كورونا… والإمام الذهبي
الوطن 24/ د. إدريس الكنبوري
استمرارا لما بدأناه نرى اليوم قضية مهمة جدا، وهي علاقة الفقهاء بالطب. ذلك أن البعض يستغل مناخ الجهل المنتشر حول تاريخ الإسلام والمسلمين، وغياب التوعية، ودينامية وسائل التواصل الاجتماعي، لينشر السموم وسط الشباب والتلاميذ والطلبة وعموم الناس، بأن المسلمين لم يعرفوا الطب، وأن الفقهاء كانوا متخلفين، وأنهم كانوا يفسرون كل شيء بالخرافات. وأمثال هؤلاء معهم حق، فهو يعتقدون أن الفقهاء السابقين مثلهم مثل بعض فقهاء اليوم ممن يحفظ القرآن ويركض وراء الولائم ويملأ وقته بالنميمة وكتابة الحروز، فإن كانوا يقصدون أمثال هؤلاء فنحن متفقون معهم ونقول كما قالوا.
ولكن الفقهاء المسلمين في الماضي أمر مختلف تماما، كانوا بشرا من طينة خاصة. هناك استثناءات صحيح، لكن لماذا نقفز على الكثرة التي أعدت الخبز بشكل جيد ونركز على جماعة قليلة أحرقت الخبز؟.
رجعت إلى الإمام شمس الدين الذهبي رحمه الله (673 هـ – 748 هـ / 1274م – 1348م) فوجدت عنده الأعاجيب، فقد قال:”وأحوال بدن الإنسان ثلاثة: الصحة والمرض، وحالة لا هي صحة ولا مرض، كالناقه والشيخ”، وهذا أعجب تعريف لأحوال الإنسان البدنية، لأن العلماء المسلمين كانوا يدققون في المسألة حتى أنهم يخرجون لك منها ما لا يمكن تخيله. فانظر كيف جعل وضعا ثالثا بين وضعين هما الصحة والمرض، لأن هناك حالة لا يكون فيها الإنسان مريضا ولا سليما، مثل المريض الذي يمر بفترة النقاهة، فهو بين الصحة والمرض لا هو مريض ولا هو صحيح، ثم الشيخ، فهو الشخص الذي بلغ من السن عتيا بما جره ذلك عليه من التعب الشبيه بالمرض، والعجز وسرعة التأثر بالجو والأكل وكل شيء، وهذا ليس مريضا ولا صحيحا، ولكنها مرحلة ثالثة بين الإثنين، هي الشيخوخة. فهذا تمييز في غاية الإدهاش.
ويقول الذهبي، الفقيه التقليدي: “قال أبقراط وغيره: الطب إلهام من الله، وأبقراط رئيس هذه الصناعة، ومذهبه فيها هو المذهب الصحيح”.
فهل يعقل أن يصدر كلام مثل هذا عن الذهبي، المحدث والمؤرخ الذي أفنى عمره في خدمة الحديث النبوي؟ هل يعقل أن يقول عن أبقراط ـ الكافر ـ بأنه رئيس هذه الصناعة؟ هل من المعقول أن يقول خادم الحديث النبوي عن كافر إن مذهبه هو “المذهب الصحيح”؟؟؟.
ولننظر الآن إلى تفسيره للحديث الشهير”إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها”. يقول الذهبي:”وفي نهيه عليه الصلاة والسلام عن الدخول عليه فائدتان: إحداهما لكي لا يستنشقوا الهواء العفن الفاسد فيمرضوا، ثانيهما: لئلا يجاوروا المرضى فتتضاعف البلية بالأمرين”.
فتأمل في هذا التفسير العلمي لرجل فقيه، وانظر إلى قوله”لكي لا يستنشقوا الهواء العفن”، أين الجن والخرافة هنا؟ هذا رجل عالم يفسر كل شيء بالعلم، هناك هواء وفساد جو وعفونة ومرض، كل شيء مادي ملموس قابل للقياس.
ثم انظر إلى كلامه: “لئلا يجاوروا المرضى فتتضاعف البلية”. أليس منع المجاورة هو الحجر الصحي؟ وانظر إلى فعل “تتضاعف”، أي أن الوباء ينتشر بطريقة أسرع تكاد تكون هندسية لا حسابية.
ثم يفسر الذهبي الشطر الثاني من الحديث فيقول:”وأما قوله: إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه”، لأن مثل هذا الداء العظيم إذا وقع بأرض أضعف الأبدان وأثر فيها، وقد ثبت أن الانتقال يضعف الأبدان أيضا فتتفاقم البلية”.
وتأمل في قوله”هذا الداء العظيم”، لأن الوباء لا يقتل الأفراد بل يهلك الجماعات.
وفي قوله: وقد ثبت أن الانتقال….”، فالرجل لا يتحدث كما اتفق، بل عن خبرة واحتكاك مع الأطباء في عصره، أي لا يتحدث إلا عن شيء ثبت بالتجربة الملموسة، فصارت معطى علميا لا يمكن الشك فيه، لأن ما ثبت لا يمكن تغيير محله.
كل هذا لرجل واحد فقط هو الذهبي، بين مئات الآلاف من العلماء والفقهاء الذين سبقوه والذين عاصروه، دون من جاؤوا بعده. والذهبي قال هذا الكلام في النصف الأول من القرن الرابع عشر، عندما كانت المواطنون في أوروبا يقفون في طوابير أمام الكنيسة لكي يستقبلهم القسيس أو الكاهن ويضع يده الملوثة على رؤوسهم، مقابل مبالغ من المال لكي يقبل المسيح منهم. كانوا يؤمون بأن المسيح كان يشفي المريض والأصم والأبكم فقط بيده المباركة التي يمسح بها رأس المريض (من هنا كلمة مسيح العربية)، ويؤمنون بأن البابا هو خليفته الذي حلت فيه بركته، وأن البابا وزعها على القساوسة، وأن مجرد تمرير الكف على الرأس يقضي على المرض. في هذا الوقت كان الذهبي يرى أن القضية ليس فيها مسيح ولا شيء من هذا، بل هواء فاسد واستنشاق وعفونة، ولو سمع بذلك لمات ضحكا.
للحديث بقية