صمود نظرية الأمزجة في القرن الواحد و العشرين
الواطـن 24/ د. جلال مودن
يتطور العلم بشكل مهول وسريع لدرجة أنه أحيانا يخيل و كأنه انفجار للمعرفة والتقنية والتكنولوجيا…، ورغم كل هذا تبقى الشخصية الإنسانية عصية الاختراق. فهي الجرم الصغير الذي انطوى على العالم الكبير. والعمل العظيم الذي لطالما كان محل الدراسة والبحث عبر الأزمان, لقد شكلت الفلسفات الشرقية الأرضية الأولى لفهم الكون والإنسان، ولا غرو، فقد كانت مهبط الرسالات ومحل الأنبياء، و كثيرا ما كنت أتساءل مع نفسي أين الغرب من الرسالات السماوية و الأديان ؟ أين رسله وأنبياؤه ؟ لماذا الغرب المعادي للشرق مدين له بالتبعية في الدين؟ أسئلة لم أجد لها أجوبة كافية شافية.لكني متأكد أن الغرب مدين للشرق بالمعرفة كذلك، ولم يستطع رغم ما وصل إليه من تقدم أن ينفصل عن هذا الشريان في العديد من الأبواب المعرفية.و لعل قضية الشخصية الإنسانية من هذا القبيل.
يعد أبقراط (400 س ق)، من أوائل من تحدث عن أنماط الشخصية ونظرية الأمزجة Temperaments في كتابه طبيعة الرجل(Nature of Man) ولعله استفادها من الموروث المصري، علما أنه يوجد نظير لها في الفلسفات الأشورية و الصينية و الهندية الشيء الذي قد يحيلنا إلى وحدة المصدر .
المهم أن ابقراط ذكر أربع أمزجة كأنماط للشخصيات البشرية و هي:
-(Sanguine دموي). المزاج الدموي: متفائل،مبتهج، نشط، سهل الاستثارة .
– (Choleric (الصفراوي) المزاج الصفراوي: سريع الانفعال، سريع الغضب
– ( Phlegmaticبلغمي) المزاج البلغمي: خامل، بليد، منزو و يتسم بالبرودة ولا مبالاة ورابطة الجأش
– (Melancholic السوداوي) المزاج السوداوي: متشائم، منطو، مكتئب و حزين.
و هذه الأمزجة مرتبطة بالطبائع الاربعة:الجفاف. الحرارة.الرطوبة. البرودة.
و بالعناصر الاربعة المشكلة لدورة الحياة الانسانية الهواء و النار و الأرض و التراب و بالفصول الأربعة الربيع و الصيف و الخريف و الشتاء.
طغيان أحد هذه العناصر يعطينا نماذج للشخصيات الإنسانية، فكل شخص له تكوينه المزاجي الخاص به، اختلال التوازن في سوائل الجسم الرئيسية(الدم والبلغم والصفراء والمرارة) قد يؤدي إلى اضطراب في المزاج، وهذا يعني أن محاولة ابقراط لتنميط الشخصية وربط سلوك وتصرفات الإنسان (أي مزاجه) مع افرازات الجسم، يعد سبقا من وجهين: الأول: الربط بين الاستعدادات الفطرية والشخصية، لأن المقصود عنده بالمزاج طبيعة الإنسان أو فطرته، الثاني: الربط بين العمليات الحيوية التي يقوم بها الجسم وتصاحب انفعالاته و تصرفاته، و تؤثر على صحته النفسية والجسدية .
إن هذا المفهوم للشخصية الذي بسطته هنا باختصار ظل لأزيد من عشرين قرنا الأساس النظري للطب، منذ عصر اليونان لغاية ظهور ما يسمى بالطب الحديث، ولازال قائما إلى الآن، سواء في مدرسة التحليل النفسي أو الطب بصور مختلفة .
وسأتحدث في المقام الأول عن مدرسة التحليل النفسي، ثم في المقام الثاني عن الطب الحديث .
1- مدرسة التحليل النفسي :
يعد كارل جوستاف يونج (1875-1961) رائد مدرسة علم النفس التحليلي Analytical Psychology .. ، والذي استطاع من خلال أعماله أن يرسخ لمفاهيم جديدة، كمفهوم اللاشعور الجمعي Collective Unconscious، ومفهوم النماذج الأولية أو الأصلية Archetypes، بالإضافة إلى مفاهيم الأنيما والأنيماس Anima-Animus، والقناع Persone، والظل Shadow وغيرها من المفاهيم،التي تجاوز بها الأسس التي وضعها أستاذه و رفيق دربه فرويد.
و ما يهمني ها هنا نظريته الخاصة بمفهوم الأنماط النفسية، موضوع كتابه الشهير الانماط النفسية ( Psychological Types – ) .
حيث يقسم يونغ الناس فيما يتعلق بالطاقة النفسية إلى قسمين أو محورين رئيسيين هما الانبساطية والانطوائية ( Introversion & Extroversion ) .. وهذا هو التقسيم الذي اعتبره المميز الكبير أو الـ Big Discriminator .
و المدخل الأولي لمعرفة الشخصية، فالانبساط هو توجيه للطاقة النفسية إلى الخارج ويركز صاحبها على الحقائق أكثر ويضع نصب عينيه هدفا وراء نشاطاته الخاصة كما أنه يستمد طاقته من مزاولة الأنشطة مع الآخرين. أما الانطواء فهو توجيه للطاقة النفسية إلى الداخل و يتضمن حركة سلبية أو ميل إلى الانسحاب, أو الاهتمام الذاتي بعيدا عن الموضوعات الخارجية، و الإتجاه نحو خبرة الفرد الداخلية.
و هذا المفهوم مستلهم من نظرية ابقراط، و مطابق للفلسفة الصينية القائمة على الثنائية القطبية، التي تقسم كل شيء إلى ين و يانغ سالب و موجب،ليل في مقابل النهار والبرودة في مقابل الحرارة والإنقباض في مقابل الإنبساط وهكذا في الأمراض والأعراض والشخصيات.
فحسب نظرية ابقراط يدخل في الانطوائي البلغمي والسوداوي، وأما الانبساطي فيدخل فيه الدموي والصفراوي.
صحيح أن يونغ بعبقريته يزيد الأمر تفصيلا وهو يتحدث عن الوظائف الذهنية الأربع التي يستخدمها الفرد بشكل أساسي ( Cognitive Functions )، هي: الحس ( Sensation ) والحدس ( Intuition ) والتفكير ( Thinking ) والشعور( Feeling ) . – وهي ما ربطه ابقراط بخصائص كل مزاج على حده-
اثنتان من هذه الوظائف الذهنية تختص بعملية الإدراك ( Perceiving ) .. وهما وظيفتا الحس والحدس ( Intuition & Sensation )، أسماهما يونغ بالوظائف اللاواعية أو اللاعقلية ( Irrational Functions ) .
والاثنتان الأخرتان تخصان عملية الحكم ( Judging ) .. وهما وظيفتا التفكير والشعور ( Thinking & Feeling ) ، وأطلق عليهما: الوظائف الواعية أو العقلية ( Rational Functions ). والناس يختلفون في تأثرهم بهذه الوظائف المعرفية، فهناك من يفضل التفكير كدليل قبل إطلاق الأحكام، وآخر ينقاد وراء عاطفته الصرفة، وثالث يختبر العالم بناء على الإنطباعات التي تنقلها له حواسه بشكل مباشر، ورابع يعتمد على حدسه والعلاقات الخفية، ويرى يونغ أن واحدة فقط من هذه الوظائف الأربع هي التي تأخذ بزمام القيادة و تؤازرها أخرى من الثنائي الآخر كأن يعمل التفكير على مؤازرة الإحساس، أو الإحساس يؤازره التفكير، …وبناء على ذلك فإن كل وظيفة ذهنية من هذه الوظائف الأربعة تتخذ حالة من السلوك attitudes عندما تطبق على محور من محاور الطاقة النفسية .. إما حالة إنبساطية Extroversion أو حالة إنطوائية Introversion .. فيصير لدينا ثمانية وظائف وهي :
الحس الإنبساطي Extroverted Sensation .. ،
والحس الإنطوائي Introverted Sensation / ،
والحدس الانبساطي Extroverted Intuition …
والحدس الإنطوائي Introverted Intuition .
والتفكير الإنبساطي Extroverted Thinking
والتفكير الإنطوائي Introverted Thinking.
والشعور الإنبساطي Extroverted Feeling ..
والشعور الإنطوائي Introverted Feeling .
وكل فرد يميل إلى أحد هذه الوظائف الرئيسية المحددة لملامح شخصيته.. وبالتالي يكون هناك عند يونغ ثمانية نماذج للعمليات النفسية ، وهي عمليات لا تعدو أن تكون تفصيلية عن النظرية الأبقراطية.
لقد شكلت نظرية كارل يونغ نقطة تحول رئيسية في مجال تنميط الشخصية و باتت محط الدراسة وتقليب النظر بين مطور و مختزل و مدمج… و نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر: نظرية هانز آزيك(1916-1997):1-الإنطواء 2-الانبساط.3-العصابية (neureticism). 4- الذهانية (psychoticism).
ونظرية وليام مارستون( 1893-1947) لخص فيها التعبير السلوكي عن الإنفعالات إلى أربعة أنماط:
1-مسيطر (dominant).2-مبادر (initiatiativ).3-مثابر (stetig).4-دقيق(gewissenhaft ) وخصص لكل نمط لون معين للتمييز بينها، فجعل اللون الأحمر للمسيطر و الأصفر للمبادر و الأخضر للمثابر و الأزرق للدقيق.
ثم جاءت يوند ياكوبي تلميذة يونغ فجمعت بين نظريتي يونغ و مارستون في نظريتها إطار العجلة التي رسخت فيها لتقاطعات الأنماط المختلفة و أثبت وجود (الأصفر أخضر) و( الازرق أحمر) و( الأخضر أزرق) و (الأصفر أحمر).و توالت بعدها الدراسات و النظريات الدائرة في نفس الفلك و الأساس النظري،
وفي النهاية أعود للجواب عن السؤال الأول الذي طرحته لماذا كتب لنظرية أبقراط التي تستمد جذورها من فلسفات الشرق المصرية و الصينية و الهندية ؟
ولماذا هذا الدواران المتواصل حول نفس الفكرة بصور مختلف ؟
لعل الجواب السهل و الوجيه -الذي يبدو لي- يكمن في ارتباط الفلسفات الشرقية عموما بالمصدر الغيبي الذي كان مرتكز الإجابات الأولى حول أسئلة الكون الكبرى التي شغفت الإنسان منذ أن وجد على الأرض ، و الذي تعرضت من حين إلى آخر للتحريف أو الاندثار ،ثم تأتي العقول الراجحة الباحثة عن الحقائق فتنفض عنها الغبار وتقدمها في ثوب قشيب يليق بالزمان و المكان الذي ستحيا فيه من جديد،لأن الأفكار العظيمة تحمل أرواحا عظيمة لا تموت بموت أصحابها بل تعيش ما كتب للإنسانية البقاء. و نظرية الأمزجة من هذا القبيل ،و لعل الأمر سيزداد وضوحا في المقال المقبل عند حديثي عن صمود النظرية في المجال الطبي.
قائمة المراجع و المصادر:
-علم النفس التحليلي :ك غ يونغ –ترجمة :نهاد خياطة ط 2 سنة 1997م.دار الحوار للنشر و التوزيع.
-البنية النفسية للانسان ك غ يونغ نفس الترجمة و الدار .
-علم النفس الشخصية .احمد محمد عبد الخالق.ط سنة 2016. مكتبة الانجلو المصرية.
-الأبعاد الأساسية للشخصية تأليف احمد محمد عبد الخالق.تقديم هانز آزيك. ط الرابعة سنة 1987 م دار المعرفة الجامعية .