب سرديا ) فبركها صاحب (البعيدون) لإدريس مع ثلاثة من أفراد فرقة البيتلز وإلى جانبه امرأة جميلة هي إستر اليهودية ، في وقت كانت فرقة البيتلز فيه قد صارت في خبر كان منذ 1970 كما وضحنا ذلك فصل ( الزمن في البعيدون) .
   أما إدريس ، فسيؤكد لنا في مذكراته أنه كان زير نساء ، وسيقدم لنا تفاصيل حتى عن علاقاته العابرة مع من صادفهن في الطريق مثل :
   – ” إيلين “ الممرضة الفرنسية العائدة صحبة ابنها الصغير من شاطئ ماربيا الإسباني والتي استضافها في القطار ثم رافقها إلى منزلها في باريس …
   – الهولندية ” كريستيان آيسن “ التي تعرف عليها في رحلة قام بها إلى أمستردام قبل عامين من مغادرته مدريد ، واستمرت علاقته بها إلى ما بعد استقراره في لندن مع انقطاع لافت بينهما طيلة عامين بين عودته من أمستردام ومغادرته مدريد . [ الملاحظ أنه بعد عودته من أمستردام لم يذكر كريستيان آيسن بين من ذكرهن وهو ما يزال مقيما في مدريد ، فلم يذكرها إلا في استرجاع وهو في القطار متجه إلى لندن ، كما أن اتصاله بها لم يبدأ إلا بعد وصوله إلى لندن ، فماذا عن علاقتهما بعد عودته من أمستردام ؟ أين كانت ؟ وكيف استمر حبها له مع هذا الانقطاع بينهما خلال عامين متتابعين ؟؟ الجواب عند صاحب (البعيدون) ]
   كما أخبرنا أن فراشه كان كأروقة الأمم المتحدة تعبره لهجات وجنسيات مختلفة ، وأنه لم يكن يفرق بين ابنة حارس عمارة أو ابنة ضابط في جيش فرنكو .

   ولم يفته في لحظات الفراغ الجنسي أن يـتذكر اللواتي رمقهن بنظرة شهوانية حالما بمضاجعتهن أو امتلاكهن مثل :
   ” مايطي “ شقيقة صديقه أنخل دي رامون رفيقه في السفر إلى لندن .
   وعارضة الأزياء ” جين برايز “ اللندنية التي آوته – في حادث ملفق ومبتذل – في غرفة نومها إثر حالة إغماء افتعلها له صاحب (البعيدون) في لندن ليلفت الانتباه إلى شهوته العارمة رغم قوته الخائرة !!؟؟ (ص119) .
   وفتاة رشيقة في محطة لندن رآها فتيقظ شعوره ودق قلبه .
   وفي الحافلة المتجهة إلى حقل تشغيل الطلبة صاغ في ذهنه شكل الصبية الإنجليزية التي سيتخذها صديقة .
   وعندما وجد حقل تشغيل الطلبة سجنا نائيا عن الحياة لخلوه من الفتيات تذكر لملء الفراغ النساءَ اللواتي يغسلن الصوف بالواد الجديد في القصر الكبير ولإحداهن صدر يهتز على إيقاع خطوها .
   وآخرهن : ابنة أخت مدير مجلة فواصل اليهودية إستر التي تعرف عليها منذ بداية عمله مترجما في مجلة خالها ، واستمرت علاقته بها وحدها ما يزيد عن ثلاثين سنة دون أن يشرك بها غيرها من نساء إنجلترا .

   هذا هو إدريس ..
   شاب تعطل عقله عن التفكير انبهارا بقشور أوروبا ، وتعطلت عاطفته عن العمل فلم يجد ما يشق به طريقه في معترك الحياة سوى عضو ذكورته ، فاستسلم للغريزة على حساب العقل والعاطفة جميعا .. لا يفكر إلا في إشباع نهمه الجنسي .. يرفض العلاقة المستقرة ويلجأ إلى التنويع المستمر والتبديل الدائم .. يقف موقفا معاديا من كافة القيم .. يحتال بالوعود والأكاذيب من أجل تحقيق مآربه .. يدعي الحب وهو عاجز عن ربط علاقة ترتفع عن الشهوة إلى العاطفة الإنسانية العميقة السامية والتفكير الإيجابي السليم . وكما قال الراوي بمنطقه المضحك : [ يحب بيلار ولكنه لا يستغني عن ماري كارمن (ص16) ] ، وهو يعني أنه يحب في اللحظة الواحدة أكثر من امرأة ، أي أنه في ذات اللحظة لا يحب أية امرأة .. وحين تغيب المرأة ينشط خياله ليحدج أية عابرة أمامه أو في ذاكرته .

   تضعنا علاقات إدريس المتعددة مع كل أولئك النسوة أمام خيارين :
   إما أن نصدقه في ما أخبرنا به عن (فتوحاته) الجنسية ، فنكون أمام زير نساء مهووس ، وبطل حقيقي في الاستهتار بعواطف النساء والفتيات وامتهان كرامتهن واستغلال أجسادهن لإشباع شرهه وإرواء شبقه المرضي استغلالا يجعله ساديا بامتياز .
   وإما أن نعتبر تلك البطولات في معظمها رغوةً كثيفة ناتجة عن مخاض داخلي عنيف في شخصيته التي تعاني فقرا مدقعا إلى ما تفتخر به ، وعجزا هائلا عن القيام بعمل بطولي حقيقي تسعد بإنجازه وتـتمجد به .

   سنصدقه ليس ثقة به ..
   ولكن لأن ما نطق به وسجله على نفسه في مذكراته هو وحده سبيلنا إلى قراءة شخصيته والحكم عليها .


   تبدأ (مذكرات) إدريس شكليا باستعداده لمغادرة مدريد نحو لندن صحبة صديقه الجديد الإسباني أنخِلْ دي رامون أواسط يوليوز سنة 1968، وتـنتهي بحفل العشاء الذي حضره إدريس مرفوقا باليهودية إستر في شقة زميله ستيف أواخر ماي سنة مرض الجينرال فرنكو ووفاته سنة 1975. مع ما تخلل هذين الحدثين من استرجاعات تعود بالقارئ إلى بعض أحداث السنوات الثلاث التي قضاها في مدريد ، وأحداث قليلة متفرقة من طفولته في القصر الكبير . وبين تاريخ انتهاء المذكرات واللقاء الأول للراوي بإدريس سنة 1999 ، فراغ كبير بلغ أربعا وعشرين سنة كما لاحظنا ذلك آنفا .

   تقدم لنا (المذكرات) إدريس شخصية نمطية جاهزة محنطة ، تحتل علاقاته بصاحباته أو عاشقاته ـ كما حاول أن يوهمنا ـ الجزءَ الأكبر من مساحتها . إن عاشقاته هن محركات فكره ومثيرات أحلامه وحافزات سلوكه ، هن المستوليات على جهازه العصبي ، لا يشغله عنهن أي حدث في مهجره أو في بلده أو في العالم . لقد أبقينه أو لقد بقي بسببهن خارج جغرافية الوطن بل وخارج التاريخ . حكاياه عنهن يتناسل بعضها من بعض ، فلا يبدأ الحديث عن إحداهن إلا ليصله بالحديث عن أخرى . والمتأمل في هذه المذكرات يصل إلى نتيجة هي أن صاحبها يفكر بنصفه الأسفل ، أو أن نصفه الأسفل هو المتحكم في عقله وخياله ووجدانه .وهذا يعني أن عاطفته غائبة تماما في علاقاته بصواحبه ، وإن ادعى من حين لحين أنه محب .



   فهل كان محبا حقا ؟

   أهم ملاحظة غفل عنها الغافلون هي أن علاقات إدريس النسائية أو ما يمكن تسميته بـ (غرامياته) لم تبدأ إلا بعد التحاقه بمدريد ، فهو لم يذكر من حياته في القصر الكبير شيئا، لقد أحرقت ذاكرته ماضيه في بلده المغرب ، ولم تفلت من ذلك الإحراق المتعمد إلا نتف أشار بها إلى أحداث عابرة متفرقة . ونحن نميل إلى الاعتقاد أنه لم تكن له أية علاقة مع أية فتاة أو امرأة في المغرب غير والدته ، وهذا يعني أنه بحكم محافظة المجتمع المغربي وانغلاقه خاصة في القصر الكبير ، وصل إلى إسبانيا يختزن في عقله عصورا من الكبت العاطفي ، وفي جسده صحراء من العطش الجنسي . لقد وجد في إسبانيا المرتع الخصب والمجال الفسيح لإشباع رغباته العارمة في الدخول إلى عالم النساء وللتنفيس عن ضغوط حرمانه الكبير منهن في المغرب ، فانفتحت شهيته وتفرغ لهن تفرغا كليا أو شبه كلي وصار  جوعه الجنسي هوسا ينخر نفسه ويستلب عقله ويوجه خطاه .

   لكن ..

   لابد أن نلاحظ في حديثه المسترسل عن علاقاته النسائية أنه جعل نفسه معشوقا أكثر منه عاشقا ، وأن من ارتبط بهن افـتَـتَـنَّ به وأسلمنه قيادهن في سهولة ويسر ، بل في شوق إليه ورغبة فيه دون تمنع أو دلال ، وذرفت عيونهن من أجله الدموع الغزار . ما إن ينظر إلى إحداهن حتى تسقط صريعة هواه مهما كان مستوى جمالها وأنوثتها ، ومهما كانت طبقتها الاجتماعية . ومن أين لإحداهن ألا تهيم بقمر غمر نوره المكان على امتداد الزمان . فهل كان فعلا قمر المكان وضوء الزمان ؟

   لقد أولى اهتماما بالغا في مذكراته بـ (عاشقاته) فركز على محاسنهن ومفاتـنهن وجاذبيتهن أو بالأحرى انجذابهن إليه دون أن يُغفل نظرته الشبقية إليهن ، لكنه لم يقدم لنا أية صفة من صفاته الخارجية المظهرية ، فلا ندري أكان طويلا أم قصيرا ، بدينا أم نحيفا .. فما سر هذه الكاريزما التي ألصقها صاحب (البعيدون) بشخصيته وجعلت النساء ينصعن له دون أن تفكر إحداهن في ما إن كان يحبها حقا أم لا ؟ .. حتى ليمكننا أن نسأل مازحين : ما السر في أن الغنم إن رأته ذهلت عن أعشاب الحقل ؟ وأن نتمادى في المزح قائلين : لو أن صواحب سيدنا يوسف رأينه لقطعن أوداجهن بدل أيديهن افـتتانا بطلعته البهية وانبهارا بإشراقته السنية .

   سنحاول إلقاء بعض الأضواء لكشف سر هذا البطل إدريس من خلال علاقاته ببعض نسائه :

    بــــيــــلار :

     هي الأولى في الترتيب بين من تعرف عليهن في إسبانيا .
   عندما وصل إلى مدريد في أكتوبر 1965 أي قبل ثلاث سنوات من رحيله عنها للاستقرار في لندن ، كان همه الوحيد هو الارتباط بإحدى الفتيات الجامعيات ، وما إن وقع نظره على بيلار لأول مرة في مقصف كلية الآداب وهي تحمل كتاب ” تاريخ الثقافة العامة ” ، حتى [ تـقرر ما كان مقررا قبل أن أركب البحر إلى إسبانيا ] كما ردد في نفسه (ص36) . ولأنه كان ما يزال يحمل تهيبا من الجنس الآخر ، رسخته فيه حياتُه في المجتمع المنغلق في القصر الكبير ..  فقد استولت على أوهامه فصارت [  الملاك الذي جاء بي إلى مدريد ] ، وصمم على أنه [ بامتلاكها أكون قد امتلكت إسبانيا كلها ] – لنقف متأملين كلمة “امتلاكها”، متذكرين ما قاله حسنين في ” بداية ونهاية ” لنجيب محفوظ حين رأى في الفيلا ابنة أحمد بك يسري : ” إن ركوبها يعني ركوب طبقة بأسرها ” -.

   دنا منها باحتراس مسترقا النظر إليها ، بينما كان قلبه يخفق ، وقضى [ عدة أشهر ] ـ على طريقة المراهقين في القصر الكبير ـ  يقتفي أثرها ويراقبها من بعيد ، ويحلم ليل نهار بها تحاوره وتراقصه وتزوره في غرفته و [  أمور أخرى خلتها قبل أن تحدث ] (ص37) . وهذه الأمور الأخرى هي بيت القصيد المختصر المفيد الذي كان يبحث عنه وهو يسعى إلى ربط علاقته بها .. قد كان كالتمساح الذي يتابع من تحت الماء فريسته في انتظار الانقضاض عليها ..  إلى أن كان ذلك المساء الشاتي حيث أسعفته شجاعته فأقحم عليها نفسه بعد نزولهما من الترام ، مختبئا تحت مظلتها من المطر ـ دون اعتراض منها أو احتجاج ـ  وسارا معا ، وكان هذا ـ حسب روايته هو ـ لقاءَهما الأول الذي أعقبته لقاءات أخرى قبل أن يصطدم بعطلة رأس السنة الميلادية التي حالت دون لقاءاتهما . هنا نتوقف لنلفت انتباه صاحب (البعيدون) إلى أن المدة الزمنية بين بداية الدراسة الجامعية أواسط شهر أكتوبر وعطلة رأس السنة أواخر دجنبر لا تـتجاوز الشهرين إلا بأيام قليلة ، أي أنها لا تستغرق تلك الـ [عدة أشهر] التي أخبرنا السي إدريس أنه قضاها يقتفي خطى بيلار ويراقبها ويحلم بها .. وإذا كانت عطلة رأس السنة التي واجهتهما بعد تعارفهما [ سورا زمنيا ] منع لقاءاتهما كما أخبرنا إدريس في (ص 38) ، فمتى كان لقاؤهما الأول تحت المظلة ؟ ، ومتى كانت لقاءاتهما الأخرى قبل العطلة ؟

   خلال لقاءاتهما الأولى بمقهى مانيلا كان عيـبه ـ كما ادعى ـ أنه يكـتم عنها عواطفه ، ولا نرى هذا الكـتمان لحُبسة في لسانه ، بل لعقدة في نفسه ، كان ينتظر منها أن تبادر هي بإعلان حبها له ، لكن [ عيبها أنها كانت تـتستر على عواطفها ] (ص38). ويبدو أن المسكينة حين أعياها انتظار خروجه عن صمته معترفا لها بحبه ، ترددت كثيرا فخذلها لسانها ، لذا كـتبت له رسالة ، غير أن كبرياء الأنثى لم تطاوعها فقامت بما وصفه لنا في هذا المشهد : [  حدجـتها ـ نرجو الانتباه إلى منتهى (الرقة) في عاطفته ! ومنتهى الدقة في تعبيره بالفعل : حدجتها !!  ـ  وهي تـتناول حقيبتها وتخرج منها رسالة تمعَّـنـتْها  قليلا ثم أخذتْ تمزقها قطعا صغيرة إلى أن طمستْ معظم حروفها وألقت بها في منفضة سجائر على مائدتنا ]    (ص38)  .. لكن إدريس تحايل وأفرغ المنفضة في جيب سترته بما فيها من مزق وأعقاب سجائر ورماد . وفي غرفته ألصق جزيئاتها فاكتشف أخطر سر في حياته ، وفاضت دموعه ، دموع التمساح من فرط السعادة .. فإن رفض أن نشبهه بالتمساح ، فليس أمامنا إلا أن نشبهه بما شبه به نفسه مرارا أي الذئب ، ونقول : إننا لا نعتقد أن سعادته كانت لأنه وجد في بيلار راحة قلبه واطمئنان نفسه ، بل كانت سعادةَ ذئب يظفر للمرة الأولى بفريسته المشتهاة .

   لقد دغدغ ذلك السر الخطير الكامن في سطور تلك الرسالة غروره وأرضى نرجسيته.

   نرجسيته ؟
   نعم .. فهو لم يكن يعشق بيلار ولا غيرها ، وإنما كان يعشق ذاته ، ولا أحد غير ذاته ..    لقد بدأ تعشقُه ذاتَه منذ كان طفلا يقضي الساعات الطوال محدقا في مرآة بغرفة نومه عندما كانت أمه تغادر البيت : [  ولولا تلك المرآة لما كنت أطيق البقاء ساعة واحدة في تلك الغرفة الشبيهة بالسجن ]  (ص35) . وهذا ما أكده عندما كان على سرير عارضة الأزياء جين برايز بقوله : [ وقع بصري على مرآة في مواجهة سريري ، مرآة كبيرة صافية خيّل إلي أنها تلح على اجتذابي إليها ، ذاك شأني مع المرايا منذ كنت صغيرا ، وفطنت إلى أنني أطلت النظر إليها زمنا ضاع مني ضبطه] (ص116) . إننا ونحن نتابع إدريس في تحركاته وعلاقاته ليتأكد لنا من خلال أنانيته وغروره وتعاليه ، وشعوره بعظمته ، وحرصه على إعجاب الآخرين به ، ومصادقته مَن يُطرون أفعاله ويعترفون بأهميته ممن هم دونه تفكيرا ، وأيضا من خلال برودة إحساسه تجاه الآخرين وخاصة في المواقف العاطفية الحساسة … يتأكد لنا أنه شخصية نرجسية .. كما أنه من خلال تلذذه بآلام غيره ، واضطرابه وتخبطه وأفعاله غير الأخلاقية ، واستغلاله المرأة ، وضعف ضميره ،وكذبه ونفاقه وعجزه عن الشعور بالحب ، واستهتاره بالقيم … ليؤكد لنا بما لاشك فيه أنه شخصية سيكوباتية .

   لم تكن راحته إذاً إلا في أن يكون معشوقا لا عاشقا، ورغم تأكده من حب بيلار له ، استمر يلعب معها دور العاشق كاتما عنها حقيقة رغبته فيها .. ويبدو أن الحس الأنثوي الفطري كان فيها معطلا وهي تـنتظر منه أن يبادر بإعلان حبه لها ، واستمرت هي الأخرى كاتمة حبها له ، فلما أعياها الانتظار انفجرت بما عبرت عنه في  رسالتها إليه بعد أسابيع من  مغادرته مدريد إلى لندن وهي تستعرض بعض ذكرياتها معه : [  أنا حاضرة أيضا في ملهى آلكس ليلة 24 ديسمبر في العام الأول لتعارفنا حين بحت لك بحبي وأنا أبكي ] (ص 124)، – نثبت هذا التصريح ونحن لا ندري أنصدق أنها كانت مع إدريس ليلة 24 ديسمبر في العام الأول لتعارفهما ؟  أم نصدق إدريس وهو يخبرنا أن لقاءاته الأولى بها استمرت إلى آخر يوم دراسي قبل عطلة أعياد رأس السنة الميلادية حيث [ تمادينا في لعبتنا المحرقة إلى آخر يوم دراسي قبل عطلة أعياد رأس السنة الميلادية . جلسنا في ذلك المساء الأخير في مقهى مانيلا … نتبادل أطراف أحاديث مكسورة … كنت أسرح عنها في خيالي أنشغل بالسور الزمني الذي سيفصلنا طيلة أيام العطلة… كادت جلستنا تصاب بالشلل ، فقد قالت لي بأنها لن تستطيع مقابلتي خلال أيام العطلة … ] (ص38).

   وقبل ذلك ، لا ندري أيضا ..

   أكان لقاء تعارفهما كما ورد في قول إدريس : [  في ذلك المساء الأزرق الشاتي ، وكنا نغادر ترام الكلية ، دفعتني رغبتي المؤرقة لأنبعث إلى جانبها وأشاركها مظلتها ، كانت الخطوة الأولى في طريق تحقيق حلمي ، ذلك الحلم الذي كان قد بدأ قبل عدة أشهر. تـناولت من يدها مظلتها واختبأت إلى جانبها من زخات المطر ] ؟ (ص37).   أم كان لقاء تعارفهما كما ورد في رسالتها المشار إليها آنفا : [ حقيقة أوجد الآن في مقهى كويا ـ حيث كانت تكتب الرسالة ـ  ، لكنني حاضرة في مقصف الكلية عندما تعارفنا وتحدثنا لأول مرة… ] ؟ (ص124) .

  أنصدق أحدهما أم  نترك صاحب (البعيدون) يفكر لعله يفلح في تلفيق جواب ينشره في بيان حقيقة حول هذه المطبات السردية التي حفرها بيده ولم يشعر أنه قد أوقع نفسه فيها.            

   ولنتابع البطل إدريس في (بطولاته الملحمية) :
   كان يمكن أن نصدقه في ما ادعاه من إحساس بالسعادة لو أنه قابل مشاعر بيلار النبيلة نحوه ، بمشاعر أنبل نحوها ، ولو أنه وجد فيها الميناء الذي ترسو عنده سفينة قلبه ، لكنه لم يتخذها سوى محطة للاستراحة المؤقتة كلما أتعبه البحث عمن تحل محلها في فراشه ، وسوى عجلة احتياط تضطر إليها وقت الأزمة مركبتُه التائهة الضائعة في اضطرابه النفسي ، بين نرجسيته وجوعه الجنسي . لقد كان ذئب امرئ القيس ” إذا ما نال شيئا أفاته ” ، أما إدريس فهو الذئب الذي لا يفرق بين الحمل والخروف (ص55) ، ومع ذلك يذخر من صيده ما يشبعه وقت الحاجة .. لقد عرف كيف يقـنِّع ذئبـيته بما يكـتم عواءها الصارخ داخله ، ويغلف أنيابها ليجعلها عاطفية ، لكنه لم يفلح في كبح بَخَرها . إن ذئبيته دون شك بنت العاطفة المتشظية بين مطرقة  النظريات التي غذت بها عقلَه أفواهُ أقاربه وأصدقائه في القصر الكبير (ص54) ، وسندان الكبت الطويل الكامن في أعماق عقله الباطن . إنها الجوعُ المتوحش الذي لا يشبع ، والعطشُ الحارق الذي لا يرتوي ، وهي إلى جانب ذلك الساديةُ التي أعمت بصيرته وتحكمت في سلوكه مع بيلار وغيرها من صواحبه المخدوعات .

   ورغم أن بيلار ترى [  الكتابة صنعة محرِّفة للحديث الشفاهي ، تسلبه دفء الولادة وتصبغه بمساحيق تشوه تلقائيته ] كما جاء في رسالتها إلى إدريس (ص124) ، فقد بدت في (البعيدون) أشبه بالشخصية الصامتة في بعض المسرحيات .. فلم تـنطق إلا جملا قليلة قصيرة : 
   أول ما نطقت به هو أنها لن تستطيع مقابلة إدريس خلال عطلة رأس السنة ، وهذا يعني أنها من أسرة محافظة ، لكن حفاظها لم يمنعها من الكذب على والدها موهمة إياه بأنها تحاول انتشال إدريس مما يعانيه من صعوبة التأقلم مع محيط بلدها ، ومن الهروب من طقوس الكنيسة لملاقاة إدريس ، ومن التسلل ليلا من سريرها لقضاء الليل معه في سريره . سألته مرة : 
   [ ماذا أنا بالنسبة إليك ؟
   فلم يجد صاحب (البعيدون) لإدريس  إلا أن يُنطقه بعنوان فيلم مصري عن العميد طه حسين أخرجه عاطف سليم سنة   1978:  
   [  أنت قاهرة الظلام] .
   وبذكائها سألته :  
   [ أي ظلام والشمس محرقة ؟ ] .
  
فأجابها : 
   [ ظلام حالك بداخلي قهرتِه فتبدد ] .
   وكأنها فهمت شيئا فعادت تسأله :
   [  لمَ لا تكتب الشعر ؟ ] .
   فيا أيها الذين لا يكتبون الشعر ، ما على أحد منكم إلا أن يستلقي على عشب حديقة تحت ظلال الزيزفون متوسدا صدر فتاة ليصير شاعرا في خمس دقائق بدون معلم كما قال المولى إدريس نفعكم الله ببركاته :
   [  الشعرليس ضروريا أن يكتب ، كما أن الموسيقى ليست وحدها التي تؤلف ، إن ما نفعله هو عين الشعر …] (ص47).
   ورغم أنها يوم رآها لأول مرة كانت تحمل كتاب [ تاريخ الثقافة العامة ] فلم يظهر من كلامها أن لها رصيدا ثقافيا تعتد به .. فيوم ألقى عليها هذا السؤال الذي سيلقيه بنصه بعد أعوام على اليهودية إستر :
   [  أتعرفي(كذا) أنك تشبهين نفرتيتي ؟ ]
   كان ردها :
   [ ومن تكون نفرتيتي ؟ ممثلة إيطالية أم أمريكية ؟ ] (ص166).

   كان كلامها قليلا .. لكن دموعها التي أسعدت إدريس وأبهجته كانت كثيرة غزيرة :

بكت المسكينة وهي تعترف له بحبها (ص 124).
   وبكت حتى أغمي عليها حين اكتشفت أن التي يعانقها إدريس في صورة جمعتهما ليست سوى ضرة لها في السر. بينما كان هو يتلذذ بالعزف على وتر غـيرتها (ص55).
   وفي رسالتها إليه بعد هجرته السرية قالت : [  لم يكن لائقا أن أبكي بتلك الطريقة ، بل لم يكن منطقيا أن أسبب لك غما وأنت راحل في عطلة قصيرة ] (ص124) . وهي لا تدري أنه كذب عليها ، وأنه قرر ألا يصارحها بأنه لن يعود إلى إسبانيا أبدا (ص52) .. ولم يكن إخفاء قراره عنها رأفة بها ، بل كان خوفا أن تفشل رحلته إلى لندن فيكون مضطرا للعودة إلى مدريد ولا يجدها (ص52) . وإذا كانت نرجسيته التي جعلته يتلاعب بعواطفها ويستغل جسدها طيلة ثلاث سنوات ، لم تسمح له أن يعترف بينه وبين نفسه أنه انتهازيّ وساديّ ، فقد سمحت له أن يتساءل : [   ألهذه الدرجة أحبها ؟ ] ، ولا نعرف أكان يستهزئ بنفسه أم كانت نفسه هي التي تستهزئ به وهو يجيب عن تساؤله : [  إنها تحبني وأنا أحبها ، ولكن قضيتي ـ يا للقضية ـ  أن حبي لها من نوع خاص ، ربما لأن قلبي بحيرة تسع لعشر من بيلار ، ولكل من أصادفهن في طريقي … ] (ص52) . صدقناك يا إدريس ..فلو كنت تحبها حقا ، لسعيت إلى الاتحاد بها ، ولكانت وحدها مَن تشبع نهمك وتحقق لك الشعور بالاكتفاء والرضى ؛ فالعاشق السويّ يحب امرأة واحدة ، ويركز عليها أحاسيسه وعواطفه كما لو كانت المرأة الوحيدة في الكون التي يمكنها أن تفي بمتطلبات هواه دون غيرها من النساء . إن العاشق يغض  في فترة عشقه عن مفاتن النساء ومحاسنهن بسبب شعوره بالاكتفاء بحبيبته ، أي أنه يكتسب نوعا من المناعة ضد غيرها من النساء على الرغم من أنهن جميعا صالحات لإشباع الرغبة الجنسية . أما حين يكون قلبه بحيرة تسع (لـ) عشر من بيلار و(لـ) أكثر ، فلا يعني ذلك سوى أنه ولد لعوب اتخذ اللعب بهن وعليهن وسيلة للانتقام من الكبت المستمر والحرمان الطويل ، فغدا لا يفرق بين الحب والانجذاب الجنسي .
  لم تكن بيلار وغيرها ممن عبرن فراشه في مدريد إلا وسيلة للانتقام من ذلك الكامن في دخيلته ، القادم معه من المغرب ، الذي جعله لا يمنح قلبه في صفاء وصدق لإحداهن ، فاتخذ ـ كما قلنا ـ لها ضرة في السر اسمها : مـاري كـارمن


 ( يتبع )