سورة الكهف وزنبقة النسيان
الوطن 24/ بقلم: الدكتور أحمد جوهري
من المعاني اللطيفة لكلمة “النسيان” معناها في الأصل اللاتيني: (oblitus) المنحدرة من (ob و leveo) أي ما يصير سوادا (devenir noir)؛ مما يفيد أن عملية النسيان في جوهرها عبارة عن تَحَوُّلٌ لبياض الذاكرة الناصع والنقي إلى كتل مظلمة من السواد. هذا التحول المظلم قد تكون له عواقب وخيمة أحيانا، لنتذكر هنا رفاق البطل “أوليس” في ملحمة الأوديسا الإغريقية، حين انتهوا في رحلتهم البحرية نحو وطنهم إلى جزيرة آكلي الزنابق (lotophages)، وأكلوا من ثمار العسل التي تؤدي إلى النسيان فلم تعد لديهم الرغبة مطلقا في العودة إلى وطنهم.
نسيان الوطن في الحضارة الإسلامية ليس قليل الأهمية، لكن هناك ما هو أهم منه: لأذكر بعضا من ذلك كما ورد في سورة الإسراء: الوالدان (وبالوالدين إحسانا)/ ذو القربى/ المسكين/ ابن السبيل/ اليتيم/ النفس البشرية (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق…) (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق…)/ كرامة المرأة (ولا تقربوا الزنا)/ الوفاء بالعهد/ عدم الغش (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم)/ عدم التجسس على الغير/ وعدم العجرفة… باختصار الأشياء التي مجموعها يؤلف ما يسميه القرآن الكريم بالحكمة (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة)
لكن السؤال المهم الآن هو هل يستطيع الإنسان في رحلته البحرية بين جزر آكلي الزنابق أن لا ينسى؟ هل يستطيع أن يتجنب عبق الزنبقة السحرية الذي يطارد حواسه المضطرمة مع كل نسمة يستنشقها؟ هل يقدر على أن يقاوم إغراء طعم ثمار العسل ليحافظ على ذكرى أمه وأبيه، وعلى كرامة النفس البشرية والمرأة والمسكين واليتيم، وعلى عدم الغش والتجسس وخيانة العهد …؟؟؟
لقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على علم دقيق بملكات الإنسان الناسي وبطبيعة الجُزُر ونباتاتها التي يمر عليها، لذلك نبهنا إلى دواء عجيب: سورة رائعة ضد النسيان، تأتي مباشرة بعد سورة الحكمة (الإسراء)، ونصحنا بضرورة تدبرها كل ليلة جمعة (أو في يومها) هي سورة “الكهف”: أقول سورة ضد النسيان مستندا إلى سبب نزولها (نسيان النبي الكريم أن يقول “إن شاء الله” لمن سألوه عن خبر فتية الكهف)، وإلى نصها: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت)، ومستندا إلى أحداث قصصها (نسيان النبي موسى (عليه السلام) المتكرر لاتفاقه مع الرجل الصالح: (لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا))، ونسيان الفتى يوشع بن نون للحوت الذي اتخذ سبيله في البحر سربا وعجبا، ونسيان صاحب الجنة أن يقول “ما شاء الله لا قوة إلا بالله”…
فهل نستطيع الصبر على داء النسيان المزمن بروحنا، النسيان الذي يُشتق منه اسمنا (إنسان)؟ هل ننجح في الحفاظ على بعض نصوع بياض ذاكرتنا، ومقاومة كتل الظلام الزاحفة باستمرار على صباحها؟ ذلك ما نحتاج فيه، بالإضافة إلى التوسل والدعاء، إلى التدبر الدائم لسور الحكمة ومعها السورة المضادة للنسيان: الكهف.