فـــي طريق العــــودة

الوطن 24/ بقلم: د. كريمة نور عيساوي*

وأنا في طريقي الممتد كل أسبوع تبتلعني المسافات دون طوق نجاة، كلما أيقنت الوصول زاد امتدادها، وزاد معها إصراري على ملامسة خط النهاية، هي المسافات تحملني في حقيبة السفر منذ سنين، حتى أيقنت أنه لا مفر…  أجد هذه الأجوبة الجاهزة والمعلقة على محيا البعض ممن يصطفون في طابور المحبة، تستفز أسئلتي  السائحة في حزمة الأفكار. منذ الصباح وأنا أقفز بين الصفحات، أنط بين الصور، وأسيح بين الحروف المضيئة من وهج خيوط الشمس الغائبة تحت قطن السماء، إذ لا ندى يتقطر من الزهر، أتماهى مع المدهش من المعاني وأتعجب ممن لا يزال يغط في سباته العميق،وقد فاته هذا الفيض الرباني وهو يكتب أحلى قصيدة…

   لكن بين  لحظة تكتبني ولحظة أكتبها. هناك لحظة تعصرني في فنجان قهوة فتشربني الساعات  وأنا أراقب تلك الثواني والدقائق التي تجري دون كلل أو ملل، أراها تصاحبني كما لو أننا خطان متوازيان نجري نحو نقطة واحدة  من دون أمل في الوصول… لعلي قررت أن أوقف الزمن، وأقف على ناصية الوقت، أتدبر ما يجري في هذا العالم  الذي اقتحمني دون رغبة مني، عالم أضحى يخترقني بانتظام، أتوسل به سبل النجاة من طول المسافات التي تؤرقني وتقض مضجعي …

قد يطل علينا الفرج عما قريب وقد نستيقظ على معجزة، رغم انقضاء عصر المعجزات، فأنا على يقين أن هذا الاقتحام يشغلني، ويؤخر مشاريعي، ويضعها جانبا، يسحبني دون وعي مني، يأخذني لأقضي الساعات الطوال أمام دهشة الاكتشافات. وروعة التجوال التي لا تنتهي…،

لعلك وأنت تمارس لعبة الحياة التي اخترتها تجدها تقبل عليك بلهفة أُمِّ تستقبل رضيعها؛ فتنطلق تسابق الريح في  الطرقات، ترتق الحدود،  تطوي المسافات تستقبل نسمات الصباح الباردة، وهي تقرص خذ نوافذك المشرعة على المستقبل، تنسج صورة  خالدة لحلم لازوردي؛ فيطل عليك شعاع دافئ  مبتسما، وقد انفلت من قرص الشمس البرتقالي؛ لتشاكسك  قطرات الندى، تغسل مدامع الشجر، وترهم جروح البشر؛ تلك زهرة التوليب تلوح لك من بعيد، تكشف عن سر رقصها المتناغم مع حركة الكون الدؤوبة؛ تلك طيور الماء تشبهك، لا تشبه أحدا سواك في استراحتها على وجه النهر أو تمدد سيقانها في بطنه لا تلتفت للمحدقين   بها صباح مساء؛ ذلك العالم الزبرجدي الذي ترسمه  أمامك الطبيعة ما يلبث أن يتحول إلى ظلام دامس، وخراب رمادي بائس تتذوق كلماته حنظلا، لا قدرة لك على بلعه أو تركه ينفجر قنابل موقوتة في حقول الإنسانية. بعض العيون لا ترى من الكأس إلا جانبه الفارغ؛ حتى وإن ملأته بالكامل

فرؤيتهم محدودة وقاصرة….

كثيرا ما ترغب في خوض غمار المواجهة، وأنت تعلم أن المعركة محسومة لصالحك؛ وأن الحق لا يغيب مادام وراءه طالب موقن بالعدالة. لكن ترك بعض المعارك فوز ساحق… فترتدي رداء التجاهل والسمو والعلو عن السفاسف الباهتة؛ فأنت موقن ألا مكان لك هناك في عالم موبوء. الداخل في كنفه مفقود والمترفع عنه مولود.

نعم لك عالمك الخاص ترفل بين جنباته،  تنير عتمات دهاليزه، تمشي تجري تركض تنثر حبات الفرح قوس قزح؛ هنا مكانك حيث العمل عبادة، والعطاء ولادة جديدة تغيب معها كل الوجوه المتشحة بالسواد، وتسقط الأقنعة في مسرح الحياة الذي نعتليه كل يوم ليمارس كل واحد دوره  الأناني الذي يشبهه ويلائمه  فالصمت لم يعد يغرينا لأنهم أمعنوا في إذايتنا.

لهذا  فكل قصة تستحق التوثيق، وكل حلم يجمعنا يستحق التحقيق؛ وإلا فما الفائدة من يراع لا ينطق ويذكرنا بمن خرموا ذاكرتنا  وأترعوا خوابي الوجع.

*أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات بكلية أصول الدين جامعة عبد المالك السعدي تطوان