قــــراءة مخــتـــلــفــة لـ (روايـــة البـــعيــدون)

الوطن24/ أحمد الطــود 

الجزء الخامس من الفصل الثالث :

إسْـــتِـــر

أول ظهور لإستر في (البعيدون) كان في صورة(*) جمعتها بثلاثة من أعضاء فرقة ” البيتلــز” الإنجليزية:
– [إنها إستر صديقة.. وعمر الصورة قرابة خمس سنوات (ص 20)] (**)
بذلك قدم إدريس الصورة لصديقه الراوي يوم استضافه في شقته اللندنية سنة 1999.
ستظهر إستر ثانية لا بشخصها أو في صورة أخرى، ولا حتى باسمها، ولكن بديانتها؛ فحين أُعجِب الراوي بإحدى اللوحات في صالون شقة إدريس، تدخل هذا معلقا:
– [… لوحة مشهورة تدعى (ذات العيون الزرق)، رسمها أماديو موديكليان يهودي من أصل إيطالي … إنها هدية من صديقة يهودية مختصة في النقد الفني المعاصر (ص 23) ]
وإذا كان تقدُّمُنا في القراءة جعلنا ندرك أن صاحب (البعيدون) لم يُعرِّف إستر والرسام بيهوديتهما صدفةً أو اعتباطا، بل كان ذلك منه عن نية مبيتة وتصميم وقصد، فإننا رغم تقدمنا في القراءة لم نجد مبررا واحدا لغياب إستر التام خلال مدة الزيارة التي فاجأ بها الراوي صديقه إدريس، وإقامته معه ضيفا في شقته اللندنية، إذ لم يظهر له منها سوى [ألبسة داخلية معلقة على مشجب بجانب المكتبة] جعلته يتساءل في نفسه: [لمن تكون هذه الألبسة؟ (ص24)]. فأين كانت إستر مختفية ؟ ولماذا لم يقدمها إدريس لضيفه (الراوي) ولو في لقاء تعارف عابر؟ ولماذا اقتصر حديثهما على الإسبانية بيلار دون أن أي ذكر لإستر؟، علما بأن ارتباط إستر بإدريس خلال زيارة الراوي له في لندن تلك السنة (1999) كان قد بلغ أربعا وعشرين سنة هي المدة ذاتها التي أنفقها إدريس مشتغلا في مجلة “فواصل”، كما أن إستر كانت المرأة الوحيدة في حياة إدريس منذ ارتباطهما سنة 1975:
علاقة إستر بإدريس فاجأتنا بكشف أمور عديدة وجديدة لفقها صاحب (البعيدون) لإضفاء هالة ما على بطله. فلنتابع تلك العلاقة من بدايتها:
كان لقاؤهما الأول بعد أسبوعين من اشتغال إدريس بمجلة ” فواصل”، يوم دعاه خالها المدير العام للمجلة المستر “ج كورت” إلى بيته ليناقش معه (مشروعه) (*).
من النظرة الأولى أثناء لقائهما الأول ذاك، لم يتحكم إدريس في اندهاشه لمرآها، فسواد عينيها وشعرها جعله يجزم أنها عربية لولا مبادرة ج كورت بتقديمها إليه:
– ” إنها إستر ابنة أختي، طالبة في مدرسة الفنون المعاصرة ” .
فاجأه اسمها فهمس لنفسه متسائلا: [إستر .. معناه يهودية (ص144) ] .
وبذلك التساؤل كشف لنا عن أنه لم يكن يعرف من الاسم الشخصي لخالها / مديره سوى أنه يبتدئ بالحرف (ج) الذي يسبق في التوقيع لقبه العائلي (كورت):
وإنه لأمر مثير للاستغراب الشديد، إذ كيف خلا الحيّز المخصص في كل أعداد المجلة لهيأة تحريرها، وكيف خلا عقد اشتغاله فيها من الاسم الكامل لمديرها العام ؟
أما الأمر المثير للاستغراب المضحك فهو البائقة العظمى التي أوقع بها صاحب (البعيدون) بطله إدريس على قفاه متخبطا في حيرة من تحديد الاسم الشخصي للمستر (كورت) المرموز له بالحرف (ج): [ … لا أبدا لم أسمع أحدا يقول له أو عنه جاكوب.. لماذا لا يكون اسمه جورج أو جون ؟ (ص144) ] .
من المؤكد أن ذلك الحرف لم يكن مرسوما بخط عربي بل بخط لاتيني، فكيف بإدريس – المثقف المتمكن الحريص على الظهور بمظهر (كامل الأوصاف) – يجهل أن الاسمين (جورج) و(جون) إن كانا يبتدئان نطقا بحرف الجيم، فهذا الحرف في الخط اللاتيني يُرسَم في أحدهما على غير الصورة التي يُرسم بها في الآخر ، فالاسم (جورج) يبدأ بالحرف (G): George، أما الاسم (جون) فيبدأ بحرف آخر مختلف هو (J): John . ولا يمكن أن يغلط في كتابة الاسمين من بين عباد الله أجمعين إلا البطل إدريس المسيَّر بمشيئة صاحب (البعيدون). كما لا يمكن أن تنطلي هذه الزلة إلا على قراء الغفلة وهم “مفتحة عيونهم نيام”. لطف الله بهم .
ستنتهي حيرة إدريس حين نادت إستر خالها باسمه الشخصي (جاكوب)، فإذا به يحاول إيهامنا بأنه فوجئ: [اتضح الأمر، إنه يهودي]، وإذا بمفاجأته هذه تضعنا أمام مفاجأة أخرى: [ لم أقو على تملك ارتباكي، تشتت أفكاري، منيت نفسي بفسحة من الوقت لترتيب غرفة ذهني، أسبوعان كاملان وأنا أعمل لمصلحة الرجل دون أن أعرف أي شيء عنه … (ص144) ].
نحن الآن أمام اعتراف خطير جدا يثبت أنه – وهو المثقف المتمكن المواكب لمستجدات الفكر والفن والحياة كما وصفه الراوي – قد انقاد انقياد الأعمى للاشتغال في مجلة لا يجهل اسم مديرها فحسب، بل ويجهل كل الجهل خط تحريرها وتوجهها الإيديولوجي وأهدافها ، دون أن ننسى أن اشتغاله فيها كان بتزكية من (الأب توماس) تاركين لصاحب (البعيدون) أن يوضح لقرائه دلالة وساطة ذلك القس الكاتوليكي لدى اليهودي المدير العام لمجلة “فواصل”، كما أن هذا الاعتراف يؤكد أن ( أثاث غرفة ذهنه ) ليس سوى الجهل والسذاجة والخواء الثقافي والاستلاب المزمن، وإلا فكيف به ينتقل في منتهى السرعة مباشرة من ذلك الاعتراف الخطير إلى اعتراف آخر أكبر وأخطر في الصفحة ذاتها (144) :
[ … وإذا كان الرجل (ج كورت) يخدم مصالح إسرائيل، كل الغرب يخدم إسرائيل . جدتي أيضا كانت صديقة لراحيل، لكن راحيل كانت مجرد جارة يهودية ودودة لطيفة ، لما (كذا) لا يكون المستر كورت مثل راحيل ! (ص144) ].
القضية إذاً محسومة منذ البداية ، وهي بسيطة جدا حسب منطق إدريس ولا تتطلب وجع الدماغ: ما دام الغرب يخدم مصالح (إسرائيل) فهذا مبرر (شرعي) لـ (وجودها) واحتلالها فلسطين، ومسوِّغ كافٍ لاشتغاله هو في مجلة يديرها أحد خدام (إسرائيل) ومصادقته، وما دامت جدته كانت صديقة لجارتها اليهودية راحيل اليهودية اللطيفة فلا بد أن يكون المستر ” ج كورت ” هو الآخر ودودا لطيفا. وطبعا لم يخطر بباله هو ولا أحد من قراء الغفلة أن يتساءل: لماذا تركت راحيل وطنها المغرب وهاجرت مع معظم اليهود المغاربة للمساهمة في احتلال فلسطين وتقتيل البعض من شعبها وتهجير البعض الآخر قسرا وممارسة الاضطهاد الإرهابي اليومي على من تمسكوا بوطنهم ؟ كما لم يخطر بباله عدد المجازر والجرائم التي اقترفتها (إسرائيل) منذ احتلالها أرض فلسطين.

عندما شرع في عرض مراحل مشروعه على ج كورت، [ كان وجه إستر يفيض إعجابا بكل ما ألفظه خاصة عندما ذكرتُ المصدر اليهودي المسيحي الشرقي فقد حركتْ رأسها تأكيدا وظلت دون أن تشارك في الحديث سوى بنظرات استحسان وإعجاب … (ص145) ]. ولِمَ لا تستحسن وتعجب وهي أمام صاحب مشروع يستهدف إخبار أوروبا الغافلة بمصادر وعيها المحتجبة ومن بينها المصدر اليهودي، كما يستهدف من جهة أخرى أن يثبت لأوروبا الجاهلة أن حضارتها [ليست إبداعا عبقريا فريدا مستندا إلى المصدر اليوناني الروماني وحده…(ص145)].
ولا ندري ..
أنهنئ مجلة فواصل – التي يديرها ” ج كورت ” اليهودي الصهيوني – بهذه الصدفة التي حملت إليها ( مشروع إدريس ) لتحقق به سبقا صحفيا ثقافيا سيرفع شأنها إلى مكانة لم تكن صحف بريطانيا ولا أوروبا بأسرها تحلم بها؟
أم نهنئ أوروبا التي لم يكن ينقصها في الربع الأخير من القرن العشرين سوى (مشروع) إدريس الذي سينقذها من الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء؟؟
ولم يكن في حسبان إدريس أن ” ج كورت ” سيلاحظ عليه أن الأوروبيين لا ينفون المصدر اليهودي المسيحي في بناء الوعي الأوروبي الغربي بل يعتبرونه أسطوريا، كما يعتبرون اليهودية مقدمة للمسيحية .
ومع هذه الملاحظة الصاعقة لم يجد إدريس أمامه سوى الاختباء في جُحْره المعهود ((كـدتُ)):
[ الرجل في كل كلمة يقولها يؤكد أنه يهودي، كدتُ أصارحه بأن المفاضلة بين اليهودية والمسيحية لا تعنيني … لكنني لم أقل له ذلك، فما كنت أرغب فيه هو قبول مشروعي… ولذلك رأيت أن مسايرته تفرضها أكثر من اللباقة (ص146) ].
إذاً.. فلنهنئ إدريس الذي استطاع بما هو (أكثر من اللباقة) إقناع مديره بمشروعه .
لكن.. ما هذا الذي هو (أكثر من اللباقة) عنده ؟
لم نجد حسب طريقته في التفكير من معنى لــ (أكثر من اللباقة) عنده سوى انبطاحه الذي جعله في المقابلة الأولى قبل أسبوعين يبلع لسانه عجزا منه عن مواجهة ” ج كورت ” بالدفاع عن رأيه في نعت المستشرقين بالمرشدين الاستعماريين للغرب . ويعتذر عن ذلك الرأي بقوله: [الأفكار على أي حال ليست قارة ولا ثابتة (ص136 ) ]. ويردد في نفسه فرحا بموافقة ج كورت على اشتغاله في ” فواصل”:
[ حسنا فعلتُ بكبح جماح الحصان العربي الذي يركبني كلما لمست انتقادا يمس نزعتي أو إرثي (ص137) ].
فانبطاحه لـيركبه “ج كورت” اليهودي أهون عنده من أن يركبه الحصان العربي .
قضي الأمر بقبول ” ج كورت ” مشروع إدريس وموافقته على تفرغه لنشر أبحاثه الجديدة _ كما نعتها _ في مجلته منبها إياه إلى [ توخي الموضوعية الحقة باسترشادها واستهدافها ، فمجلته “فواصل” تسعى للتنوير الموضوعي للحفاظ على مستواها الجاد (ص146) ] . وفي نهاية المقابلة وضع ج كورت مكتبته سواء في حضوره أو غيابه رهن إشارة إدريس ، وكلف إستر بمساعدته على اختيار ما يحتاجه من مراجع .
هكذا بدأت علاقة إدريس باليهودية إستر ..
ولم تمض على لقائهما الأول ذاك إلا مدة قصيرة قدرناها بشهر ونصف حتى توصل إدريس بآخر رسالة من كريستيان الهولندية – مؤرخة في 21 ماي ( 1975) (ص155) _ في اليوم الذي كان فيه على موعد مع إستر لترافقه إلى شقة زميله في المجلة ” ستيف ” لحضور حفل عشاء (ص156) .
أخبره الخادم أن الآنسة إستر في انتظاره، وأنه لا يعرف متى سيعود ج كورت من سفره، ثم قاده إلى الطابق العلوي حيث توجد مكتبة سيده. خطر له أن يلقي نظرة على مكتبة ج كورت العملاقة ليكتشف شخصيته من خلال كتبه. استرعت انتباهه صور عدة مفكرين، وأبهرته كتب أخرى لمؤلفين يهود جعلته من عناوينها _ ودون أن يقرأها طبعا _ يعتقد أنها تتحدث عن فقه يهودي أو تنتقد فكرا إسلاميا أو عربيا، كما استفزت بصره عناوين أخرى عن العرب: [وفجأة دبت في بدني رعشة ممزوجة بالهزيمة والخوف وأنا أكتشف شيئا يمس كياني. (ص159) ].
هذا ما ردده في نفسه مضيفا :
[لست بعوضة لا إرادة لها، فعلي أن أتمعن ما يحدث وأتخذ موقفا على الأقل من صاحب هذا البيت، فلم يعد هناك قناع يخفي حقيقة الرجل، فهو على علاقة بإسرائيل، بل هو موجود في هذه اللحظة هناك. (ص159)].
مرة أخرى يفاجئنا بتراجعه في سرعة البرق عن تسليمه السابق ب (إسرائيل) [ما دام الغرب كله يخدمها] فقرر أن يبتعد عن هذا البيت حتى لا يقتنع بمضامين تلك الكتب ويصير [ بوقا عربيا تنفذ منه سموم الفكر الصهيوني (ص159)]. لكنه في سرعة البرق أيضا وبعد سطر واحد، سيفاجئنا في بداية الصفحة الموالية بتراجعه عن قراره: [… لا لست جبانا، أنا الذي لم تخترق مساماتي أكاذيب الغرب بأكمله أخشى من بضع كتب صنعها خصمي زورا وبهتانا، لا أبدا لن أقع في الفخ، سأقرأها بروية، من حقي أن أعرف سلاح خصمي لأقارعه بفضح نواياه (ص160) ].
بذلك وعد نفسه.. ويا له من وعد.
فهل كان لديه من الوعي والإرادة والنخوة والشجاعة ما يكفي لتحقيقه؟
بمعنى.. هل كانت كتاباته في ” فواصل ” تسترشد الموضوعية وتستهدفها حقا؟
وهل حقا تمكن من مقارعة خصمه وفضح نواياه على صفحات مجلة يديرها يهودي صهيوني؟
سنرى:
ما إن حضرت إستر حتى شرع في خياله يجردها من فستانها الأسود وينقلها إلى فراشه، لا حبا ولا شهوة – كما ادعى – وإنما ردا على عناوين الكتب التي أخبرنا قبل قليل بقراره أن يقرأها لمعرفة سلاح خصمه ومقارعته.
إذاً .. ستكون إستر هي من يدفع الثمن.. ثمن دفاعه عن كيانه:
[ أحسست بقوة تدفعني أن أطلب الثمن من إستر (ص160)].
ودون أن يقرع طبول الحرب، بدأ هجومه فخاطبها بهذه النعومة:
[ أنت أشهى ما في هذا البيت، وأشهى ما تضمه هذه الكتب].
وقبل أن ترد لاحظ أنها اتسعت حدقتا عينيها وكأنها لا تصدق ما يقوله، فما كان منه – وهو في حالة استنفار قصوى، وعساكره في تمام أهبتها – إلا أن دخل رأسا في الموضوع بلا لف أو دوران:
[ أنا أعني ما يخفيه فستانك، أعني نهديك المتصلبين… إما أن تكوني لي الآن أو لا تكوني إلى الأبد ].
كان ذلك الغزل الناعم هو السلاح الذي أعده للذود عن (شرفه) مقررا أن ينسحب إن هي صدته. أما إذا قبلته فسيكون له معها شأن آخر.
ويبدو أنه دخل معركته بروح ضعيفة ومعنويات منهارة، وبأسلحة فاسدة سرعان ما ارتدت طلقاتها إلى الخلف لتصيبه هو، فإذا به يسقط صريع شهوته التي كانت وما تزال مالكة قياده:
[… كنت أشيد قصوري وأهدمها ومفعول التخدير يتسرب إلى بدني، هي بين يدي وأنا فوق صراط عسير تحف به النيران وعلي اجتيازه لتطأ قدمي أرض الجنة (ص161) ].
هكذا ذوبته حرارتها حين طوق خصرها النحيل بذراعيه ، فكشفت زيف ادعاءاته وخساسة معدنه وأظهرته على حقيقته:
[ لم أترك حيزا في جسدها وفي كل ما أباحه فستانها دون أن ألثمه (ص161) ] .
ورغم أنه صار مكشوفا فما زال يوهم نفسه أنه يعبث بخلقتها الجميلة لا بدافع شهوة الجنس، ولكن بدافع استرداد حق ضاع منه. فما هو هذا الحق الذي ضاع من هذا النموذج البشري ؟ وهل تمكن من استرداده ؟؟ وكيف ؟؟؟:
لامست شعره موشوشة في أذنه أنها تحبه [ منذ عدة أشهر (ص162) ] _ مع أنه لم يكن قد مر من الوقت منذ لقاء تعارفهما الأول حتى تلك اللحظة سوى شهر ونصف_، فأدرك أنها استسلمت له، أي أنه انتصر عليها .. أي أنه انتقم لكيانه وشرفه واسترد حقه الضائع، فشعر وهو يسمع اعترافها بحبها كأنها تجهر بتخليها عن دينها لتعتنق دينه (ص162). وبذلك يفاجئنا بأن له دينا كما فاجأنا من قبل بأن له كيانا وشرفا وحقا ضائعا .
لكن المفاجأة الكبرى هي أن هذا المنتصر المنتقم حين طلبت إستر منه رأيه في هيأتها بعد أن تزينت استعدادا للذهاب إلى الحفل، كان قد تحول نتيجة ذوبانه بحرارتها تحولا جذريا: [ صفرت بفمي – هل صفر من قبل بغير فمه؟ _ تعبيرا عن اندهاشي وتمنيت لو لم تكن يهودية… ها هي الفوارق بدأت تطرق رأسي، بينما وهي بين ذراعي لم يكن بيننا سوى المساواة والإخاء والتضامن (ص163) ].
ألم يخبرنا قبل قليل أنها هي من عليها أن تدفع الثمن؟.. ها هو الآن يتنازل طوعا فيعفيها من أدائه ليقوم هو بتسديده من كيانه وشرفه وانتسابه على افتراض أن مَن مثله يمتلك كيانا وشرفا وانتسابا.
والنتيجة:
[عليّ أن أتقبل العلاقة في إطارها الحقيقي العادي: علاقة رجل بامرأة بدون أي اعتبار للعنصر العرقي أو الديني أو الإيديولوجي، ثم كيف أعيب على الآخرين هذه المواقف وأتشبث بها ؟ (ص164)].
وفي الطريق الذي قطعه التاكسي إلى بيت ” ستيف ” صاحب الحفل، أحس بها فرِحة، أما هو فـ [محتمل جدا أن تكون نبرات صوتي أنا الآخر كانت تفضح فرحي (ص165) ]. ورغم ذلك ما زال يتوهم أنه بـعَبثه بخلقتها الجميلة قد نال منها الثمن (ص165).. ورغم ذلك أيضا كما يؤكد لنا : [ امتدت يدي تداعب شعرها وجيدها تطمئن على حبي المحبوس في صدرها منذ (أشهر طويلة) (ص166) ] .. شبهها بنيفرتيتي، فأبدت تعاطفها معها بسبب اضطهاد الكهنة لها ، واستنكرت إبادة مقبرتها بـ [ أنه موقف عنصري ما زال بعض الأغنياء يتوارثونه إلى يومنا هذا ( ص167) ] . فراقه أن يكون لها هذا الموقف من العنصرية ، وهذه مفاجأة أخرى. ورأى أن يضيف شيئا ليبدو في مستوى معرفتها بتاريخ هذه الملكة ، لكنه بتخطيط محكم من صاحب (البعيدون) لم يذكر شيئا عن احتلال اليهود أرض فلسطين وممارستهم أبشع أنواع العنصرية والاضطهاد اليومي والمذابح والتهجير القسري على الشعب الفلسطيني، فاسم فلسطين لا يخطر بباله ولا يجري على لسانه ولا يمت بأية صلة إلى كيانه الممسوخ وشرفه الملطخ ووعيه المستلب.
حين وصلا إلى شقة “ستيف” قدمهما هذا إلى أربعة من أصدقائه..
وإذا كنا نسافر بالذاكرة إلى الماضي القريب والبعيد لاسترجاع ذكريات سابقة بجزئياتها وتفاصيلها، فإن أحد أولئك الأربعة وهو “كــيــن” المصور التابع لوكالة “رويترز” قد جعله اضطراب الزمن في ذهن صاحب (البعيدون) يسرد في حفلة “ستيف” أحداثا لا من الماضي، بل من المستقبل البعيد:
[من ثرثرته علمت أنه وشيك العودة (كذا) من حرب مالوين الدائرة رحاها بين بريطانيا والأرجنتين في نهاية الأطلسي (ص169) ] .
والمضحك هنا ليس في عبارة (وشيك العودة من حرب مالوين) التي تفيد أن ذلك المصور ” كــيــن” ما يزال في الأرجنتين وأنه سيعود منها قريبا ، بل المضحك هو أن أحدا من الناس في كل أقطار المعمور يوم الحفل في بيت “ستيف” أواخر ماي سنة 1975 لم يكن يتصور مجرد تصور أن حربا ستشتعل بين بريطانيا والأرجنتين سنة 1982 أي بعد سبع سنوات من ذلك الحفل. وطبعا لم يكن المصور “كين” يتحدث إلا بما أراد له صاحب (البعيدون) أن ينطق به.
أعجِبتْ “هاني” مرافقة المصور “كين” بعيني إستر:
[ عيونكن أيتها العربيات أجمل عيون العالم (ص169) ].
معتقدة أنها عربية، فضحكت إستر في حياء وشكرتها.. لكن إدريس تساءل في نفسه:
[ لو لم أكن بصحبتها هل كانت تقبل أن يقال عنها عربية ؟ ].
وتذكر أن تاجرا اعتبره يهوديا [… فاحتقنت الدماء في عروقي ولم أسترجع أنفاسي إلا بعد أن أبلغته بأنني لست يهوديا]. كان ذلك في ما مضى، أما الآن وهو مع إستر فلا يجد بأسا في أن يكون يهوديا:
[ لماذا رفضتُ أن يشبهني باليهودي ؟ مع أنه قد يكون يهوديا أو على الأقل لم أكن بالنسبة إليه من أدنى البشر؟ (ص170)].
فمن هم تحديدا أدنى البشر حسب هذا التصنيف ؟
ولنا أن نسأل أيضا : إذا لم يكن اليهود أدني البشر فهم بمنطق إدريس أرقى البشر. فهل هذا اعتراف وتسليم من إدريس – ومن محرك لسانه صاحب (البعيدون) بأن اليهود (شعب الله المختار)؟
إدريس الذي كان قبل سطور قليلة يتمنى لو لم تكن إستر يهودية، ها هو فمُه الآن يقيء رغوة تحوُّلِه السريع الآني المطبوخ في طنجرة ضغوط غريزته على حرارة جسد إستر وحبها المحبوس في صدرها منذ رأته أول مرة.. وها هو الآن بعد أن ذاق عُسيلتها قد أبان عن أنه لا كيان له ولا شرف ولا انتماء.. وها هو أيضا يؤكد أن شهوة استرداد (حق ضاع) منه – كما ادعى _ قد انهارت أمام شهوة الجنس المتأصلة في نفسه والمتحكمة في سلوكه.
إدريس الذي اعتبر بوح إستر بحبها له تخليا منها عن دينها لاعتناق دينه ، ها هو يثبت أنه هو من اعتنق دينها بسبب فراغه العقلي وخوائه الروحي وهيجان شهواته الحيوانية.. أي باستلابه البشع .
لكن المشكلة لم تنته بعد .. بل لم تبدأ بعد:
سنفاجأ بأحد عمال مطبعة “فواصل” يهاجم إدريس محتجا على ما ينشره فيها من كتابات تحاول تلميع صورة العربي، ومنكرا أن يكون للعرب وللشرق عموما حضارة حتى ينقلها عنهم الغرب (ص171).
ولا نعرف كيف استطاع إدريس أن يلمع صورة العرب في شهرين هما مدة اشتغاله مترجما في مجلة ” فواصل”؟ ..
كما لا نعرف من أين لمجلة يديرها يهودي صهيوني له علاقة بـ (إسرائيل) هذا القدر من التسامح الذي أتاح به لكاتب مبتدئ أن يلمع صورة العرب على صفحاتها ؟
الظاهر أن إدريس بهذه الشطحات البهلوانية ودون وعي منه هو الذي يعمل على تلميع صورة اليهود الصهاينة كما شاء له صاحب البعيدون .
تدخل “ستيف” صاحب الحفل مقصيا ذلك العامل ، ونطقت أصوات بعض الحاضرين مستنكرة إفراطه في الشرب وقلة أدبه … ، وعلقت إستر قائلة :
[ إنه يهودي متزمت عرقي عنصري وحقود ، أنا أيضا يهودية لكنني أشجب كل أنواع التعصب العرقي والمذهبي والديني (ص172) ] .
ذلك ما نطقت به إستر اليهودية ابنة أخت المستر ” ج كورت ” الموجود في هذا اليوم _ يوم الحفل بشقة ” ستيف ” – في (إسرائيل) كما أخبرنا إدريس .
وطبعا ما كان لسانها ليتحرك قائلا : أنا أدين الاحتلال اليهودي الصهيوني لأرض فلسطين ، وأدين التعصب العنصري العرقي الديني الذي مارسه اليهود الصهاينة ويمارسونه على سكان فلسطين الأصيلين ؛ فذلك ما لا يمكن أن يخطر ببالها .

أما إدريس .. فقد وقف أمام حادث التهجم عليه منعقد اللسان عاجزا عن الكلام .
و .. [ ظل هذا التساؤل يتردد بداخلي دون أن أجد له جوابا :
لم أعثر على رأي أشارك به أنا المعني بالأمر ، أنا الظاهرة التي عليهم بحثها . اليهودي لم يرضه أن أكون عشيقا لإستر … ولا أي عربي سيرضيه ذلك . لكن أنا . هل أملك حرية التصرف مستقلا عن كياني ؟ (ص172) ].
هذه هي القضية .. قضية إدريس الطارئة التي فاجأنا بها في السطور الأخيرة من مذكراته .
ويبقى السؤال : ما معنى رغبة إدريس في امتلاك حرية التصرف مستقلا عن كيانه ؟

لنا عودة إلى إدريس و(مذكراتـ)هِ. وإلى الفصل الأخير المتبقي من (البعيدون) الذي اعتبرناه رأسا مقطوعا ألصقه الكاتب تعسفا بغير جسده.

—————————————–
هوامــــش:

(*) وضّحنا في الفصل الذي خصصناه للزمن استحالة التقاط تلك الصورة في السنة التي حددها إدريس، واعتبرناها ” فوطوشوب ” لفقها سرديا صاحب (البعيدون) بسبب اضطراب الزمن في تفكيره وعجزه المتكرر عن التحكم فيه ؛ ذلك أن فرقة ” البتلز ” كانت قد توقفت أنشطتها وتفرق أعضاؤها منذ 1970، ولم يكن ممكنا أن يجتمعوا قبل زيارة الراوي لإدريس بخمس سنوات أي سنة. 1994. راجع الفصل الأول من هذه القراءة المعنون بـ ” الزمن في (البعيدون)”.

(**) العبارات الواردة بين معقوفين المتبوعة برقم الصفحة، هي استشهادات مأخوذة من نص رواية البعيدون. الطبعة 2 غشت 2001 – دار سليكي إخوان. طنجة

(*) قد نبهنا سابقا إلى أن تلك الدعوة لم يكن لها أي مبرر منطقي أو فني، إذ كيف يعقل أن يستدعي مدير (أشهر مجلة سكسونية في لندن كما وصفها إدريس) كاتبا مبتدئا ليناقش معه (مشروعا) كان أحرى به أن يناقشه معه في مكتبه بالمجلة ؟. إن تلك الدعوة إنما افتعلها صاحب (البعيدون) ليجمع بين إدريس وإستر في لقاء يفتقر إلى العفوية والتلقائية.