كيف سيذكر التاريخ ترامب

الوطن 24/ بقلم : عبد الباري عطوان

إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيدخل التاريخ، فإنه لن يدخله من بوابة الفضائح الجنسية فقط، وإنما من كونِه رئيسا أمريكيا إتسم عهده بأمرين رئيسيين أولهما: المُبالغة في فرض الحِصارات والعُقوبات الإقتصادية، وثانيهما: نقض المُعاهدات وبما يُؤدي إلى تهديد أمن العالم وإستِقراره، وإعادة الحرب الباردة، وبصُورة أكثر شراسة، وإعادة إطلاق سِباق تَسلح نووي، ولهذا ليس غريبًا أن يوصف بأنه الزعيم الأمريكي الأقل شعبيةً داخل الولايات المتحدة وخارجها لدفعه العالم إلى حافة الهاوية، إن لم يكن الهاوية نفسها.

فرض الحِصارات والعُقوبات الإقتصادية على إيران وروسيا وفنزويلا وسوريا وباكستان (جزئيا)، وإعلان حرب تجارية على الصين، من الأُمور المعروفة التي لا تحتاج إلى شُروحات، ولكن الخطر الحقيقي الذي بات يُقلِق الخُبراء الإستراتيجيين، ودول القارة الأوربية هو قرار الرئيس ترامب الذي أصدره خلال الأيام الماضي وأعلن فيه الإنسحاب مِن مُعاهدة الصواريخ النووية المُتوسطة المدى التي جرى توقيعها عام 1987 بين الرئيسين الأمريكي رونالد ريغان والروسي ميخائيل غورباتشوف.

الرد الروسي جاء سريعا وبعد 24 ساعة، وعلى لسان الرئيس فلاديمير بوتين، وبعد إجتماعه مع وزير خارجيته سيرغي لافروف، ووزير دفاعه سيرغي شويغو، أي بعد يوم من القرار الأمريكي، وتمثل في إعلان الإنسِحاب الفوري من المُعاهدة المذكورة وتحميل الإدارة الأمريكية كُل ما يترتب على ذلك من نتائج بما في ذلك إطلاق رصاصة البدء في سِباق تسلح نووي غير محدود.
أكثَر من ذلك أن الرئيس بوتين أعطى الضوء الأخضر فورا للبدء بإنتاج صاروخ مُتوسط المدى أسرع من الصوت وتخصيص ميزانية أكبر للأبحاث العسكرية لإنتاج المزيد من الأسلحة الحديثة المُتطورة.

كان لافتا «غمز» الرئيس بوتين في قناة الرئيس ترامب بطريقة تنطوي على الكثير من الدهاء عندما قال: «سننتظر إلى حين أن «ينضُج» شُركاؤنا بما يكفي لإجراء حوار مُتساو وذي مغزى بشأن هذا الموضوع المهم»، مما يعني أن الرئيس الأمريكي في نظر نظيره الروسي يتسم بعدم النضج والتهور، وهذه إهانة غير مسبوقة لرئيس تعهد بإعادة العظَمة إلى أمريكا.

تقويض مُعاهدة الصواريخ النووية المتوسطة (مداها من 500 إلى 5500 كيلومتر) ربما يكون مُقدمة لإنهاء الإلتزام بمعاهدة «ستارت» حول خفض الترسانات النووية الأكثر خُطورة التي ستنتهي في فبراير عام 2021، أي بعد عامين بالتمام والكمال، مما يعني دخول العالم في فوضى نووية إذا لم يتم الإتفاق على تمديدها، وهذا التمديد بات مَوضِع شُكوك.

ما زالت المُبررات التي أوردها الرئيس ترامب للإنسِحاب من المُعاهدة المذكورة، أي خرق موسكو لها غير مُقنعة، وهُناك إعتقاد بأنّ السبب الحقيقي هو إغراق روسيا في سِباق تسلح مُكلِف، يُؤدي إلى إنهاكها إقتصاديا، تمهيدا لإنهيارها، تماما مثلما حصل للإتحاد السوفياتي بعد حرب النجوم.

الجهة الأكثر قلقا من هذا الإنسحاب الأمريكي من معاهدة الصواريخ المتوسطة هِي القارة الأوربية، التي لم تَفِق بعد من صفعة الإنسحاب من الإتفاق النووي الإيراني وتبعاته، وعبرت السيدة فيديريكا موغيريني، وزيرة خارجية الإتحاد الأوربي عن هذا القلق بقولها: «لا نريد أن تتحول قارتنا إلى ميدان مواجهة روسية أمريكية»، وقد شاركتها القلق نفسه السيدة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، التي إتهمت إدارة ترامب بأنها «تخاطر بسِباق تسلح وتُقوض الأمن والإستقرار الدوليين».

سياسة الرئيس ترامب «أمريكا أولا» قد تجعلها «أمريكا آخرا»، لما تتسم به من تهور وعدم نضج، لأنها جعلت الولايات المتحدة تخسر أقرب حلفائها، أي الإتحاد الأوربي، وتواجه القوتين العظميين (الصين وروسيا) وتحشِدها ضدها، وربما تنحصر مكاسبها في «إسرائيل» وبعض الدول المارقة الأخرى إلى جانب دول صغيرة لا يمكن رؤيتها على الخريطة إلا «بمكبر» مثل ماكرونيزيا.

الإنفاق الصيني المتزايد في مجال الأسلحة الذي يرتكزعلى أرضية إقتصادية عملاقة لتوسيع مجالات النفوذ ليس في شرق آسيا، وإنما في إفريقيا والشرق الأوسط أيضا، هو التهديد الإستراتيجي المتزايد للولايات المتحدة، وإذا كان رئيس كوريا الشمالية بات يُشكل معضلة وتحديا صعبا لترامب وإدارته فكيف سيكون الحال مع الرئيس الصيني الطموح شي جين بينغ؟

روسيا بوتين غير إتحاد سوفياتي غورباتشوف الضعيف المهزوم الراكع أمام أمريكا والغرب عموما، ولهذا لا نعتقد بأن سباق التسلح في حال إشتعال فتيل حربه، لن يُؤدي إلى إنهيار روسيا الجديدة المتعافية التي إستوعبت وتعلمت من أخطاء سابقتها، وباتت أكثر شبابا وعنفوانا وإنما الولايات المتحدة الأمريكية الكهلة، خاصة إذا فاز الرئيس ترامب بولاية ثانية.. والله أعلم.