في القاموس المحامي لا مفرد له

الوطن24/ بقلم: ذ/ بوستاني الغوتي (محامي بهيئة الدار البيضاء)
مهما كان اللسان طليقا، ومهما كان التعبير بليغا، فليس بوسعهما الافضاء بما خالج صدور المحامين من غصة جراء ما تتبعوه من اقتحام مكتب محام في جنح الظلام، واخلائه من معداته وملفات موكليه وشحنها بشاحنة ربما لم تكن معدة الا لنقل القمامة، وفي زمن استثنائي تم فيه إقرار حالة الطوارئ الصحية لمحاصرة وباء “كوفيد 19” المعروف بفيروس “كورونا”، وأُمر فيه المواطنون بملازمة بيوتهم كإجراء احترازي نهجته الكثير من الدول، وفي زمن تعطلت في جميع الآجال بمقتضى المادة 6 من مرسوم حالة الطوارئ، بما فيها اجال التبليغ والتنفيذ والافراغ لأي سبب كان، ايمانا من الجميع أن الضياع كل الضياع هو مبارحة مكان الإستقرار إلى مكان آخر.
في هذا الزمن بالذات تفاجئ المحامون والراي العام باقتحام مكتب محام واخلاء ملفات موكليه ونقلها إلى وجهة مجهولة، وان كان يمكن ان نجهل الوجهة ونعذر بذلك فان العذر غير المقبول هو الجهل بالقانون، او تجاهله، ولاسيما المادة 59 من قانون مهنة المحاماة، والتي تقضي بانه لا يمكن اخلاء مكتب المحامي حتى وان كان هناك حكم نهائي وهو الشيء منتف في هذه الواقعة دون اشعار السيد نقيب المحامين قصد السهر على احترام قدسية المكتب وقدسية وسر موكلي المحامي ووثائقهم ومستنداتهم وضمان حقوقهم .فانه في سابقة خطيرة جدا ثم الاخلاء دون اتخاد أي اجراء من هذا القبيل، أي في غياب حكم قضائي ودون اشعار السيد النقيب أو صاحب المكتب.
ولأن هذا الفعل يشكل مساسا خطيرا بالقانون، فالمشرع لا يسمح بدخول مكتب المحامي دون إذن صاحبه حرمة لأسرار موكليه، ولأن السؤال الذي ظل يتكرر كيف أمكن لهؤلاء ان يأمروا إداريا من أطاوعوهم ليس بالدخول إلى المكتب بغير اذن صاحبه فحسب، بل اقتحامه في غيبته ودون علمه وحمل ملفات موكليه وتكديسها في علب كارتونية وحملها في شاحنة ليلا إلى … إلى أين؟ الله اعلم بوجهة وثائق وأسرار موكلي المحامي.
ولأن الاقتحام والاخلاء بهذه الطريقة جاء خارقا للقانون، لم يستطع المحامون كعادتهم ان يسكتوا عنه، ولأن رسالة المحاماة كل لا يتجزأ، وان أي مساس بمحام وبمكتب محام هو مساس بالمحاماة ككل، وخدش لمصداقيتها وحريتها ونبل رسالتها، وقفوا وقفة لإيقاف الزمن، للقول بان اسار الموكلين ومستنداتهم امانة في عنق المحامي وإن هذا الاخير لا يطمئن على هذه الأمانة الا في مكتبه أو حين يستودعها بين ايدي القضاء، وان هذين المأمنين يجب أن يظلا على الدوام المحراب الذي لا تنتهك حرمته.
وكذلك لكون مهنة المحاماة لها امتداد كوني وعالمي، وليس فقط من زميل الى زميل، وهو ما دفع الدول إلى إقرار مبادئ أساسية بشأن دور المحامين، والتي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد بهافانا سنة 1990 والتي حث جميع الدول على إقرار تشريعاتها مبادئ وضمانات لا تقل قوة عن التي تم إقرارها بالمؤتمر، فما يمس محاميا في اقصى الأرض أو يتعرض لتضييق على ممارسته مهام الدفاع عن الحق والقانون، يتداعى له سائر جسد المحاماة بالعالم ليس فقط محامي باقي الهيئات الوطنية التي ينتمي إليها، فلا يمكن النظر إلى المحامي بمعزل عن هذا الإرتباط الوثيق بين المحامين، وكأنهم يشكلون سلسلة بشرية يدا بيد تتجاوز الأوطان والحدود والمحيطات والانهار، بل انها تنطلق في الإرتباط ليس بين الأمكنة المتقاربة والمتباعدة فحسب بل تتجاوز هذا الإرتباط حتى في الزمن، فتعتبر مهنة المحاماة من أعرق وأشرف وأنبل المهن على مر العصور، فلا يدعوا للاستغراب ان تجد المحامي الشاب حاملا لنضالات المحامين ومتشبعا بأعراف وتقاليد عمرها اكبر من عمره وأكبر من جيله لكن قلبه يتسع لها.
غير أنه لا يجب أن ينظر إلى أن الحصانة المقررة قانونا للمحامي هي مقررة لصالحه، بل إنها مقررة لصالح موكليه ولصالح المجتمع والعدالة، الشيء الذي فرض أن يكون المحامي محصنا وحرا حتى يستطيع الدفاع عن الحق والقانون والذود عن المظلومين وقلبه مطمئن ودون ان يشغل فؤاده أو عقله بان أي خطر يمكن ان يهدده، وبالتالي فإن هذه الحصانة في النهاية تنصرف إلى الموكلين، وأيضا إلى المواطنين حينما يدافع عنهم دون يكونوا موكليه وللعدالة بصفة عامة، ولعل من أهم نضالات المحامي قريبة العهد من زمن كورونا وفي ضل زمن كورنا لفائدة المواطنين بصفة عامة، رفضه لإقرار أي قانون يمس مصلحة المواطنين كوقوفه ضد المادة 9 من قانون المالية والتي تقضي بان تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الدولة لا يمكن تنفيذها إلا عن طريق المطالبة بالأداء أمام مصالح الأمر بالصرف وبالتالي فإنها لا تسمح بإجراء حجوزات على أموال الدولة، معتبرا أن الأمر لا يخدم مصلحة الحائزين لأحكام نهائية أو الذين سيستصدرونها في مواجهة الدولة، وأن القول بغير ذلك هو تعطيل للأحكام القضائية التي يجب أن يمتثل لها الجميع، ومناقشته والتنبيه إلى أن الآجال يجب أن تتوقف قبل سن مرسوم الطوارئ والنقاش المستفيض الذي خاضه من أجل تحديد وضبط التاريخ الذي توقفت فيه الآجال حتى لا يكون موضوع تـأويلات متناقضة تضيع بها حقوق المواطنين، وكذا تنبيه إحدى المحاميات إلى أن المطبوع الصادر عن بعض البنوك يتضمن شرطا تعسفيا من شأن وطأة الحاجة ان تدفع الزبون إلى قبوله كرها، وهو اشتراط قبول الإستفادة من تأجيل أقساط القرض منح الزبون للبنك حق التحكم في سعر الفوائد الناتجة عن هذا التأجيل وكذا جدول الاستخماد.
وأن هذا التنبيه كان موضوع مراسلة من قبل السيد نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء، إلى الجمعية المهنية لبنوك المغرب قصد حث البنوك على عدم تضمين هذا الشرط المجحف للزبون والذي قد يقبله تحت تأثير الحاجة الملحة، وكل هذه النضالات ليست إلا غيضا من فيض ولمن أراد أن يستفيض فيما قدمته مهنة المحاماة من نضالات وتضحيات فل يعد الى التاريخ الذي لا يذكر إلا الذين خلدوا مرورهم، فهذه النضالات لا يرجوا منها المحامي مصلحة لذاته بل للعدالة وللمجتمع بصفة عامة.
ولأن المحامين لم يكونوا في يوم من الأيام بعيدين عن هموم المواطنين المادية والصحية، فبمجرد إحداث الصندوق الخاص بتدبير جائحة كورونا بتعليمات من صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وتضامنا مع جميع المغاربة تبرعوا عن طريق هيئاتهم بما يناهز 8 مليون درهم، وإنجاح حملة التبرع بالدم في زمن كورونا مع اتخاد جميع الإحتياطات الإحترازية، تلبية لصيحات خصاص هذه المادة الحيوية المنقذة للأرواح، وهم لا يرجون من ذلك جزاء ولا شكورا.
إذن، فالمحامي دائما لا يبتغي لنفسه، وأنه مجبول على العطاء وعلى التضحية في سبيل العدالة والمجتمع، وحينما يطلب لنفسه انما يطلب لكي يستطيع العطاء، ويؤدي رسالته النبيلة، لكن أي تضييق عليه في أدائه لهذه الرسالة المشتركة بين كافة المحامين يجعلهم معنيين بالأمر لأن الضمير الذي يليق بالمحامي ليس هو انا بل نحن.