صحوة الغافلين وتدافع الدافِنين
موجز في تمثيل المسلمين وحقوق الدفن في إسبانيا، أضواء وإشكاليات
الوطن24/ إعداد: الدكتور سامر الناصر
أستاذ مشارك في تأريخ القانون والنظرية السياسية بجامعة كارلوس الثالث بمدريد، منتدب للبحث العلمي لدى المجلس العالي للبحث العلمي
الخلاصة.
في معرضنا هذا سنتطرق أولا لمسالة التمثيل، فحالياً لا تمثيل للمسلمين فيما يتعلق ببنود بإتفاقية 1992 خارج نطاق الجماعات المُنخرطة ضمن المجلس الإسلامي والمسجلة رسمياً في سجل الجماعات الدينية، فلا لأحزاب ولا قنصليات ولا سفارات أيُّ سلطة بذلك. بالرغم من هذا، لأي مسلم، وبإرادة فردية، تمثيل مصالح وسمعة الإسلام عموماً، فيما يتعلق بالحقوق المُشاعة.
فيما يتعلق بالمقابر الجماعية، أي البلدية، أولاً أن هذه آجلة لمدة عشرة سنوات، يُستقضى بعدها استيفاء الرسوم البلدية، وحتى أجل أقصاه 99 سنة. في حالة انقضاء أيُّ الأجلين، يُستخرج المدفون وتحرق جنازته، لذا يجدر التنويه لذلك.
من جانب آخر، أجاز المُشرِّع نقل جثمان المدفونين من أيِّ مقبرة لأخرى، بعد مرور عامين من الدفن؛ بينما لا يُجيز نقل من توفي شهيد الوباء، إلا إن هذا أمر يمكن مشاطرته أمام القضاء، إذا ما أجازه أهل العلم.
ما يجدر بل ويتوجب هو تشكيل هيكلية قانونية حريصة تعمل على تنظيم الوضع الإسلامي إبان اتفاقية 1992 هذه، إما بطرح مشروع تعديلها، بغية تلافي الأخطاء الموضوعية التي سنتعرض لها، إضافة لإعادة النظر بالهيكلية، وإما بطرح مشروع نظام وطني جديد.
على كل حال من الأحوال، كل ما تقدم يتعلق بحقوق المسلمين أسبان الجنسية، أما المقيمين، فسواء كان تمثيلهم، أم انتمائهم لهو أمر آخر يخرج عن حيز هذا النقاش.
المُقدِمة.
سباق المقابر على المنابر الذي احتدم هذه الأيام والذي تحدثت عنه قبل حين، اضمرَّ احتدامه، بل وطافت عقول الناس بتجارهِ كليلاً. فمن جانب ولاية قنصليات تبرئت أصلاً من مواطنيها في خضمِّ الحاجة، وبدل أن تجد لهم الملجأ، صارت تدعي إمارة المسلمين أجمعين، ففجأة انقلب الحال منذ أن كان كل مسلم إرهابي، لإن أصبح اليوم كل مسلم رعيّة من رعايا القنصليات، تولت أمره كولاية اليتيم، بالرغم من تبرئها من أبنائها أصلاً، ومن جانب آخر فوضى وتقاتل المجلس الإسلامي، وهذا أمر تعرضت له سلفاً.
المُشكلة لا تكمن في دناءة نفس الدنيء، فهذا أمر مُسلَّمٌ به، ولا بضياع الناس وانفصام الشخصية، ولا حتى أصلا بتبرؤ الحكومة الأسبانية من مسلمي العقيدة، التي خرج أبطال السفارات والمنابر اليوم مدعين ريادتهم، فكل هذه أمور مُسلّمٌ بها، إنما المشكلة في غموض وتقصير قانون اتفاقية الدولة مع المؤسسات الإسبانية لسنة 1992 (القانون أو الاتفاقية فيما بعد)، وما يضمه من مفارقات، تناقضات، مع نفسه، مع غيره من القوانين، بل وحتى إني ما زالت أجزم بعدم دستورية بعض ثغراته. وهذا الأمر طبعاً منبره آخر سأتعرض له بإسهاب في محِلَه، بل وإني أعرِضُ نفسي متطوعاً لمن يرغب العمل على الطعن به سواء كان بالطريق الدستوري، أم باقتراح مشروع قانون جديد، ولإن هذه لهي حاجة آنية متجددة يجدر العمل، بل والضغط عليها.
لكني سأتطرق هنا رداً لما اطلعت عليه من استفسارات، استهجانات طيبة، بل وحتى سباقات تُجار الريادة، وما أكثرهم اليوم.
من حيث المقابر.
تقضي الفقرة الثانية من الفرع الخامس من المادة الثانية من القانون بما يلي:
«يُضمن حق الجماعات الإسلامية، المُنظمّة إلى ⟨المجلس الإسلامي الإسباني⟩، الحق في تخصيص بقع لغرض الدفن الإسلامي داخل المقابر البلدية، والحق في إقامة مقابر إسلامية خاصة بهم…»
«Se reconoce a las Comunidades Islámicas, pertenecientes a la «Comisión Islámica de España», el derecho a la concesión de parcelas reservadas para los enterramientos islámicos en los cementerios municipales, así como el derecho a poseer cementerios islámicos propios… »
لا محالة إن في هذه المادة مفارقات بل مغالطات عِدّة.
1- من حيث الشكل، إن الحق للجماعات الإسلامية محصورٌ فقط بتلك المُسجلة رسمياً والمُنظمّة للمجلس الإسلامي الإسباني، وعليه لا يدخل ضمن هذا متسابقو المنابر لا من أحزاب سياسية، أياً كانت صفاتها، ولا قنصليات ولا سفارات، ولا أمراء مؤمنين.
2- من حيث العين، الحق في هذه البقع يتعلق ضمن نطاق البُقع المخصصة للمسلمين. أي أن في المقبرة (س) يمكن أن تتوفر بقع للمسلمين بموجب حقهم العقائدي المستقل، وأخرى خصوصاً للجمعيات المُسجلة. فحق العقيدة حق دستوري مضمون، لا انتقاص منه، ولا يمكن اختزاله بأن يُجبر المسلم بالانضمام لهيئة أو جماعة معينة، ومن ثم حق الجماعات أيضاً مضمون لا يمكن الانتقاص منه بشرط الانضمام للمجلس الإسلامي. فتوجد جماعات وطوائف تَدّعي اعتقادها بالإسلام، وإن أعتبر الإسلام فساد عقيدتها، إلا أن حقها الدستوري مضمون بأن تُخصص البقع في المقابر البلدية لهذا ولذاك، أي للمنخرط تحت راية المجلس الإسلامي، وغيره.
3- من حث العدْ لا الإحصاء، الحق المومأ إليه ليس حصرياً، بل يمتد لحق الجماعات المنخرطة بإقامة مقابر خاصة بها، خارج نطاق المقابر البلدية المختلطة. وهذا ما تطرقتُ إليه في حديثي الآنف في هذا الأمر، فهذه المقابر هي المقابر الإسلامية المقصودة في شروط الشريعة، وأما المقابر البلدية المختلطة فهي حق قانوني، ضمنهُ المُشرِّع الإسباني، لكنه لا هو بحصري ولا قائم بالشرط الشرعي.
4- المشكلة الحصرية غير العدّية، تكمن في تلك الجماعات غير المنخرطة تحت راية المجلس الإسلامي، أي المستقلة عنه، لأي سبب كان، ورغبتها في إقامة مقابر مستقلة لها، أي مقابر إسلامية خارج نطاق المجلس الإسلامي. فالقانون هنا انتقص من حق هذه الجماعات من أن تقيم مقابر على هذا السياق، أو على الأقل بأن مقابرها حينئذٍ تتمتع بالحرمة القانونية التي تتمتع بها الأخرى، وهنا تكمن أولى المشاكل الدستورية، ألا وهي مشكلة التمثيل التي سنعرضها تباعاً.
5- ألأمر الأهم، أن ترخيص الدفن في المقابر البلدية ترخيص إداري آجل، بأجل أمدهُ عشرة سنوات، بانقضاء هذا الأجل يتحتم على ذوي المتوفى دفع رسوم القبر السنوية بحسب ما تحدده الرسوم البلدية كل عام لأجل أقصاه 99 سنة. في حال عدم تسديد الرسوم، أو انقضاء الأجل الأقصى، فإن الجنازة تُستخرج وتُحرق، وهذا ما يتعارض مع الحكم الشرعي الإسلامي شكلا ومضموناً.
من حيث التمثيل.
يضمن نظامنا الدستوري حق التمثيل على جميع الأصعدة، سواء كان في الخواص، العوام أم الإجرائي. بل والتمثيل الإجرائي، مضمون لفرد عن جماعة وإن لم يكن للجماعة تنظيم، وإن كان ولم يكن هذا منخرطاً مع الجماعة. فمثلاً يجوز لأي مواطن مسلم حق الطعن بأي تصرف عام أو خاص يمس بحرمة العقيدة الإسلامية، لشعوره بالمضرة الشخصية، كما يجوز لأي فرد الطعن بأي تصرف حكومي دفاعاً عن القانون والنظام العام. وإن كان للقانون والنظام العام مُدعٍ عام، وإن كان للعقيدة مؤسسة تعتنقها. فتمثيل الإسلام لا ينحصر بالمجلس الإسلامي، ولا أي منظمة منخرطة بموجبه، ولا يحق لأي من هذه أن تدعي لنفسها الزعامة الحصرية، بل وإن ادعائها هذه الزعامة بحد ذاتها جريمة ينتقص منها القانون الجنائي، باعتبار أن الفرد يمارس حقاً أساسياً يعود تمثيله لشخصه، لا لعين أي ممثليه عنه بدون إذنه، بل ولا يجوز دستورياً لأي قانون أن ينتقص منه.
المشكلة تنحدر من مفارقات الاتفاقية، حيث تنص المادة الأولى منها على ما يلي:
«الحقوق والواجبات المناطة بموجب هذا القانون المُتبني هذه الاتفاقية يتعلق بتلك الجماعات الإسلامية المُسجَلة في سجل الهيئات الدينية، والتي تنخرط فيما بعد تحت ظل المجلس الإسلامي الإسباني، أو إحدى الجماعات المُسجلة لهذا الغرض حيثما كان نافذا تسجيلها في ذلك السجل»
«Los derechos y obligaciones que se deriven de la Ley por la que se apruebe el presente Acuerdo serán de aplicación a las Comunidades Islámicas inscritas en el Registro de Entidades Religiosas, que formen parte o posteriormente se incorporen a la «Comisión Islámica de España» o a alguna de las Federaciones Islámicas inscritas integradas en dicha Comisión, mientras su pertenencia a las mismas figure inscrita en dicho Registro.»
فهنا حصر المُشرِّع حق تمثيل الحقوق التي نصت عليها الاتفاقية فقط بالجماعات المُنخرِطة. وهذا طبعاً ردنا على من ادعى انتصارات، وثمار مجهودات دبلوماسية وسياسية، وسباقات كلامية وإعلامية. فلا حق لمطالب ببنود الاتفاقية لغير المسجل في سجل الهيئات الدينية، خارج نطاق المجلس الإسلامي، كان من يكن.
المشكلة هنا تكمن، كما تطرقنا في تلك الجماعات غير المنخرطة ممن رفض المجلس قبولهم لفساد عقيدتهم مثلا، والأمثلة لا محل لذكرها، بل وأيضا ممن يرغب ممارسة حقه العقائدي بطريقة مستقلة خارج نطاق المجلس، ولهو حق دستوري مضمون بموجب أحكام المادة 14 من حيث المساواة، 16 من حيث الحرية العقائدية، بل والكتم عنها 16.2 حيث يقوم التعارض من حيث الشكل والموضوع، ومن ثم ما تطرق له الفقه القضائي المستقر في عدة أحكام للمحكمة الدستورية، ينطبق بالضبط على هذه الحالة الحكم 214/1991 في قضية يهودية طعنت نصوص صحفية وتصريحات فردية مست عقيدتها، فرَدّتْ المحاكم الاعتيادية قضيتها بحجة عدم إمكانية تمثيلها الفردي لمُجمل العقيدة اليهودية، لكن رَجعّت المحكمة الدستورية حقها وألغت كل ما سلف من الأحكام. ولإن حق التمثيل المُشاع هذا مضمون بموجب أحكام المادة 19/أ للأفراد و ب للجماعات من قانون القضاء الإداري الحالي. فهنا تكمن مشكلة دستورية أخرى!
من حيث نقل الجثمان.
انغمرت عليَّ تعليقات وأسئلة فيمن فوجئ، أو ادعى أنه فوجئ، بعدم شرعية مقابر المسلمين، أي البقع المخصصة للمسلمين في المقابر البلدية المختلطة، وفيمن توهم غالطا ذاك وما الحل؟ بالرغم من أني ما زلتُ أنادي بهذا منذ سنة 2004، لكن لم أجد آذان صاغية، ربما نازلت اليوم عادت بالناس لألبابهم.
من حيث الأصل، يُجير القانون الإسباني نقل الجثمان من المقابر البلدية، حيث أن هذه مُلزمة بقبول جميع موتاها لمدة عشر سنوات فقط، فبعد انقضاء المدة، على ذوي المتوفى إما أداء الرسوم البلدية النافذة، وإما نقل جثمان ذويهم إلى حيث يشاءون، أو أن يُخرَج الجثمان ويحرق. وطبعاً هنا تكمن مشكلة شرعية عويصة لم تتطرق لها الاتفاقية قط! فما بال من دُفن جاهلا، وضاع ذويه ولا ممثل له؟ الحال هنا يصير إلى الدولة، وصي من لا وصي له، فيُخرج هذا الجثمان ويُحرق وانتهى الأمر. للأسف لم تُنيط الاتفاقية لا الجماعات حق هذا التمثيل النيابي، ولا حل ولا استثناء لهذا.
السياق القانوني الذي قدمه مُشرِّع قانون التنظيم الذي أقر الاتفاقية تدارك هذه المسألة في الفرع الأخير من الفقرة الثانية من الفرع الخامس من المادة الثانية آنفة الذكر قائلاً:
«يُضمن حق نقل الجثمان إلى المقابر التابعة للجماعات الإسلامية، سواء كان المدفونين حالياً في المقابر البلدية أم أولئك الذين يتم دفهم فيها مستقبلاً لعدم توفر مقابر إسلامية، بموجب أحكام القانون البلدي والصحي النافذ».
«Se reconoce el derecho a trasladar a los cementerios pertenecientes a las Comunidades Islámicas los cuerpos de los difuntos musulmanes, tanto los actualmente inhumados en cementerios municipales como los de aquéllos cuyo fallecimiento se produzca en localidad en la que no exista cementerio islámico, con sujeción a lo dispuesto en la legislación de régimen local y de sanidad.»
المسألة هنا تدور في عدة محاور.
1- من حيث الأشخاص. حق نقل الجثمان، بل إقراره حق شخصي يعود لذوي المتوفى، ولا علاقة للأمر بالانتماء لجمعية إسلامية أو أخرى، بل وربما كان المتوفى مُنتمٍ، لكن ذويه لا، كما قد يكون متزوجاً من غير مسلم، فهنا ستدور دوامة التمثيل ولمن الأولوية، وما أكثر الأمثلة.
2- من حيث الحُكم. فتعليق حق النقل بأحكام القانون الصحي أمر آخر. فهنا المرسوم رقم 2263 لسنة 1974 القاضي بقوانين إدارة الجنائز، يقضي بأمرين مهمين. اﻷول أن المادة 8 تصنف الجثث إلى صنفين، الأول من مات بسبب وباء، أو مرض معدٍ، أو جراء التعرض لإشعاع ذري؛ والثاني من توفي وفاة طبيعية. الجدير بالذكر أن المُشرِّع قد سارع بإضافة مرض الأيفولا إلى الصنف الأول بتعديل سنة 2014، لكن لحد الآن لم يصدر تعديل بإضافة فيروز الكورونا للأسباب، بالرغم من أنه مُدرج ضمنياً تحت صنف الجائحة، بموجب إعلان منظمة الصحة الدُولية للحادي عشر من آذار (مارس) الماضي. مفاد التصنيف الأول، أن المادة 12 من القانون تمنع منح أي رخصة نقل دُولي خارج البلاد، إلا بموجب اتفاقية خاصة، وهو ما سار حالياً مع فرنسا والبرتغال فقط. ومن جانب آخر، وهو محل معرضنا ها هنا أن المادة 30 تنظم نقل الجثمان فقط للمجموعة الأولى، حيث تمنع الفقرة الثانية من المادة 53 ترخيص نقل أي جثمان من المجموعة الأولى، لأسباب صحية.
فهنا نجد من يُطرح السؤال، ماذا عمّن سيتم إيداعهم في مقابر مؤقتة (مختلطة) أو انتقالية بُغية دفنهم فيما بعد في مقابر إسلامية؟ الجواب أننا أمام تعارض بين حق أساسي دستوري، ومضمون في المادة الثانية من الاتفاقية محل شرحنا، وبين معارضة هذه المادة التي في حقيقتها سابقة على الدستور نفسه، حيث تعود لسنة 1974. طبعاً ربما الجواب يجدر بحثه أولاً عند أهل العلم، أي أهل الفقه الإسلامي. أيهما أجدر، أن نترك من دُفن في غير مقبرة المسلمين، شهيد الوباء، أم نقتتل والقانون بغية نقله لمقابر المسلمين؟ حيثما يجيب أهل العلم هذا، سننظر في تقديم السبب القانوني بناء على ما تقدم.
أما فيمن دُفن في هذه المقابر المختلطة بغير سبب الوباء، فيمكن نقله بعد مرور سنتين من تأريخ الدفن، على الطريقة الإسلامية، أي بدون تابوت. بالرغم من هذا، توجد بعض الفوارق بين إقليم وآخر، فتنظيم قانون 1974 تُرك للأقاليم الحالية.
تعليق واحد