قصة قصيرة: خيطي بيطي .. هنا “التركية للطيران”..

الوطن 24/ بقلم: سليمان الهواري

سليمان الهواري

السفر في الطائرة إلى تركيا لا يختلف كثيرا عن التسكع في أسواق الخوردة في “جوطية باب الجديد ” في مدينة مكناس .. مع أن للجوطية نكهتها داخل أسوار المدينة العتيقة .. أعضاؤنا الإستراتيجية تحتاج فعلا إلى هدوء في المقاعد المخصصة للجلوس بعد شد أحزمة الوقاية لكن قبح الله ( الفز والقفز ) ولعنة الله على بلية الحمامات حيث يختلط ضجيج معمعات المحركات والسماوات مع فحيح بطون الصينيين والصينيات .. الكل يتحرك جيئة و ذهابا والأحاديث في “الكولوارات ” لا ينقصها فعلا إلا “المهاجرون” الأفارقة الذين يشتغلون بائعين جوالة هنا كي يضعوا مجوهراتهم ” الفالصو ” على أرضية الطائرة لتكتمل سوريالية المشهد ..
أغلب المسافرين من شرق آسيا الصفراء .. ربما كانوا صينيين أو كوريين أو تايوانيين .. الله أعلم بأي “قرينة ” سوداء رمتهم إلى المغرب ومنه إلى بلاد الخليفة أوردوغان ..
عجوز أخرى تخرج من الحمّام المسكين الذي عانى فعلا من توالي القصف الأصفر وتوالي الصواعق اليابانية عليه هذا المساء .. تترنح المسكينة وهي بالكاد تستطيع المشي راجعة من معركة الوضع الفجائي ” السريسيري” إلى مقعدها وسط صراخ طفل رضيع شيّب أمه ذات القسمات العربية المشرقية .. ظل لاصقا على صدرها وهي تطوف به بين الحمام والمسافرين .. ” كتراري بيه ” طيلة الرحلة قبل أن يتدخل ابوه بين الفينة والأخرى ليريحها منه قليلا لكن الرضيع “السافل ” سرعان ما ينط على رقبة أمه وسط هذه “الدلالة ” المسماة ” التركية للطيران ” ..
خيطي .. بيطي ..
إنه الوصف الدقيق لما يقع هنا في هذه التركية المشردة ..
الصينية العجوز المسكينة لم تتأخر عن معانقة حظها الجميل .. لقد وجدَتة بقرب مقعدي ، فسبحان من جعل العجوز تفقد توازنها بين المقاعد وتقع على وجهها بينما أنا كنت غارقا أتأمل مشاهد الطائرة العجائبية . لقد سقطت المسكينة على مناخيرها المفطحة ليصبح وجهها الصغير بلا تفاصيل مادام كلشي اختلط بكلشي .. كان الدم منقوعا على جبهتها ولا يهم كيف سقطت ولماذا لأن الإخوة ” الشينوة ” يملؤون المكان كله وقد هرعوا إليها وكأنهم قاعدون في مقهى على قارعة بيوت العجزة وقد غطت لغتهم ” الهاوسية ” على كل ” الجوطية ” التركية ..
ولم تقطع صفاء المشهد الشينوي إلا صيحة ” الله أكبر ” التي انطلقت قربها ..
مع الأسف عليكم أن تصدقوا أني لم أعرف من أين أتتني هذه ” الله أكبر” وفي هذه اللحظة بالذات كان يمكن أن تكون ردة فعل طبيعي لو كنت بالبيت وفجأة رأيت جهاز التلفاز سوني 21 القديم يسبق صحون الطوس التي تملأ” الفيترينة ” المقدسة ” ليتفرشخ” كل شيء أمامي .. هنا تبدو ” الله أكبر ” منطقية ..
عادي أن أقول ” الله أكبر ” لو تعثرت على الرصيف وكاد رأسي يرتطم ب ” سطوب ” الشاهدة على تيهاني الدائم وأنا أحسني دائما نصف مواطن فقط هنا ولي فقط نصف انتماء وربع اعتراف بي كمواطن ونصف حقوق بل أقل .. وعليه من حقي أن أرتطم بأي شيء وفي أي وقت فكل شيء هنا مقبول وعادي وجدا ..
لكن أن أصرخ ” الله أكبر” داخل طائرة وهي تعبر مياه الشرق قريبا من دولة الخلافة العثمانية فهذه تهمة وورطة مخطط لها مع سبق الإصرار والغباء ..
قد يكون هو القدر لكن لماذا لم أقل ( واعتقو الروح .. وا مول الطيارة وقف الشينوية كتموت .. واكواك أعباد الله .. ) ..
الله أكبر .. وساد الصمت .. بحلقت حولي وأنا أعرف أنه يمكن أن أكون الآن فوق ” قاهرة السيسي ” ويداه لم تجفا بعد من دماء تسعة شباب ذبحهم من الوريد إلى الوريد .. لقد أعدمهم في مصر العدل وعمر ابن عبد العزيز ..
تجولت ببصري في العالم حولي لعل ” الله أكبر ” جعلتهم ينبطحون أرضا معتقدين أنها عملية إرهابية في قلب الطائرة ..
لكن الحمد لله الذي جعل الشينوة يغرقون في الاهتمام والعناية ( بالجابّونية ) العجوز التي حملوها مع بعض من طاقم الطائرة إلى المؤخرة قصد معالجتها ..
كان دماغي حينها يتجول في ( أبو زعبل ) المصري والتهمة جاهزة ..
حكمت المحكمة .. إعدام !!
لم أستغرق وقتا طويلا كي أقرر أن .. من هنا وصاعدا .. سأعوّد شفاهي كل الكلام السافل حتى أتطبع معه ويصير هو يسبقني للحديث وأنجو وبشكل نهائي من أي تهمة بالصلاح أو الإصلاح واقتراف الكلام المؤدب .. وتلك ( الله أكبر ) التي صارت فظيعة هنا والآن سأتخلص منها للأبد ..
وعلى كل حال فأنا جبان فعلا وها أنذا أعترف .. أنا لست مستعدا لتحمل نزق مشاغباتها على شفاهي البريئة .. ف ( أش دانا نمشطو للقرع غوفالتو ) .. ونجد أنفسنا في ( أبو زعبل العربي ) ..
لا زلت لا أعرف ماذا فعل الشينوة بعجوزهم لأني عدت من جديد إلى جوطية باب جديد للأخت ” التركية للطيران ” الطاهرة والعفيفة ..
وا مصيبتاه !! .. لازال كل العالم يتسابق من يدخل الأول للحمام ..
قد يكون السر وراء كل هذا في الأكل التركي الذي التهمه الجميع في صمت رهيب قبل أن يهرعوا في مواكبهم السيارة نحو حمامات الطائرة ..
الحمد لله أن الطائرة ستحط في اسطانبول بعد أقل من ربع ساعة .. ومنها نشد الرحال إلى أرض الله بعيدا عن خلافة أوردوغان ..
وآخر دعوانا أن الله يخرج سربيسنا وسربيسكم على خير .. والحمد لله رب العالمين ..