سرديات ألم وأمل
الوطن24/اديب انور
عرف سكان تلك الجبال بإقدامهم إذا نار الحرب شبت، وتماسكهم أمام لوعتها بفقد حبيب أو قريب. ستدرك انك في حاجة إلى وسيلة تنتقل بها في ثنايا الطرق التي تخترق الجبال، تتيح لك ان تكشف ما يحيط بك من جمال الطبيعة، في هذا التضارب بين الخصب و الجذب التي تعكس صورة الإنسان… أن تتعرف على الناس، أن تنزل إلى مركز التسوق(قرية الناجية) اذا ما كنت تحتاج إلى غرض، فالمحلات في هذه القرى الموغلة في الجبال لا تستوفي كل ما ترغب به من بضاعة، كما أنه مكان تجمع كل الوجوه بشتى انتمائهم، اذا ما افتقدت أحدهم غالبا ستجده هناك، تقع عيناك على مجموعات من الشباب المجاهد، متزاحمة على محلات بيع المواد الغذائية لسد حاجات المقرات والرباطات، الأسلحة، المكتبات، دكاكين بيع العطور والافغانيات والاقمصة، كل هذا اخذت عنه فكرة عندما كنا نتسامر او حين يطرقنا زائر بغية كسر الروتين و البحث عن الأنس، مثل هذه المناسبات بين الأخوة توفر مصدرا من المعلومات والأخبار، من باب فليحدث الشاهد الغائب…
العشاء على النار، والإضاءة خافتة تشير إلى نفاذ البطارية، فالنور ذهب مع خروج النظام، التخريب الذي طال نقاط توزيع الكهرباء، بعدها باتت قطع مفككة في أسواق تركيا، المنطقة يلفها السواد كلما أطرق الليل، تزين السماء وتتخللها نجوم بعيدة، مصابيح أعياها الجهد هنا وهناك منبعثة من منازل من تبقى، أو حجبتها اغطية سميكة مخافة أن يتسرب نورها حتى لا تكون هدفا للقصف ..
هذه ضريبة يدفعها شعب أراد أن يتحرر من الظلم، هكذا قال أبو الزبير، كان يفرك يديه بشدة أملا في تدفئتها، الطريق طويل من المكان الذي نرابط فيه إلى هنا، نبعد عنكم ساعتين فوقة دراجة نارية لا تحجب عنا برودة الهواء، لقد نال منا، أشعل يا اخي تلك الصوبا، أحضر أبو إسراء كومة من الحطب المختبئ خلف الباب، دفعها نحو مدخلها، لحظات وطقطقة العيدان تتصاعد كأنها فرقة موسيقية، لقد استعادت الغرفة دفئها..
سأتوضأ قال أبو أحمد، سنصلي جمع تقديم المغرب مع العشاء، انطلق صوت معترض من الغرفة المجاورة، وهل انتم مسافرون حتى تجمعوا؟
هناك من أفتى من الفقهاء باعتبار النية، وانا نويت السفر لا الإقامة.
وهل سترجع إلى بيتك؟ ليس كذلك، ولكن ربما اضطر للسفر إلى مكان آخر للجهاد في سبيل الله، انطلق على إثر هذا الحديث جدال بين البقية، توقف بعد النداء الذي صدر من المطبخ بأن العشاء جاهز. طويت المسألة، تسارع الجميع إلى حيث تنبعث الرائحة، وكما يقال: إذا حضر الطعام رفع الكلام.
قال أبو الزبير أرى بأيديكم هواتف، ما تفعلون بها في عمق هذه الجبال، والإشارة معدومة.
هناك بعض الأماكن موسومة كنقطة للاحتفاظ بها، قال أبو يوسف يعرفها القدماء هنا، احيانا يصدف ان ترى أحدهم متوقف على قمة وهو يتمسك بهاتفه يستدعيها، على الأقل يستطيع أن يتواصل مع الخارج. وانا الذي ظننت ان المجيء هنا يعني الخروج من الدنيا…
كانت تلك الجبال تعمق من عزلتنا، وكلما طال بنا الوقت، بات إيجاد ما يكسرها أمرا ضروريا، على محرك دراجته النارية زارنا في مقر المياه التابع للحكومة، باتت نوافذه مغطاة بالواح بلاستيكية عوضا عن الزجاج الذي تطاير مع الضغط الناجم عن الصواريخ بظغطها الهائل الذي يرج الأرض من تحتنا رجا، فتصبح بعد ذلك سكاكين تبحث عن مكان تنغرس فيه، دخل صاحبنا محدثا جلبة بسبب بحثه عن الشاي في المطبخ، بسرواله العسكري يعلوه قميص يتناسق مع اللون أسفل، ولحيته الخفيفة، شق هدوء ذلك الصباح الذي اتاحه غياب الطائرات التي ترى في أماكن أخرى أولوية، بنقاش تصلني اصداءه مع (ابو إسراء)..
انت دائما تعتقد أن الفهم لهذه الشريعة تتفرد به جهة واحدة فقط، وانت تكرر مقولة حكيم الأمة(الظواهري)، إشارة منك إلى تنظيمه ووجهات نظره في قضايا السياسة والدين وأسلوب التغيير والعلاقة مع الدول العربية والعلماء، ولا تقبل ان تكون الحقيقة موزعة بين الجميع وانها تتجزأ لا سبيل إلى امتلاكها، إلا إذا أصبحت نبيا مرسلا عصمك عن الخطأ تدخلات السماء.. وبهذا ستنزلق في سلوك يشي انك من المتعصبين..
يا صديقي، لقد جرب المسلمون كل تلك الأفكار والمذاهب، بداية مما دعا له حسن البنا عبر تنظيمه(الإخوان) حول استعادة الخلافة بعد سقوطها في أرض بني عثمان، إلى السلفيات بانواعها العلمية والتقليدية وحزب التحرير ووو.. ومع ذلك لم تفض إلى ما وعد الله به من التمكين، فإما ان يكون الوعد وارد ان يتخلف، وإما ان كل هذا ليس صوابا… ياصديقي الجهاد هو الحل، كما قال الشيخ المنظر (أبو مصعب السوري)، والمنهج الذي تسير فيه هو منهج الطائفة المنصورة التي بشر بها الرسول الكريم.. وهذا ما سيحقق وعود القرآن بقيام دولة إسلامية، ونحن هاجرنا لاقامتها، كم من المحاولات غير ما ذكرت لك فشلت وبات اصحابها حبيسي السجون، أو مجرد كيانات لا تأثير لها في مجريات الحياة السياسية والاجتماعية والدينية، يظنون ان المزاحمة السياسية هي الحل!
ولكن يا اخي كم هي المحاولات الجهادية التي افضت إلى مشروع دولة ناجحة؟ كم من السنوات مرت مع أول صيحة جهادية بالمعنى الذي تختزله القاعدة وأخواتها، لماذا لم يلتف حولها الناس؟ بل على النقيض راينا ان مجرد خروج الشعوب في انتفاضات أخفت اعتى العروش من المنطقة في أيام قلائل، ولولا ذلك ماكان لهولاء ان يكون لهم موطئ قدم في مشهد الثورات الشعبية..
هل انت تؤيد هذا العته مما يسمونه مظاهرات، لقد رفعوا شعارات العيش والخبز والعدالة..
وما المانع؟ وفيما يعارض الإسلام كل ذلك… العدالة والعيش الكريم أمور نادت بها كل الاديان…
لا أود أن افتح نقاشا مطولا، لكنها ملاحظات عابرة يا اخي، فليتسع لها صدرك، بدونها لا يمكننا أن نكتشف مكامن الخطأ، نحن نحتاج إلى النظر بطريقة متسائلة لكل ما حولنا، النقد الذاتي هو ما يحرم الحاقدين من استغلال الفرص…
على العموم كيف حالك ساقك الآن؟
لاازال متوعكا… فقد خرجت من مخالب الموت، عندما سقط البرميل المتفجر قريبا مني، ونحن في واقعة رهيبة، لا أصدق اني نجوت منه، لقد كتب لي عمر جديد…
استقدم حينها في معركة بارودة كل ترسانته، كل شيئ يقصف باتجاهنا، الطائرات تنقض الى مستويات منخفضة ثم تطلق حمولتها، كأنما انفتحت أبواب الجحيم، يزداد شراسة كلما بدا المجاهدون يتوغلون أكثر في أراضي حاضنته من الطائفة العلوية، الساحل مهم جدا بالنسبة إليه، وسيستميت لاسترجاعه وستبدا كل مطاراته تزحف نحونا، لقد قتل الكثير من أصحابنا وسبقونا إلى الجنة، ومن عادة النظام في مثل هذه المواقف ان يستهدف أماكن تجمعات المدنيين البعيدين عن مناطق القتال، سواد المكتظين في الأسواق او في المساجد إبان الصلوات او تحت سقف بيوتهم انتقاما منهم جراء ما تكبده من خسائر.. ومنذ ذلك الحين غرق أعزاء راحلون كثيرون، ولكن ليس في القبر، بل في ذاكرتي، وأنا الأن أعرف أنهم سيعيشون طالما انا حي..
لا تحزن، لقد ذهبوا إلى الجنة، وهم يلبسون كل جمعةملابس ذهبية ثم يذهبون لزيارة الله…
كلما تكلمت أكثر عن تجربتي، بدأت أشعر بجسامة التفاصيل، ذكريات مؤلمة، ذكريات أحيانا أتمنى لو أتمكن من محوها، رغم أني ادرك أنها جزء مهم من تكوين حياتي، ومن شخصيتي، كنا اخر مجموعة تتراجع على وقع نيران العدو، بدأنا نجمع صناديق الدخيرة المتناثرة، حتى نشعل النار طلبا للدفئ بعد موجة الاشتباكات والقصف التي لم تهدأ. كان الندى في ذلك الصباح يلقي بقطراته الباردة، لكنها ستقوم بكشف موقعنا للعدو، كنا متكومين حولها، كمجموعة من النمل أمام قطعة حلوى، لم نعد نهتم بقذائفه أمام لسعات الصقيع، كنت اتأمل وجوهنا المغبرة، كانت البنادق ملقاة على الأرض وقد سقط اصحابها، بدأت اعصابنا تتوتر، كنا عشرين شخص، بات عددنا يتناقص، كان القائد يصرخ في القبضة بسبب تأخر سيارة الإخلاء، بقع دمائهم تملأ ملابسي ونحن ننتشلهم لإسعافهم، كانت قذائف الهاون اسوء شيء، لم نستطع حفر خنادق، فالمكان تملأه الصخور، كنا نختبئ خلف بعض البيوت المتهدمة، واخيرا ظهرت السيارة على الخط الذي ينتهي نحونا ساحبة ورائها الغبار، مع وصولها اسرعنا بوضع القتلى، سرعان ما باتت المدافع تستهدف السيارة وهي تسير بسرعة لا مبالية، كانت الجثث تترنح يمينا ويسارا، حتى وصلنا إلى منعرج تحجبه بعض التلال حينها تنفسن الصعداء…
خاطبه بعد أن انتهى النقاش بينهم، هل تود ان تنزل إلى قرية الناجية، على وقع اسم البلدة الذي كان يمر عابرا بين أحاديث الشباب هنا، باعتباره مركز تسوق لا ينقصه غرض مما قد تحتاجه، كما أنه قبلة للجميع من المقاتلين من مختلف البلدان، قادتني الرغبة إلى نيل توصيلة معه، رحب برفقتي تبادلنا التحية بعدها قال لي: ستفاجأ بحجم التنوع داخل هذه الثورة، مجموعات كثيرة تدعي ان أهدافها مشتركة، الجميع يقول ان ما يريدونه إسقاط النظام وتحكيم الشريعة، فقط إذا استثنينا بعض الأطياف السياسية المرتبطة بالداخل عبر التمويل لبعض فصائل الجيش الحر، فهم طالما يرددون انهم يريدون الديمقراطية والدولة المدنية، وهذا شيء ترفضه مناهج السلفية الجهادية، لم نرى من هذه الفصائل الا معاني التضحية، كنا نقاتل في خندق واحد، ونلمس منهم ترحاب واحتفاء بجهودنا، رغم انهم ليسوا وفق ما تربينا عليه من سلوكيات مختلفة عما هم عليه، لا زالت عادة التدخين في صفوفهم وبعض البدع، إنها إفراز واقع عايشوه امدا طويلا ..
قضية الدعم الخارجي، غالبا ماتؤثر في طبيعة المسارات، فالمال عصب الحرب، ومن يملكه يستطيع أن يكون في يديه التوجيه…
قلت له: احذر المنعطف! يبدو أن الحديث استغرقك..
لا تقلق، فقد اعتدته على هذه الطرق الجبلية، ستعتادها انت كذلك كلما مر بك الوقت، لكن هذا لا يعني أنك لن تنال من بركة الشام! ستدرك ان العديد ممن سترى أيديهم محشورة داخل الجبس هم ضحايا هذه المسالك المتعرجة…
كدنا نصل إلى السوق…
ما ذلك الدخان المرتفع من هناك؟ قلت.
يبدو أنها المروحية التي تطلق البراميل، إنها حيث نحن متوجهون، تلك البلدة معروف تاريخها في قتال النظام وطرده منها، ودخول الكثير من المهاجرين إليها، فتحوا بداخلها الكثير من مراكز الدعوة والمعاهد والمكتبات الصغيرة التي تقوم بطبع مطويات في المنهج، خاصة أن هذه البلدة تحت نفوذ تنظيم الدولة، فهي تشتغل على بث أفكارها في وسط الناس وخاصة الأطفال والشباب، كما يتواجد أيضا مركز خاص بالجزراوة تتوسطه مكتبة كبيرة وهم امتداد لكتيبة تقاتل في الساحل تسمى صقور العز… فالبلدة شهدت انتعاش اقتصادي كبير بسبب الدولار المتدفق وأعداد المهاجرين التي تقبل على شراء كل شىء، كما أن الفصائل تتزود منها…
فالنظام يتعمد ان يرسل نحوها طائراته القاتلة، فقد مات الكثير هنا بسببها، ومع ذلك كان الناس يشيعون قتلاهم للصلاة عليهم، ومنهم من يرى فيهم شهداء لا حاجة للصلاة عليهم.. ثم يستأنفون الحياة مع بعض الدموع المندفعة وهم يعودون دون هذا الذي واروا عليه التراب… لم تنجح سياسته في تأليب الناس ضد المهاجرين، وفصلهم عن الحاضنة الشعبية، كما هو معلوم فحروب العصابات لا تستمر دون تأييد شعبي..
ولكن لا عليك، فالناس مصممون على الحرب، فبينهم وبين هذا الحكم العلوي أحقاد وثارات قديمة، لن يتراجعوا وقد واتتهم الفرصة..