شعرية الهدوء و القلق بين الذات والواقع قراءة في ديوان ” آثار جانبية للوردة ” لسارة علام

الوطن24/سعيد تكراوي ، مراكش، المغرب 

يشكل العنوان في  كل عمل أدبي المقوم البنيوي الذي يمنح للقارئ مساحةً للتأمل والكشف عن الدلالات والأبعاد الأولى المحددة لمعالم النص من الداخل، والقبض بزمام تداعياته المؤدية لإبراز انسجامه واتساقه. فهو العتبة الجوهرية التي تبرز خيوط الدلالات، ذلك أنه :” يقدم لنا معونة كبرى لضبط انسجام النص و فهم ما غمض منه إنه المحور الذي يتوالد و يتنامى و يعيد إنتاج نفسه ، وهو الذي يحدد هوية القصيدة … » (1).

من تم، فالعنوان يختزل  جملةً من المعاني التي تصب لا محالة في الدلالات التي يرومها المبدع، وتشكل المقصدية الكبرى داخل المتن الشعري.

إن عنوان ديوان سارة علام ” آثار جانبية للوردة ” يطرح أكثر من تساؤل، لكونه يشكل لغزاً  على مستوى خطيته/حرفيته، إذ يحتاج إلى تفكيك، لاسيما إذا نظرنا إلى الكلمة البؤرة وهي الوردة. علما أن ثمة عناوين لدواوين شعرية ركزت على الكلمة البؤرة لكن بمسندات مغايرة تخلق للمتلقي نفسا لرصد المفارقات من أجل خلق فكرة حول المتن، لعل ما نستحضر هنا هو ديوان “أزهار الشر” لشارل بودلير”، ” أزهار ذابلة ” و” أزهار وأساطير ” لبدر شاكر السياب، “وقت بين الرماد والورد” لأدونيس، “ورد أقل ” لمحمود درويش… كل شاعر بمنظاره الخاص. ناهيك عن توظيف الوردة في متون شعرية كثيرة لشعراء عديدين، حيث تناولوا الورد في نصوصهم بأبعاد مختلفة …

ولا تقف الشاعرة في العنوان عند حدود البؤرة/الوردة، بل هناك عنصران آخران، وهما: آثار وجانبية.

إذن، فعنوان ديوان الشاعرة سارة علام يطرح تساؤلا ما المقصود بالوردة في تركيب العنوان؟ ما الذي تعنيه بالآثار الجانبية؟

إن ” الوَرْدَةُ رواحدةُ الورد، والوَرْدُ: ” من كلِّ شجرة: نَوْرُها وغلَبَ على هذا النوع الذي يُشَمُّ. وَاحِدَتُهُ:  وردةٌ.” (2)

الآثار جمع أثر ويعني: ” العلامة. و- لمعان السيف. وأثر الشيء: بقيته.” (3)

أما جانبية مؤنث الجانبي من فعل جانب، وجانب الشيء أبعده وتحاشاه، والجانبي اسم منسوب للجانب،  فمعنى اللفظة في علاقتها بالآثار: أي آثار غير مباشرة، على الهامش عكس الآثار الجوهرية أو الرئيسية.

فكل ما يشكل علامةً فهو أثر، فاللغة علامة والأدب علامة، والشعر علامة … أ لا يمكن اعتبار الشعر أثراً مادام أنه علامة؟ صحيح أن العلامة هي الأثر ولكن الثاني أعم.

فالأثر الشعري إذن، ما تخلفه الذات الشاعرة من عمل إبداعي، وإذا كانت اللفظة في عنوان الديوان جاءت بصيغة الجمع فإنها تدل على النصوص المنتجة والتي أسندتها الشاعرة سارة  علام للفظة جانبية … إنها ولادة على الجانب عندما يتعلق الأمر بعمل إبداعي شعري.

إلا أن الوردة في سياق العنوان ذات أهمية قصوى، مما يجعل العنوان مصدر توتر، وتلك خاصية لا محالة يتسم بها الشعر على حد قول ألبيريس، إذ يقول بأن الشعر له الحق في :” أن يكون غامضاً، متردداً، لا منطقياً… فقد وجد ليحير “.(4)

إن الوردة في تركيب العنوان تخلخل ذهنية المتلقي، وتستقطبه لقراءة، على اعتبار هذه الأخيرة كما يقول تيري إيجلتون :” ليست مسألة اكتشاف لما يعنيه النص، وإنما سيرورة اختبار لما يفعله بك”.(5)

فقد كانت للورد، على مدار التاريخ، أبعادٌ ودلالات وذلك عبر ثقافات الشعوب والأمم. هناك البعد الأسطوري والديني والاجتماعي.

* أسطوريا ارتبطت الوردة بإلهة الحب والجمال أفروديت،  كما نظر الإغريق إلى الوردة كونها رمزا للأبدية، إضافة إلى أن الفتيات كن يحملن أسماء الورود بوازع الجمال الذي لا يدوم إلا وقتا محدودا إذ سرعان ما يؤول للذبول. وفي المنظومة الرومانية كانت الورود رمزا  للأخلاق  وزرع الشجاعة  في النفوس. وفي الحضارة الفرعونية رمزت الوردة للهدوء. ولا ينبغي إغفال أن الوردة ارتبطت أيضاً من حيث  البعد الرمزي بالجنائز .

* عقدياً، في المسيحية كانت الوردة رمزاً للبراءة والنقاء، والعذرية، كما وردت اللفظة في القرآن الكريم باعتبار الاسم وهو الريحان في سورة الرحمن :” والحب ذو العصف والريحان “(6)، كما وردت في سورة الواقعة ” فأما إن كان من المقربين، فروح وريحان وجنة نعيم”.(7)

وردت لفظة الوردة في المتون الشعرية كثيراً، كما احتوتها الأساطير والأديان. وإذا كان الورد أنواعاً كثيرةً سواء من حيث الألوان أو الأشكال، فإن دلالاتها اختلفت باختلاف ذلك التنوع؛ من تمَّ، كانت للورود أسماء وألوان كما سلف الذكر، مما جعل اختلاف التوظيف يخضع لاختلاف النوع ما بين اللون والاسم. من أسماء الورود : الزنبق، الريحان، الياسمين، النرجس، الأقحوان، السوسن، الجوري، الخزامى، الكامياليا، الناردين، النيلوفر . والورد وهو الاسم الشامل لكل الورود.

ويمكن أن نشير إلى الأبعاد  الرمزية للوردة كالتالي: الحب، والجمال، والكمال، والصمت، والأخلاق، والحياة، والموت، وتوحد الروح، والبراءة والنقاء، والعذرية ، والمجد، والرحمة، والتسامح، والعاطفة، والصداقة والوئام، والشباب، والقلب، والحياة، ونبل العاطفة، والحنان.

بناءً على ما سلف ذكره، فليس الشعر إلا أثراً من الآثار التي تعكس الإبداع الإنساني من منطلق الذات للذات، والذات للآخر.

إذن، تشكل العناوين في غالب الأحيان نوعا من التوتر خلال قراءتها باعتبار مكوناتها، وهو التوتر الذي يسعى القارئ لتفكيكه تفكيكاً انطلاقا من مكوناته وأيضاً من خلال علائقه ببعض الإشارات داخل متن الديوان.

فالشاعرة استلهمت من الوردة موضوعةً للتعبير عن قضايا مهمة، وذلك عير تداعيات الذات في المتن الشعري، ولعل قصيدة “تشريح” (8) تمثل وردة الديوان، وبؤرته المركزية. لكن قبل ذلك لابد من ملامسة بعض التداعيات الدلالية في المتن.

إن الشاعرة إذن، وظفت الوردة في علاقتها بالآثار الجانبية، مما يطرح أكثر من تساؤل عن ماهية الوردة، وحقيقتها.

لعل القراءة التي تكشف عن الماهية والحقيقة تبين بشكل واضح أن الوردة ذاتٌ بالدرجة الأولى.

وقد أشارت الشاعرة  إلى ولادة خاصة في حقل الشعر، إذ تقول في قصيدة ” بورتريه”:

“أنا شاعرة

ولدت من رحم الحرب الدائرة

بين صورتي وظلي.”  (9)

إذا صح القول بأن الوردة تحيل إلى الشاعرة، فإن ثمة إشارةً تكشف عن هذا الطرح، وذلك من خلال ثنائية الصورة والظل، فالصورة تحيل إلى الشاعرة / الإنسانة، أما الظل فيحيل إلى الشاعرة / المبدعة/ الوردة.

هكذا ترسم لنفسها بورتريه خاصاًّ ونابعاً من رحم  الحرب بين الصورة والظل، بين الذات واللاذات، بين الذات/ الأنا  والذات الشاعرة. فالذات/ الأنا (الصورة ) إحالة إلى الشاعرة التي راكمت تجربة من حرب المتناقضات في مجتمع واقعي، والذات الشاعرة / الظل إحالة إلى الشاعرة الشاعرة التي كانت تلتقط مخلفات حرب في المتخيل، إنه نشوء وارتقاء: نشوء في عالم واقعي يعتريه التوتر الحاد، وارتقاء، بمعنى مجازي، بالواقعي إلى المتخيَّل، حيث يتم نقل الواقع إلى إبداع شعري، وبذلك تعلن الشاعرة:

” قضيت طفولتي على أصوات القذائف

تلك التي ضربتها الأيام لذاكرتي

فظلت مثقوبة تنزف دماً “(10).

إنها صرخة الرفض والإقرار، وذلك عبر عرض الرؤية الخاصة بالشاعرة التي نشأت في عالم يشوبه التمزق، أَلَمْ تقض طفولتها على أصوات القذائف اخترقت ذاكرتها، فأصيبت بالنزيف المتواصل ؟ بلى. تعبير استعاري متميز، يكشف عن كون الذاكرة مثقوبةً ومُرَاقة دماً جراء إصابتها بالقذائف ذات الأبعاد في السياق الشعري: إذ يمكن تكثيف الدلالات واختزالها في الانهيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في وقت يسعى فيه الصوت الشعري إلى الكمال والعدالة الإجتماعية، وتقول في القصيدة نفسها:

” صدقوني

الشعر كذبة مجازية

تعوضنا عن ندبات غائرة

في بورتريه منمق لذواتنا ” “(11)

إذ تعلن الشاعرة عن خطاب علني مكشوف وفي الوقت ذاته فاضح، مخاطبةً متلقين نوعيين على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم وقدراتهم بأن الشعر كذبة مجازية، وهي البديل الحق عَمَّا تخلفه  المعاناة من ندوب وكلوم. فالبورتريه صورة الذات المضمرة للشاعرة الحالمة بالتغيير، لكن الحلم يذهب سدى في غياب تحقق أي تغيير.

ومهما كان الأمر، فالشاعرة وإن كانت تعلن أن الشعر كذبة مجازية، فهي لا تتوقف عن مواصلة تعرية الواقع مجازياً في قصيدة “جناح””(12) حيث تستعير الشاعرة في سمت التمرد جناحا مجازياً يحقق التحليق من علٍ كي تكتمل الرؤية اتجاه الغابة/ الواقع/ المجتمع حيث الرؤية شمولية. فقصيدة ” جناح ” تعكس الرؤية المرتبطة  بالمستقبل، إذ توظف  الشاعرة فعل الكينونة في المضارع “سيكون” مما يعني أنه دال على الاستقبال؛ ذلك أن السين حرف يختص بالمضارعة ويخلِّصه للاستقبال (…):

سيكون عليّ منذ اليوم / أن أمشي برأس مثقل / وجناح مهزوز. / أمتلئ بجمرات الآخرين /

سيكون عليَّ أن أنكس رأسي / كلما مررت بغابة أشجار ضخمة / يفقأ شوكها عيني / وينفذ بساقيه إلى رقبتي / سيكون عليَّ أن أصمت / لأن الجري وسط الغابة / لا يحتمل /  سرعات الشرور المعاكسة / فأصطدم بأول تبة عالية  / (…)  / سيكون عليَّ أن أتحلى بالشجاعة / لأختار فخاخي  / أقفز فوقها /  قبل انزلاق يحاصره محرضون.”(13)

إنها مواقف استباقية لتصورات الشاعرة اتجاه الغابة / المجتمع، فلا يسعفهاالتردد ولا الصمت، بل تسعفها الشجاعة من أجل بوحٍ شعريٍّ كفيل بتعرية واقع مفعمٍ بالتناقضات، قبل أن يحاصر هذا البوح، ويتمَّ خنق الصوت في الحنجرة من قبل المحرضين الذين يشكلون عيوناً ترصد الأصوات الحالمة بواقع حر وعادل.

وهذه الرغبة، تجعل الشاعرة أكثر ارتباطاً بوطنٍ مثقَلٍ بالمواجع، حيث تقول في قصيدة “آثار جانبية”:

“أذني مشوشة

تبحث عن صوتك فيها

استحضر همسك.”(14).

فالوطن المحلوم به مبحوث عن صوته، وهمساتُهُ مستحضَرَةٌ على الدوام: استحضار الهمس الغائب، والصوت الذائب  بعد أن تغيرت ملامح المجتمع مما أثر على مسامع الشاعرة حتى أصبحت أذنها مشوشة حيث الشعارات الجوفاء، والخطابات الفارغة المحتوى، وتواصل الشاعرة في بناء صورة للموقف الذي تبنته اتجاه الوطن قائلةً:

“أنا حقا أتلوى

أمني نفسي

بحضنك مفتوحاً كل صباح

تتصاعد أنفاسي أمام صورتك الجامدة

خذني الآن”(15).

إن الشاعرة تؤكد عن اضطراب خاص، وذلك ما تعكسه لفظة “تلوى” إعلاناً بالرغبة في التغيير متمنيةً وطناً ذا حضنٍ مفتوح كل صباح بعد أن تحول إلى طوطمٍ جامدٍ خالٍ من كل حركة، وهيجان يكسر رتابة تصاعد الأنفاس خشيةً على وطن يتأرجح بين خَطَّيْ اليأس والأمل. تلك إذن، رغبة الشاعرة التي تقول في قصيدة “صراط”:

“لبضع دقائق

أريد ان اعتزل القواعد

الخطوط المستقيمة

التي رسمها الآخرون

فسقطت بين

نقطتي البداية والنهاية.”(16).

إنها الرغبة في الاعتزال وتكسير القواعد، والسير على غير هدي الآخرين الذين يخرسون العقيرة. لكن الشاعرة تجد نفسها متوترة بين ماضٍ ثقيل، و مستقبل يكتنفه الغموض، ساعيةً إلى التخلص من ماضيها من خلال بعض ظلاله التي تعيق رغبتها:

“أريد أن أتخلص يا أبي

من أبوتك

ومن كل الآباء

الذين مرنوا رأسي على الطأطأة

(…).”(17).

ويتضح السعي في التحرر من سلطة الأب، والتخلص منها كي تكون قادرةً على المواجهة، وهو التحرر الذي يمكن أن يتخذ مساحةً أكبر في التأويل: التحرر من السلطة الذكورية، كما تعلن أيضا في النص نفسه:

” أريد يا أن آشتعل يا أمي

آكلُ أحلامك بأسناني.

أنفث فيها من خوفي.

تصير ناراً وركاماً .

(…)

 

أسخر من سرابك

وخيبتي في أن أكونك.”(18)

حيث ترغب في بناء الذات بمنأى عن تأثير الأم معلنةً عن رغبةٍ أخرى كامنةٍ في التأجج والاشتعال، تلك بداية التلميح للانتفاض شعريا وما سيترتب عليه بداهةً. فالشاعرة تسعى لأن تكون ذاتاً مستقلة، إنها كائن  يبحث عن الذات، ويعري قضايا متعددة في لجة هذا البحث المضني، وتلك خاصية من خاصيات الشعر الحديث، وطبيعة خاصة في اللغة الشعرية، حيث الركض نحو الرفض بلباس الجرأة الكاشفة عن الخفِيِّ  تارةً، وبقناع الباحثة عن الذات مع تمرير شفرات قابلة للتفكيك تارةً أخرى؛ مادام أن اللغة الشعرية:”هي الإنسان في تفجره؛ واندفاعه واختلافه، تظل في توهج ، وتغاير، وتظل في حركيّة وتفجر؛ (…) إنها البحث عن الذات، والعودة إليها، لكن عبر هجرة دائمةٍ خارج الذات….” (19)كما يقول أدونيس.

وتقول في قصيدة ” محاولات”:

“أحاول أن أهزم الغياب

بالبحث عن حلول أخرى (…)

أحاول أن أنسى

أن غيابات كثيرة هزمتني”(20).

إن الضغط النفسي الذي تعيشه الشاعرة، لم يؤدِّ بها فحسب إلى التفكير في التخلص من عبء الماضي وسلطته، بل جعلها تحس بالتهميش والنبذ المفتعلَيْن من قبل المجتمع الشبيه بالغابة كما أوردت ذلك في مقطعٍ سابقٍ ، واعتبرت التهميش والنبذ غياباً تحاول هزمَه، وهزم الغياب دليل على رغبتها المُلِحَّةِ في الانخراط في الصراخ والبوح الشعريين، وفي الوقت ذاته تسعى إلى نسيان غيابات ألحقت بها هزائم تترى، الهزائم التي كانت خلالها الشاعرة مثابة المتأمل في النكبات والجراح، ذاك التأمل الذي نجم عنه التفكير في صنع ذات مستقلة متحررة مناضلة في وقت أراقت الهزائم دماء أبرياء كثيرين، مما يُوَلِّدُ الإحباط الذي يؤدي إلى الاكتآب، ذلك ما تعلن عنه في قصيدة “دم هزائمنا”:

“يَوْماً ما

سيرسل إلي الاكتئاب خطاباً”(21).

مما يجعل لامحالة الشاعرة تعود القهقرى لرسم معالم استثنائية متجردة من كل لمسات الحاضر، وذلك في قصيدة “تجرد”، حيث وظفت حرف الشرط غير الجازم الذي يفيد التعليق في الماضي كما جاء ذلك في مغني اللبيب(22).

وذلك بقول الشاعرة في قصيدة “تجرد”:

“لو أن عمري يعود للوراء

لأشفق عليّ باعة الورد

من نزعوا لي شوكه

جردوه من شروري”(23).

ومما يدلُّ عليه حرف “لو” التمني، هكذا تحذو الشاعرة حذو الإنسان الذي يعتريه التمني بالعودة إلى الوراء / الماضي  عساه يخلق لنفسه عالما في محيطه وبيئته، أو يسعى جاهدا إلى التغيير تغيير ما آل إليه الوضع وقت التمني . لكن التمني الذي راود الشاعرة هو تمنٍّ من باب الإشفاق على ذاتها من نماذج بشرية توزع الفرح في ردهات الحزن، إنها نماذج يمثلها باعة الورد الذين يتقاسمون الفرح رغم الترح الذي يلاقونه وهم ينزعون شوك الورد ويجردونه من شرور الشاعرة التي تطمح إلى عالم مفعمٍ بكل ماتحمله معاني الورد من أبعاد رمزية كما سبق أعلاه، حيث الحب، والجمال، والكمال، والصمت، والأخلاق، والحياة، والموت، وتوحد الروح، والبراءة والنقاء، والعذرية ، والمجد، والرحمة، والتسامح، والعاطفة، والصداقة والوئام، والشباب، والقلب، والحياة، ونبل العاطفة، والحنان. ولابد من إشارة جوهرية أن قصيدة “تجرد” تتضمن الكلمة البؤرة في الديوان والعنوان على حد سواء “الورد”، لكون الشاعرة  تتحدث عن نماذج ذوي علاقة به وهم باعة الورد.  ثم لابد من التوقف عند كلمة أساسية وهي كلمة “الشرور” المقترنة بالشاعرة من خلال ياء التكلم. وهي لفظة ذات بعد في السياق النصي، فالشرور تدل لا محالة على انتفاضة الشاعرة، و هي رؤية يمكن التأكيد أنها عكسية حيث يُنْظَرُ للحالم بالورد بتهمة الحابل بالشرور . إنها الشرور التي يسعى صاحبها إلى الكمال والتوحد والحياة المتكاملة. إذن، فالتجريد من الشرور إفصاح عن إبعادٍ حقيقي عن المسعى النبيل الذي تتوخّاه الشاعرة في سياق استقرائها لواقعٍ متمزقٍ، فتبقى مَدِينَةً لأولئك الذين يولونها إشفاقاً؛ إنهم باعة الورد الساعون إلى نزع الشوك، وعاشقو الحلم والتوحد رأفةً بحلمها وسعيها الدائم للكمال، وذلك:

” ليبتسم نصفي الطيب

ونزهو بجمالنا “(24).

لعل التعليل المقرون بفعل يبتسم يفسر بشكل جلي الغاية مما يقوم به عاشقو الحياة/بائعو الورد، إذِ الغاية تكمن في زرع البسمة في نصف الشاعرة الطيب، وما النصف الطيب إلا الذات/الشاعرة/الصورة بمنأى عن الذات الشاعرة / الظل.

إذن فالشاعرة تخلق مسافةً بين الكائن والممكن، بين الواقع المعيش والواقع المحلوم به، ولعل ما ينبغي الاشارة إليه هو أن عملية الزهو جماعية، إنه التحليق في أفضية الفرح رفقة عاشقي الحياة / بائعي الورد مادام أن الحلم شر/ الأحلام شرور: إنه السعي لخلق عالم افتراضي/ متخيل  ملؤه قيمة الجمال.  فالشاعرة لا تستثني ذاتها عن الجماعة التي تزهو بالجمال، بل تنخرط انخراطاً كلياً مع باعة الورد/ عشاق الكمال والتوحد، وبذلك تستمر في عرض رؤيتها حول الوضع المنهار، حيث تقول:

“لو أن الباعة عرفوا

أن كل هذا الزهر

تيبس فوق الموائد الخطأ

خلق لنفسه شوكًا ذاتيًا

ليصير دليلًا على اتهامي

في تلك الآثام التي لم أفعل”[ قصيدة :” تجرد”(25).

إذ أنها تمنت لو عرف الباعة مآل الزهر /الورد، كونه لم يوضع في الموضع الصحيح، وبذلك فقد كان مآله اليباس، وخلق لنفسه شَوْكاً آخر مكان الشوك المنزوع/المنتزع، ومن هنا تلتفت الشاعرة للذات مرة أخرى كي تكشف عن آمر جوهري: عشق الورد معادل لعشق الحياة، إِلاَّ أنه يصبح تهمة، وجُرْماً … شر من الشرور التي أشارت إليها سابقاً. وهذا البعد في سعي الآخر/الآخرين الذين يسعون إلى إقبار الحياة، و تحويل عاشقها إلى متهم بارتكاب ذنوب وآثام، هو ما جعل الشاعرة – باعتبارها الحالمة والآثمة في آن واحد، الحالمة بالورد/الحياة، والآثمة لأنها عاشقة الورد/الحياة، – تخلص إلى رغبتها الأكيدة من باب التمني في أن تكون الضحية، رغم كونها ضحية في الجوهر الشعري، حيث تعلن عن انفجار خاص موضحةً التقابل القائم على التضاد: بين الأنا والآخر، بين الضحية والجلاد حيث تقول:

“لو أنني أحببت دور الضحية

لما رأيته في مراياي

يحاصرني بشوارب القتلة

خضب الدماء” [ قصيدة :” تجرد”(26).

انهيار الرغبة، وتداعي نفسية الشاعرة ما بين لعب دور الضحية ومحاصرة الجلاد ذي شوارب القتلة، وعشق إراقة الدماء: ثنائية الحياة والموت. وبذلك تصور بشكل صريح ومعلن سبيل قتل الحياة، والاقتياد إلى دهاليز الصمت، وخنق الصوت المطالِب بالجمال والتوحد والحياة وذلك بعصب العيون بعشق الحياة (سيقان الورد). إنها إشارة قوية للتمسك بعشق الحياة، رغم غياهب الزنازين :

“وذلك الذيل في طرف ثوبي

يجرون منه إلى الفخ

يغطون عيوني بسيقان الورد” [ قصيدة :” تجرد” ](27).

وتستمر الشاعرة في طرح المعادلة الورد / اللاورد ، أو الحياة / الموت ولاسيما في قصيدة “تشريح”(28) التي تشكل سماق الديوان، إذ الشاعرة تنسلخ من الذات العادية إلى ذات غير عادية معلنةً بشكل جريء انتفاضة في تسعة عشر مقطعاً من القصيدة البؤرة ، وهي أطول قصيدة في الديوان، لنكتشف تشريحاً للذات الذات، وللذات الشاعرة، وللواقع مخاطبة نفسها بكل ما تملك من حب للحياة مُخْضِعٓـةً إلى تراتبيةٍ  شبيهةٍ بالتدرج في مراحل العمر. إن مخاطبة الذات كما سلف الذكر انتفاضة، وهي في الآن نفسه تأججٌ تكتنفه بُحَّةً دالةً على امتعاض من خلال سطر شعري تكرر في كل المقاطع:

” تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة ”

فالشاعرة تتقمص دور الوردة  باعتبارها تناشد الحياة، وتصف ذاتها بالذات الأليق بالموت مادام أنها صاحبة صوتٍ حالمٍ بالحياة، تقول:

“كيف تعيشين كوردة؟

تسكبين عطرًا مجانيًا

على أنف من يقترب

تفترشين روحًا

تفيض بالجمال

على الأشجار والمنازل”(29).

فالخطاب إذاً، موجه إلى الذات عبر استفهام إنكاري، في سياق يجمع بين الممكن والمستحيل. والتساؤل بداهةً مغلف بالمحال، وذلك أن تعيش كوردة تتضوع بعبق الرفض بغية القبض على الحياة المحلوم بها، كاشفةً عن تعرية وفضح أعداء الحياة بافتراش روح تفيض بالجمال، والتبسام في الربيع حيث اكتمال النضج والوعي بضرورة التعديل ومواجهة أعداء الحياة، وليس التفتح إلا إيماءة حقيقية لتخطي حاجز الصمت الذي يفرضه الصقيع في فصل الشتاء:

” تبتسمين في الربيع

تغلقين عينيك

وأنتِ تستعدين للتفتح

بعد مرور الشتاء” (30).

لكن هذه الإيماءة سرعان ما تتوضح معالم ولادتها حيث:

“ثم تنكسر ضلوعك رويدًا

تموتين نائمة

لا يستجيب جذعك

لطأطأة موسمية “(31).

ستتلو الإيماءة لا محالة تداعيات الذات في خضم عشق الحياة عبر الفصول والايهامات التي تكشف عن موقف الشاعرة، فبعض الورد يُتْرَكُ كشواهد القبور في وقت ينوجد عشاقه في زمن القطاف:

” تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

نترك بعضًا منها كشاهد قبر

كان هنا من يحب الورد

وأتى موعد قطافه.”(32).

تلك صورة واضحة لثنائية الحياة والموت، عشق الحياة و إقبار الحياة، لتواصل الشاعرة في عرض رؤيتها مستعيرةً من ذاتها ذاتاً أخرى مُوجهةً الخطاب:

“كيف تمشين كوردة؟

تعبرين طريقك بصمت

من شجرة إلى محل زهور”(33).

تعبير يطرح أكثر من تأويل، إذْ عرضتِ الشاعرة حالة المشي الشبيه بمشي الورد، وطريقة العبور التي يكتنفها الصمت من باحة القطاف إلى محل بيع الزهور. وكأن الطريق جسر لمرور جنائزي من نقطة الحياة لنقطة الموت. ولعل الجو الجنائزي وصمته الرهيب يتضح في قول الشاعرة:

“تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

الموتى يمشون كورود فوق نعوشهم الخشبية

يستسلمون للعطر في رهبة وجلال.”(34).

إنها الوردة التي تستمر في نزع الحياة من خلال صراع مع المكان والزمان ساعة: الوردة تفكر ترفع ورقها للأعلى / السماء في فترة زمانية محددة، وهي الفترة التي تستمد فيها الوردة الدفء من الشمس:

” كيف تفكرين كوردة؟

ترفعين ورقك للسماء ساعة الشمس”(35).

منتظرةً لسعةً/دفئاً كي تستقيم راغبةً في الاستقامة:

“تنتظرين لسعتها لتستقيم رأسك

تُنزل عليك وحيها قبل الغروب”(36)

حيث اللسعة تلهمها قبل فترة الغروب: لعل الإلهامَ  رثاءٌ، أو نشيدٌ جنائزيٌّ:

“تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

تضيع الفكرة إذا زادت حرارة الطقس

تنكس الزهرة رأسها لتسمح للقمر بالعبور”(37).

فالفكرة تتداعى كلما قويت الرغبة في الدفء، وازداد التلاحم والتكتل من أجل القبض على تلابيب الحياة، إنه التمسك بالحياة، لكن الزهرة تنحني زمان بداية الليل فاسحةً المجال للقمر بالعبور علماً أن من بين أبعاد القمر الرمزية العدالة: إنه الصراع بين العدالة واللاعدالة، بين الحياة والموت، بين الرؤية المتحررة  والرؤية الظلامية.

وتواصل الشاعرة في عرض حالات الوردة بين استيهامات الحب والعشق والتقبيل والصدق، وهي الحالات التي تؤجج نيران ارتباط الوردة من الداخل لهذا المجتمع ذي المرايا المكسرة … حالات الصراع بأحاسيس نبيلة وقيم سامية، يتحول فيه المخاطب المضمر إلى جلاد عاشق أو عاشق جلاد للوردة / الحياة …. إنه المخاطَب المسكوت عنه الذي يسعى بقوة إلى إخماد صوت الـمُطالِبَةِ بالحياة ولو كان ذلك على حسابِها بطريقة غير إنسانية قد تصل حَدَّ هتك العرض، حيث يتفسخ الجسد، ثم يُقْبَرُ صَوْتُهَا:

“تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

لا أسنان لها

يتحلل جسدها فور سقوطه

تغمرها الأرض بطين الآخرين”(38).

لكن الشاعرة، كَأَنَّ نفَساً ما يبعثها من جديد للمقاومة، منتقلةً إلى حالة الغضب، وهي الحالة التي تعكس حالة الدور الفعّال الذي تلعبه في بعث الحياة الوشيكة على الانتهاء أو المنتهية، دَوْرٍ لامحالة بلبوس الصوت المناضل حيث تُوقِظُ المرضى من على أسِرَّتِهم عسى أن ينتفضوا ضد إخماد أصواتٍ مطالبةٍ بقيمة العيش الكريم :

” كيف تغضبين كوردة؟

تسحبين الأكسجين من غرف المرضى

تحرضين باقي الورود على فعل ذلك

تقفين وسط الغرفة في خبث وادعاء.”(39).

لكن الدعوة يقابلها الأطباء/قاتلو الحياة  بنوعٍ من الرفض، فيسمون غضب الوردة، ودعوتها لإيقاظ المرضى بالمؤامرة التي تستهدف إفشال قتلِ الحياة:

“تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

يسمع الأطباء همهمات المؤامرة

يخرجونك من الغرفة عنوة

تنتقمين بحك أطرافك بأصابعهم .”(40).

فتصاب الوردة بعد محاولة النبذ والطرد لاستنهاض عزائم المهزومين والخاضعين لأسواط الجلادين بحالة هستيرية مستسلمةً للبكاء:

“كيف تبكين كوردة؟

تنزلين الندى بخفة

يهبط منك قطرة قطرة

تمسحه يد بستاني ماهر.”(41).

تلك الدموع التي تروي الإرادة والتمسك بالحياة، سرعان ما تجف الامآق، ولكن سيتجدد ذرف الدمع إيذاناً بمواصلة سمتٍ نضالي متمسكٍ بالحياة:

“تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

تجف الدموع بسرعة

تتجدد كل حين

الجفن مستعد كصنبور

يندفع نداه بأقل لمسة.”(42).

ثم تنتقل الشاعرة لعرض حالة أخرى ناجمةٍ  عن حالة البكاء المنتهية إلى الإعلان عن الرغبة في مواصلة السمت النضالي، إنها حالة الصمت الذي يؤدي إلى دفن الغضب في الحقل إحالة إلى التعب الذي اعترى الشاعرة وهي تتمسك بالحياة … الحقل ذاك المجتمع الـمُنْهَك والمُطالبِ بحقوقه عبر صراخٍ لامُنْتَهٍ يقرع صداهُ كل المسامع:

“كيف تصمتين كوردة؟

تدفنين غضبك في الحقل

تكتم الأوراق أصوات صياحها

تتكسر نبتة صغيرة في أثر الصدى.”(43).

بعد صدى الصراخ، يخيم على القبور صمتٌ عارمٌ… صَمْتٌ عن الغضب الشبيه بالسعادة، وكأن الصمت بهذا التشبيه استراحةٌ نفسية للإقرار بأن الملائكة تحصي النائمين لا الأموات، وأن نكير ومنكر في طريقهم لقبور النائمين :

“تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

تصمت القبور عن الغضب كما السعادة

توزع ملائكتها لتحصي النائمين

يسمع الزوار دبيب منكر ونكير.”(44).

هكذا يتحول الحقل إلى مقبرة للنائمين جراء التعذيب في انتظار تعذيب آخر من جلادَيْنِ: نكير ومنكر. ذلك ما يجعل الشاعرة تتساءل عن وضع آخر أو حالة أخرى حيث السعي للثمالة بغيةَ خلق غياب الإحساس الذي يؤلم عشاق الحياة بما فيهم الشاعرة سعياً منهم/ منها أن يغيبوا/تغيب برهةً عن الصراخ والبكاء… الخمر فسحة لمواصلة السير في دروب  عشاق الحياة بعد الصحو… قبل القضاء على أصوات طرية إحالة ألى خلق مُتَّسَعٍ  في رقعة المطالبين بالحياة في انتظار إفاقة الأم /مصر:

“كيف تشربين خمرًا كوردة؟

ترسلين إشارات إلى أشجار العنب القريبة

تُسير لك ما تخمر تحت أقدام النساء

ترشفين ما يمر بين القدم والساق

 

تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

تشرب الخمر كي تغيب عن الحقول برهة

تعرف الأزهار المحيطة ولعها بالسُكر

يستبد الجيران بالبراعم الطرية

قبل أن تفيق الأم.”(45).

لعل الحالة النفسية التي تنتج عن السكر دليل قاطع على ما انتاب الشاعرة من يأس في حبها للحياة، مما ستضطر إلى التعبير للتغيير عن طريق القصيد:

“كيف تكتبين شعرًا كوردة؟

تتأملين الحقل بأزهاره وأحراشه

تضطربين لما يظهر لك الوحش

تُخشنين قلبك لينجو بالشعر.”(46).

فالقصيدة ملجأ الشاعرة الجديد وهي تعبر عن مجتمع مندحر: إنه الحقل بأزهاره وأحراشه، وكأن القصيدة هي الخلاص من المعاناة، هي ملاذُ المتعبين مادام أن الوردة أليق بالموت أكثر من الحياة:

“تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

تدفع عمرها ثمنًا للقصيدة

تقسم نفسها بعدالة بين الحب والحرب

تُهدى للحبيبات

تلقي بنفسها فوق جثث الأبرياء.”(47).

تركب الشاعرة صهوة القصيدة كي تنحوَ منحيي الحب والحرب: حب الحياة ومواجهة الممات، من خلال مواجهة نوعية بين الذات كضحية والجلاد كقاتل مستلهمةً، عن وعي أو عن غير وعي، الرؤيةَ الشهرزادية في التعبير قصد التغيير.

إن حالة الرغبة في الكتابة كوسيلة للتحرر ستتولد عنها حالة الكره حيال الزائفين ووخز أياديهم بالأشواك فترةَ  القطاف، كرهٌ تسعى من خلاله الشاعرة إلى مواجهة نوعية : الموت مقابل الموت، كرهٌ لتحقيق موت متخيَّل لسارقي الحياة كي تتبدد معالمهم وتُمْحَى :

“كيف تكرهين كوردة؟

تشيحين بوجهك عن الزائفين

تطلقين شوكك في أياديهم

إذا حان قطافك

تنتظرين المبيد

ليمحو عنك آثارهم.”(48).

لكن  هل بإمكان الشاعرة قتل الجلاد بحدِّ الشعر ؟ مما لاشك فيه أن الشعر/القصيدة انتفاضة داخلية ليس إلا، مادام أن الوردة محكومةٌ سلفاً بالموت أكثر من الحياة، يصير الانتفاض شعرياً كذباً تذروه الرياح كلما هبت العواصف:

” تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

يطير الكذب إذا هبت العواصف

تعرف الريح أن بيدها مصاير عديدة.”(49).

لذا تستفيق الوردة من جديد مستفهمةً على حالة القتل، وهي تطعن الجلادين بِجِذْعٍ أبرز ما يمكن أن يقال عنه: إنه جذع متصف بالطراوة، وهل يسعف الجذع الطري أن يكون وسيلةً للطعن؟ الشعراء هم أميلُ إلى الحب انتفاضاً أو الانتفاض حباًّ، إذ تتسع الرؤية في ضيق العبارة، فيتخيلون إدماء الأجساد، وإراقة الدماء، وتغيير الأنظمة، ونشر الموت في كل البقاع.

إن الشعراء مفعمون بالحب، وعبير الحياة، إنهم أكثر حساسيةً  رغم توترهم وقلقهم الداخليَيْنِ، من مثل ذلك صنيع الشاعرة سارة في هذا المقطع:

“كيف تَقتُلين كوردة؟

تطعنين بجذعك قلوبَ الحاقدين

تدمين أجسادهم بنصلك الحاد

رائحة الموت تطغى على عبيرك.”(50).

تنتقم بالشعر، وتثأر من الجلاد لتجاوز حالات سابقةٍ مؤلمةٍ، والتي تشكل ذكرى قابلةً للإقبار، والطعن دونما استحضار:

” تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

تنتقم بالقتل إذا لزم الأمر

الثأر ليس شرًا كله

لا سبيل للفكاك من الذكرى إلا طعنها.”(51).

مما يجعل الشاعرة تفكر في حالة النوم علَّهَا تتخلص من الذات المتألمة عندما تغرق في الزمان:

“كيف تنامين كوردة؟

(…)

تتخلص الوردة من نفسها بالنوم

لما يأكلها الوقت.”(52).

النوم معادلٌ للموت السريري مؤدٍّ إلى الموت الحقيقي أو الحياة، فالوردة انام نومة الشهداء على الأرض، وليس تحت الثرى، إنه تناومٌ إن صح القول، مادام أنها وكما سبق الذكر أليقُ بالموت أكثر من الحياة، تناومٌ يكشف عن اللاموت، ومواصلة عشق الحياة:

” تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

تنام نومة الشهداء على الأرض

يبكي الناس فراقها ويضحكون

لا يبين لها موتٌ

أزهار عند ربهم يرزقون.”(53).

الموت لا يبين، والرثاء بكاء وضحك درءاً لكل أنات الجرح الذي لحق الوردة وباقي الأزهار في حقل/مجتمع يعشق الصمت لا الحياة، أو يعشقُ إسكات الأصوات.

الحقل العليل الذي يطفو بين حياةٍ وموتٍ يدفع بالشاعرة إلى توريب شفتيها في أقاصي البوح لتكونا منبعا لِعَسَلٍ  يُجَلِّلُ الكلمات… إنهم الشعراء المرهفون ذوو الشعور الرقيق… إنهم أكثر حساسيةً كما سلف الذكر، يفيضون بالجمال وهم في قمة القلق، يُخَيِّمُ عليهم الهدوء  في أعالي التوتر من أجل الحياة:

” كيف تتكلمين كوردة؟

توربين شفتيك

ليخرج منهما حلو الكلام.”(54).

إذن، في ذروة عشق الحياة، أو عشق الموت من أجل الحياة، تغدو الشاعرة أكثر ليونةً، ومرتعاً يفيض بنور الشعر/الكلام وقيمة الجمال:

” تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

ينمو الكلام في فمها حنونًا

تمنعه الخشونة من البزوغ

يموت الجمال صغيرًا

تنتقص الحياة من عمره عمدًا.”(55).

في ذروة عشق الحياة، أو عشق الموت من أجل الحياة، يتلاشى نسبيا الجمال، ويؤول نحو الزوال، ولعلَّ الجمال في السياق يكمن في الحقل/المجتمع كما تناشده الشاعرة، إنه الحقل/المجتمع الذي يفيض محبةً وأمناً وسلاماً وعدالةً: الحقل/المجتمع الذي يفيض بالحياة، وعشق الحياة، والتحرر، ذلك ما سيدعو الشاعرة إلى التجرد:

” كيف تخلعين ملابسك كوردة؟.”(56).

تجرد خاص يوحي باستسلام مؤقت، في زمان معين، فتعلن الشاعرة عن انتظار سماوي لتحقيق عدالة علوية عبر سفرٍ متخيَّلٍ ضوئي مادام أن الحقل أصبح آكثر حلكةً:

” تسلمين وجهك للقمر

يتلو عليك سفرًا من ضوئه.”

إلا أن هذا السفر سرعان ما سيتوقف عند ضوء الصباح:

“تسقطين في حضنه

وتهربين مبللة في الصباح.”(57).

هروب نحو الواقع من قبضة /قبضات أحلام، ذاك الواقع الذي يطفئ الرغبة في الحياة: إعلان بموت مُسْبَقٍ:

“كيف تطفئين رغبتك كوردة؟”(58).

إن الإنطفاء موتٌ واستسلام للوردة الشاعرة:

“كيف تموتين كوردة؟

(…)

تجف عطورك فجأة

لا تغيب أبدًا.”(59).

فتخضع الشاعرة لعامل الزمان حيث تتحول إلى أثر أو علامة ضمن آثار أو علامات عشقِ الحياة في حقل معتمٍ، تقول:

تتحولين مع الوقت

إلى أثر وحيد.”(60).

أ ليست الوردة على حد قول الشاعرة أليق بالموت أكثر من الحياة:

“تليق الوردة بالموت أكثر من الحياة

تترك جسدها الهزيل على الذاكرة

كزر يشعل القلب بالفقد.”(61).

تتأجج تراجيديا الشاعرة في زمن مظلم، في زمن يبخس الجلاد حقوق عشاق الحياة  الذين يصرخون ، ويبكون ، ويتمردون، ويموتون، وينامون، ويتكلمون، وينطفئون، ويصمتون، ويتجردون، ويسافرون بكلامهم نحو السماء من أجل إسعاد الآخرين.

يعكس ديوان ” آثار جانبية للوردة” للشاعرة سارة علام درجة من الوعي الجمالي في البوح بلغة شعرية خاصة ونوعية، تمتح من الواقع المعيش رؤى وقضايا ذات أهمية قصوى في عرض المواقف. وقد حافظت الشاعرة على اتساق وانسجام واضحيْنِ فاسحةً المجالَ للقارئ من أجل التأويل، ومعتمدةً على الصورة الشعرية في نسق شعري متميز لطرح الفكرة، وتلك خاصية من خاصيات الشعر الحداثي الذي ينبثق من الدفقات الشعورية القائمة على التراكيب الاستعارية.

فالديوان رقصات حزينة في واقع أكثر حُزْناً، حيث الشاعرة سارة العلام تجول في دروبٍ لتكشف عن عبثية الواقع المجتمعي، وهي في حالة هدوءٍ تارةً، وقلقٍ تارةً أخرى، وبذلك تتحقق شعرية الهدوء والقلق بين ذات ثائرة، وواقع متأجج. إن هذه الميزة التي ميزت الشاعرة سارة علام من خلال ديوانها ” آثار جانبية للوردة” تتلاءم وحديث أدونيس  عن الشاعر بكونه لا يستطيع:” أن يبني مفهوماً شعرياً جديداً إلا إذا عانى في داخله انهيار المفاهيم السابقة، ولا يستطيع أن يجدد الحياة والفكر، إذا لم يكن عاش التجدد، (…) وانفتحت في أعماقه الشقوق والمهاوي التي تتردد فيها نداءات الحياة الجديدة.  فمن المستحيل الدخول في العالم الآخر، الكامن وراء العالم الذي نثور عليه، دون الهبوط في هاوية الفوضى والتصدع…”  (62).

 

 

 

 

***********************************************

 

 

 

 

 

 

المراجع:

(1) د محمد مفتاح مقاربة أولي لنص شعري مجلة الفصول الأربعة العدد 29 السنة الثامنة يونيو 1985 ص 276 

(2) المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م، ص: 1024.

(3) المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م، ص: 5. 

(4) ريني مارل  ألبيريس، ” الاتجاهات الادبية في القرن العشرين”، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات عويدات- بيروت، ط 1، 1965، ص:  137/ 138.

(5)  تيري إيجلتون،:” نظرية الأدب”، ترجمة ثائر ديب، وزارة الثقافة سوريا، 1995، ص: 149.

(6) سورة الرحمن، الآية 12.

(7)، سورة الواقعة، الآية 89.

(8) سارة علام، ديوان ” آثار جانبية للوردة “، دار العين للنشر، القاهرة، 2018، ص: 149.

(9) نفسه، ص: 84.

(10) نفسه، ص: 84.

(11) نفسه، ص:85.

(12) نفسه، ص:63.

(13) نفسه، ص: 63/ 64.

(14)نفسه، ص:101.

(15) نفسه، ص:101 

(16) نفسه، ص: 107.

(17) نفسه، ص: 107 / 108.

(18) نفسه، ص: 108 / 109.

(19)أدونيس،  ” زمن الشعر، دار العودة، بيروت، 1978، ص:31-32.

(20) سارة علام، ديوان ” آثار جانبية للوردة ” دار العين للنشر، القاهرة، 2018، ص:117. 

(21) نفسه، ص:137.

(22) ابن هشام الأنصاري، “مغني اللبيب”، تحقيق حنا الفاخوري، الجزء الأول، دار الجيل، بيروت، 1991، ص: 423.

(23)سارة علام، ديوان ” آثار جانبية للوردة ” دار العين للنشر، القاهرة، 2018، ص:77.

(24) نفسه، ص:77.

(25) نفسه،ص:77/ 78.

(26) نفسه، ص:78.

(27) نفسه، ص:78.

(28) نفسه، ص:149/ (…) / 168.

(29) نفسه،  ص: 149.

(30) نفسه،  ص: 97.

(31) نفسه،ص: 149/ 150.

(32) نفسه، ص: 150.

(33) نفسه، ص: 151.

(34) نفسه، ص: 151.

(35) نفسه، ص:152.

(36) نفسه، ص:152.

(37) نفسه، ص:152.

(38) نفسه، ص:153.

(39) نفسه، ص:157.

(40) نفسه، ص:157.

(41) نفسه، ص:158.

(42) نفسه، ص:158.

(43) نفسه، ص:159.

(44) نفسه، ص:159.

(45) نفسه، ص:160.

(46) نفسه، ص:161.

(47) نفسه، ص:161.

(48) نفسه، ص:162.

(49) نفسه، ص:162. 

(50) نفسه، ص:163.

(51) نفسه، ص:163.

(52) نفسه، ص:164.

(53) نفسه، ص:164.

(54) نفسه، ص:165.

(55) نفسه، ص:165.

(56) نفسه، ص:166.

(57) نفسه، ص:166.

(58) نفسه، ص:167.

(59) نفسه، ص:168.

(60) نفسه، ص:168.

(61) نفسه، ص:168.

(62) أدونيس، “زمن الشعر، دار العودة، بيروت، 1978،  ص: 45.