زيارة البابا للمغرب: في السياق والمساق..

الوطن 24/ عبد القادر الدحمني

عبد القادر الدحمني

كم كان سيكون رائعا ونبيلا أن نستقبل البابا استقبالَ تكريمٍ أُمِرْنا به إزّاء إخواننا في رحم الإنسانية، أبناء المسيح عليه السلام، استقبالاً نعرّف من خلاله بسماحة الإسلام وصفاء أسارير دعاته وحُماته، وأنهم لا يحملون في قلوبهم للعالم إلا المحبة والوئام والسلام، لكن في ظلّ دولة تتلمّس طريقها بوضوح نحو سلام داخليّ قائم على العدل والعدالة، والتسامح مع التعددية وحرية التعبير والفكر والاحتجاج، وتقدير حقوق الأقليات وعدالة التمثيل الثقافي والسياسي للشعب، وليس دولة تتوسّل بالعنف والإكراه والتقليدانية السلبية، وتستقي وسائلها ومقارباتها من الزمن السياسي المظلم للحكم الفردي الشمولي… كان يمكن.. ولكن!

وكم كان سيكون رائعا لو تمّ هذا الاستقبال، في ظل نظام سياسي صاعد قد أقام تصالحا داخليا مع مكونات الشعب الأساسية وأرسى توافقا حقيقيا اجتماعيا وسياسيا، بنى عليه أسسا دستورية وقانونية متينة، كم كان سيكون الاستقبال حدثا تاريخيا وحضاريا، نتبناه بكل حب وصدق وتجرّد، ونذكّر من خلاله العالم العنيف، واللوبيات العنصرية الحاقدة أننا حملة رسالة نبل ومحبة والتزام اتجاه حقوق الإنسان وحرية الإنسان ومطالب الإنسان الروحية، ومع القضايا العادلة للأمم والشعوب باختلاف أعراقها وألوانها وعقائدها… كان يمكن.. ولكن!

وكم كان سيكون معبّرا ودالاّ ورامزا أن يكون استقبالنا للبابا نموذجية تعايش نكرّسها بالمثال، واعترافا بالاختلاف نجسده في سلوكنا اليومي، حكاما وشعبا، وتواصلا إنسانيا راقيا مع مواطنينا المسيحيين، وأمثالهم من الزائرين المُشرِّفين، نبني به قوة اللحمة الوطنية الجامعة، ونمد به جسور الإخاء والتعاون مع الشعوب بمختلف دياناتها ومذاهبها… كان يمكن.. ولكن!

وكم كان سيكون عادلا ووازنا أن نرحّب بالبابا وجميع ممثلي الديانات في إطار الحوار والتواصل ومحبة الخير والسلام للجميع، لو أننا نستند إلى بناء وطني نموذجي، وقوة اقتصادية وإنتاجية وعلمية وحضارية فاعلة، نخاطب عبرها، في مجادلة رحيمة محسنة، عن القسمة الضيزى في السوق الدولية التي لنا منها نصيب الأيتام في مأدبة اللئام، وننافح، بكل أدب وصدق وبيان، عن حقوقنا المسلوبة وعن الكيل بمكيالين، وعن ضرورة أن يقف دعاة الأديان والأخلاق صفا واحدا ضد العنف والعنصرية والاضطهاد السياسي والإبادة الإنسانية والمحو الثقافي والتبضيع البشري.. كان يمكن.. ولكن!

لن أناقش هنا الملاحظات المرصودة حول تفاصيل البروتوكول في الزيارة، ولن أسهب في قراءة الخطاب المروج حول الزيارة، ودلالات وقائعها على الأرض، فتلك أمور سيتم إشباعها تحليلا وتعليقا وتنكيتا، إذ تظل سلطة التأويل سيدة المسألة في سياق ملتبس عصي على التفكيك، ولكن سأحاول قراءة بعض المظاهر والمخرجات الممكنة للزيارة من الجانبين، بعيدا عن كل الشعارات والخطابات التي يتم تسويقها واستهلاكها.

عدد من المتتبعين اعتبروا بعض احتجاجات المغاربة وردود أفعالهم بخصوص زيارة البابا، تدخل في إطار العداء “القديم” المضمر و”العنصرية” الثاوية في اللاوعي، وهذا لعمري مغامرة كبرى في إطلاق الأحكام، وتسرّع مذموم في استطلاع ما يختبئ حقا وراء بعض المناكفات الصغيرة التي يمكن رصدها هنا أو هناك، مع الاعتراف بوجود بعض الشذوذ الضئيل للغاية وسط الخط العام الأصيل، القائم على التسامح والتعايش والاستيعاب، وقد كان يمكن بقليل من التريث والتأني العلميين، التمييز بين رفض زيارة البابا على أساس ديني أو عنصري لا يعترف بالآخر وينفي وجوده، وبين أن يكون الرفض مجرد مظهر من مظاهر رفض الهيمنة الإمبريالية، باعتبار المسيحية شكلت قاعدة تبريرية أحيانا للكثير من جرائمها ماضيا وحاضرا، وكان يمكن الانفلات من ذلك التسرّع أيضا، عبر التمييز اللبيب، بين النقد السياسي لزيارة البابا وبين نقدها الديني، بمعنى أن العديد من التدوينات الفيسبوكية، جاءت في إطار خطاب سياسي متصاعد في نقد ممارسات النظام السياسي المغربي، وجراء فقدان الثقة في مبادراته وتحركاته، خاصة وأن أشكال تلك التحركات وصيغها الماضوية العتيقة، تثبت طروحات تلك التدوينات وتعطيها مصداقيتها الواقعية.

فزيارة البابا وإن كانت زيارة ذات طابع ديني إنساني حسب الصورة الإعلامية المعلنة، فهي زيارة ذات طابع سياسي شئنا أم أبينا، ولئن كانت أهداف زيارة البابا، تدخل ضمن أجندته العامة من التحرك في العالم باعتباره رمزا دينيا وسلطة أخلاقية، فإنه في الآن نفسه يمثل أساسا معنويا لجزء كبير من الحضارة الغربية، وبالتالي يمثل ضميرها العقائدي، وبعدها الرمزي، مهما أظهرت – تلك الحضارة نفسها – من الرغبة في التجاوز والمشاكسة إزاء مقوّمات خطابه، وبهذا الاعتبار، تشكل هذه الزيارة إشارة إلى عودة البعد المسيحي للقارة الإفريقية في محاولة للتموقع في أجندة الأولويات التبشيرية الكبرى، سواء عبر مدخل النشاط التبشيري الممول بسخاء في العمق الإفريقي ومناطق النزاع والتوتر، أو من خلال العلاقات الدبلوماسية وبروتوكولات العلاقات العامة، وهو طموح لا تخفيه الكنيسة المسيحية ولا تتبرّأ منه.

كما يمكن قراءة هذا التحرّك باعتباره تسويقا معيّنا لوجه مسيحي متسامح، في إطار الوعي المتنامي لدى الفاعلين الدينيين المسيحيين بارتدادات السياسات الغربية العدائية اتجاه الشعوب الأخرى ومخاطرها على الأمن والسلام العالميين، وبالتالي تمثل هذه التحركات، بهذا الافتراض، دبلوماسية حضارية، تمتص الغضب، وتعالج – بلغة التواصل والإعلام والقرب- بعض الانعكاسات الأليمة للغطرسة الغربية، التي يدافع عنها ويصنعها اللوبي اليميني المتطرف في الحكومات الغربية، وهي بهذا المرمى تحركات مقبولة ومطلوبة، لإزالة اللبس وتجسير الحوار وتعبيد طريق المثاقفة والحوار الحضاري الباني، والقبول بالمراجعات والتفاهمات الإنسانية المطلوبة حاليا ومستقبلا لتجنب انفجار حرب كونية مدمرة تشرئب برأسها الشيطاني مع خطاب الكراهية المقيت والبؤس العنصري الإرهابي الذي يهدد بمحو الوجود البشري عبر دوامة حروب لا تنتهي..

ذهبت هذا المذهب في التحليل، باعتبار المغاربة المسيحيين، فئة قليلة، لا تعاني أي حيف أو تضييق أو عنصرية، باستثناء التأثر بالإسلاموفوبيا بحكم الارتباط العقائدي مع الغرب، لكن عموما يعيش المسيحيون المغاربة في كنف بلادهم، ويمارسون شعائرهم بحرية وحماية تامة، وليس في هذا دعاية مجانية، بل هو واقع عيني، لا ينبغي للأحداث المعزولة أن تشوش عليه.

غير أنه من جهة النظام السياسي المغربي الذي يشرف على هذه الزيارة ويتابع إخراجها الإعلامي للرأي العام، والتأويلات التي تعطاها في هذا الإعلام، وكذا حجم التحرك الميداني وطبيعته وأشكاله، يظهر حجم المراهنة على هذه الزيارة في تحقيق العديد من الغايات والاستغلال الكبير لها من أجل مجموعة من الأهداف نجملها في ثلاثة أهداف كبرى:

* هدف الدعاية والتسويق لدى المنتظم الدولي الرسمي:

رسالة طمأنة للمنتظم الدولي، أننا بلد آمن مستقر، ينعم بالسلام والحرية، وليس فيه ما يهدد السلم والأمن الدوليين، وأن النظام يضبط أموره في هذا البلد، ويواصل جهوده “المشكورة دوليا” بتلمذة نجيبة وتميّز “استثنائي” في محاصرة التكفير والتطرف، عبر توحيد المرجع الديني (الفتوى- المجالس العلمية)، وتوحيد الخطاب الديني، إن لم نقل تنميطه وقولبته (حصر الاجتهاد في المجالس الرسمية وحصار كل خطاب خارج وزارة الأوقاف)، وتشديد الخناق على كل القنوات غير الرسمية في إنتاج وتداول الخطاب الديني، ناسيا أن ذلك التضييق والتنميط إنما ينتجان فعلا مضادا تفقد فيه المؤسسة الدينية الرسمية مصداقيتها التامة لدى الرأي العام، خاصة حين تتدخل في التوجيه السياسي لدعم الخيارات الرسمية، وحين تتعامل بقسوة مع كل من يخرج عن قواعد “دليل الإمام والخطيب” المكرّسة لتجنيد ديني وظيفي يفقد فيه “الفاعل الديني” أو الخطيب والواعظ استقلاليته وحريته ومبادرته، ويصير آلة دعائية في جهاز تبريري دعائي كبير اسمه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

* هدف المسح والتبييض عند الرأي العام الدولي في بعد الشعبي:

ويتجلّى في تقديم صورة نظام منفتح، وحداثي، يؤمن بالتسامح والتعايش، والمحبة والوئام، والحوار الحضاري، وهو رسالة للرأي العام الغربي خاصة، أن النظام المغربي هو أفضل “من” يمكن الاعتماد عليه للحفاظ على الاستقرار، وتكريس التعايش والانفتاح، وستتكفّل الاستقبالات الحاشدة للبابا في شوارع الرباط بمسح آثار البكاء والغضب التي زرعتها مسيرات التضامن مع الريف في مختلف شوارع أوروبا، وستتكفّل القلنسوة الناصعة البياض ل”قداسة البابا” بتبييض الجانب الأسود الكالح من وجه النظام، وتتكفّل ابتسامات الكاميرا والإخراج الفني لمعزوفات التسامح واللوحات التعبيرية المنفتحة، بتلطيف اليد الخشنة للنظام، الذي أوغل في الفتك بمواطنيه في الريف وجرادة لمجرد مطالبتهم بحقوقهم الأساسية من مستشفى وجامعة وشغل يقي مذلة العطالة وموت البحار العميقة المظلمة، وتفنن في سحل رجال ونساء التعليم وكسر عظامهم.

وباعتبار الذاكرة القصيرة للرأي العام الداخلي، فسرعان ما سيتم طمس زفرات الأسى جراء القسوة المخزنية بأمهات المعتقلين وهن ينتقلن مئات الكيلومترات ليشهدن محكمات تغيب فيها أدنى شروط المحاكمة العادلة، وتنتصب باعتبارها محاكمات تحت عنوان: “لماذا تئن أيها الجريح؟”، وسيتولّى الإخراج التليفزيوني “المعلوم” إسقاط الطائرة في الحديقة، والحديث بكل “بؤس” و”مرارة” عن الرؤى الاستراتيجية الكبرى والنموذج التنموي والسياسة الرشيدة والانتصارات والفتوحات والأوراش في ظل الإكراهات والتربصات والمؤامرات والتنسيقيات والمرتفعات والمنخفضات.

* الرسالة الداخلية الحزينة: الخضوع والطاعة والصمت:

لا زال النظام يتعاطى مع المواطنين باعتبارهم قطيعا يجب أن يساق كما تساق الماشية إلى أسواق النخاسة، ويجرّون رغما عن أنوفهم إلى الرباط، ل”يحضروا” و”يحتفلوا” ويستقبلوا ويصفقوا ويصرخوا فرحا وابتهاجا، ثم يعودون آخر اليوم وقد فوّتوا على المقدم فرصة لي أذرعهم في أول فرصة أو لقاء في المقاطعة، يعودون منهكين جائعين في وسائل النقل التي تم رصدها لهذا الغرض رغم أنف الأسفار العائلية المبرمجة في بداية العطلة، ورغم أنف التزامات أصحاب الحافلات وبرامجهم، الكل يهون أمام “الواجب الوطني” الذي يشحن إليه حتى تلاميذ الإعداديات من مدن بعيدة دون إخبار أولياء أمورهم، فالزمن المدرسي ليس بشيء ذي بال إلا إذا تعلق الأمر بإضراب الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد وهم يسعون إلى كسر أغلال نظام السخرة الجديد.

الخلاصة: لقد بات المغاربة يؤكدون أنهم ليسوا بتلك السذاجة ولا الحقد الأعمى كي يعارضوا زيارة البابا، هم فقط يراقبون حَزانى “سياسة علي بابا” التي ينهجها النظام إزاء حقوقهم وثرواتهم.

تعليق واحد