لغة الحيوان في خطاب الفاعل السياسي المغربي بين تنازع المواقع وجاذبية الكتل الناخبة
الوطن24/ بقلم: الدكتور أيوب بنجبيلي*
يعد تمثيل المواطنين في مختلف المؤسسات والهيآت، أمانة جسيمة فهو يتطلب الصدق والمسؤولية، والحرص على خدمة المواطن وجعلها فوق أي اعتبار، فكثيراً ما يطرح هذا التساؤل: ماذا أضافت الأحزاب السياسية لأوطانها؟ فيفترض أن النشاط الحزبي مظهر من مظاهر تجسيد قيم الديمقراطية وتأطير الكثل الناخبة مع ما تحمله من اختلاف وتعدد في الآراء والأيديولوجيات والتصورات والمشاريع السياسية التي تصب في صالح الوطن والمواطن، ولكننا نجدها للأسف اليوم فقدت صوابها وخرجت عن الدور الذي يفترض أن تقوم به وجعلت من مملكة الحيوانات لغتها الرسمية بدءا من ” التماسيح والعفاريت إلى الذئب والحمار” هكذا أضحت أسماء الحيوانات المُفترسة تحظى بمكانة بارزة في تداول الخطاب السياسي بالمغرب، خصوصاً بعد تصدر حزب العدالة والتنمية على أغلبية المقاعد في الانتخابات البرلمانية لسنة 2011 ذو التوجه الإسلامي، حيث كثيراً ما تم رصد توصيف أو إشارة إلى أسماء حيوانات لتمرير رسائل سياسية بشكل مرموز.
إن علاقة السياسة بعالم الحيوانات ليست بالعلاقة الجديدة على مستوى التواصل السياسي، فالفكر السياسي العربي غني بهذه العلاقة بين السياسة وعالم الحيوانات كالبيان والتبيين للجاحظ وكليلة ودمنة لابن المقفع، والحيوان السياسي كمفهوم ينتمي إلى علم السياسة له معنى ايجابي وهو يعنى به الفاعل السياسي القوي المؤثر والكاريزماتي، لكن اليوم وللأسف فالمعنى في المغرب انحرف عن هذا السياق، حيث يقصد به ذلك الفاعل السياسي الذي يستخدم أثناء تواصله المؤسساتي سواء خلال الندوات الصحافية أو داخل المؤسسة البرلمانية أو اللقاءات الحزبية، مجموعة من التعابير المنتمية لحقل الحيوانات دون أن يسمي الأشياء بمسمياتها، لعدم الجرأة وتفادي التصادم المباشر بأوصاف قد تشحن الأجواء السياسية أكثر، وهذا يظهر دائما في فترات معينة وفي الحالات التي يكون فيها انسداد أو أزمة سياسية أو أن الفاعل السياسي في وضعية غير مريحة أو من أجل الضغط على الخدام الحقيقيين للدولة الذين لا تحكمهم ألوان سياسية ولا إيديولوجيات حزبية ولا توجهات عقائدية، أو لعدم قدرة الفاعلين السياسيين على إنتاج مفاهيم سياسية جديدة تعكس أهمية التحولات التي تشهدها البلاد، فعوض الإصغاء لنبض المجتمع، وللانتظارات المشروعة التي تؤرق المواطنين نجد هذه التيارات الحزبية تعيش نوعا من الشعبوية في الخطاب باستعمالها أسلوب تواصلي عنيف مما يعكس عدم قبول قواعد اللعبة الديمقراطية، ولعل المتتبع للمشهد السياسي المغربي سيلاحظ أن الأحزاب فقدت الكثير من قوتها، ولم تعد تؤثر في الرأي العام كما كان في السابق لان هذه القيادات أثبتت عدم فاعليتها وعجزها عن مسابقة الزمن الدستوري وتحقيق ما وعدت به من إنجازت، كما أنها باتت متخوفة من ذكاء المجتمع المغربي خاصة وأن العالم يعيش على أزمة اقتصادية عميقة لا يدرك أحد نهايتها حول ما نشاهده اليوم من ارتفاع الأسعار بسبب الغزو الروسي على أوكرانيا.
إن موضوع الأسماء الحيوانية التي بدأت تغزو حقل التواصل السياسي بما فيها السب والقذف وتبادل الاتهامات بحاجة اليوم إلى أن نقف عنها كباحثين وأكاديميين من جوانب عدة، من علم السياسة واللغة والسيميولوجيا وعلم الاجتماع، من خلال طرح مجموعة من الإشكاليات التالية:
هل تحول الحقل السياسي المغربي إلى حقل حيواني؟ وهل تحول الفاعل السياسي إلى كائن حيواني؟ وهل تستطيع هذه اللغة تأطير المواطن بما تحمله من معاني مجازية ”كالذئب الشارف” و”الحميّر” و”الميكروب السياسي”، وغيرها من الأوصاف التي ميعت الحقل السياسي المغربي، وجعلته ساحة صراع بين الأشخاص، بدل التنافس حول الأفكار ونقاش القضايا الكبرى التي تهم المواطنين المغاربة خاصة في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها اليوم في ظل التطورات الجيو-استراتيجية البالغة الأهمية، وتوقعات تراجع نمو الاقتصاد العالمي، واحتدام التوترات التجارية وتزايد السياسات الحمائية، وتقلبات الأسعار العالمية للسلع الأساسية ؟ أم أنها ستفرز لنا عزوف جديد للكتل الناخبة؟ وإلى أي حد سيستمر الحقل سياسي في استعماله هذا القاموس من هذه الحيونات في الخطاب السياسي ؟
لقد ركز أغلب الفلاسفة والمفكرين على اللغة ودورها في التواصل انطلاقا من أفلاطون و نعوم تشومسكي وأرسطو الذي اعتبر بأن “الإنسان حيوان سياسي” فاللغة فهي الأداة التي يستطيع بها السياسيون توجيه الجماهير والتأثير عليهم وتغييِر الرأي العام حول أي قضية، فهي تعتبر جهاز تحكم وسيطرة على العقل الجماعي للمجتمع، وعليه يتميز الخطاب السياسي بأنه خطاب يقوم على عملية الإقناع للجهة الموجه لها الخطاب، ليوصل المخاطب إلى القبول والتسليم بالمصداقية والإيمان بالشرعية، وذلك من خلال توظيف خطاب المظلومية ولغة الحيوان إن اقتضى الحال كما قامت به بعض الأحزاب من أجل جاذبية الكتل الناخبة قصد التراجع عن المضايقات التي يزعم أنها تطال التدبير الحكومي وتشوش عليه وتساهم في إضعاف أدائه والتقليل من منجزاته وحصر مردوديته.
إن نوعية ومضمون الخطاب السياسي اليوم اتجه إلى مفردات لم تكن موجودة في القاموس السياسي، وظل الخطاب السياسي ملتفا حول رموز حيوانية وكلمات وعبارات نابية، بلغة تكون أحياناً بعيدة عن أخلاقيات العمل السياسي ولو أَعاد “برنارد لويس” صياغة كتابه “لغة السياسة في الإسلام” لاختار في ما يكتب عن قوم لم تعُد لهم لغة ولا مرجعية في الحديث إذ لم نبلُغ هذه الحالة حتى في زمن ما عُرف بالانحطاط أو عصر ما بعد الموحدين، على حد تقسيم مالك بن نبي رحمه الله.
في الوقت الذي كان على الأغلبية الحكومية والمعارضة البرلمانية المحتشمة أن تستند على الدستور لتنزيل عملها والقيام بواجباتها وحقوقها الدستورية، في إطار ما ينتظره المواطن المغربي من الفاعل السياسي، من تنمية متوازنة ومنصفة، تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب وتساهم في الاطمئنان والاستقرار والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية، وتسهيل ولوج الجميع للخدمات الاستشفائية الجيدة في إطار الكرامة الإنسانية، فالمواطن اليوم يحتاج إلى قضاء عادل وفعال وإلى إدارة ناجعة، تكون في خدمتهم وخدمة الصالح العام وتحفز على الاستثمار، وتدفع بالتنمية بعيدا عن كل أشكال الزبونية والمحسوبية والرشوة والفساد، في انتظار تنزيل نموذج تنموي جديد والتفكير في حلول ناجعة للخروج من هذه الأزمة التي نعيشها بسبب الارتفاع المطرد الذي عرفته أسعار الحبوب والمنتوجات البترولية في السوق الدولية، فعوض الانشغال والانكباب على هذه القضايا الكبرى، تعيش الأحزاب السياسية على صفيح ساخن قوامها التشبث بالكراسي والقيادة للحفاظ على المصالح، فلاشك أن الاختلاف مطلوب لكن حول السياسات العمومية وليست الحياة الخاصة التي لا تعطي إلا النتائج السلبية على جميع الأصعدة، فصراع الأحزاب اليوم، لا نلمس فيه أي خلاف حول الإيديولوجية أو البرامج أو العلاقة مع السلطة، بل يتعلق أساسا بالصراع حول المواقع الحكومية أو داخل الأحزاب نفسها، وهذا النوع من الصراع يحول المشهد السياسي إلى “حلبة صراع وتهريج”، لا تتماشى مع سلوكيات النخبة السياسية المفروض أن تكون في مستوى معين من الاحترام المتبادل والنقاش بدل النزول إلى مستوى التمييع وتكريس العزوف السياسي، والمساهمة في مزيد من الابتعاد عن السياسة، فلغة الحيوان لا تعطي إلا للعازفين مبررات أخرى للعزوف .
إن غياب برامج سياسية تؤطر المواطن وخبرة ميدانية للتعامل مع الأزمات الكبيرة أدى إلى فقدان الثقة في أي تحرك حزبي في الوقت الحالي خصوصاً أن البرامج الانتخابية التي على أساسها وقع تشكيل المشهد السياسي الراهن جرى تجاوزها وعدم تطبيقها، سواء لتهاون الأحزاب السياسية وعدم جديتها في تفعيلها أو لاعتبارات أخرى، علاوة على انتصار المصالح الشخصية على حساب مصلحة الوطن، وهذا راجع إلى أن الأحزاب السياسية لم تستوعب بعد الإشارات القوية للدستور ولم تواكب التوجيهات الملكية التي أولت اهتماماً بالغاً للشباب على جميع الأصعدة.
يعرف المشهد السياسي والحزبي المغربي اليوم أزمة حقيقية، سواء داخل مكونات التحالف الحكومي أو داخل المعارضة التي تعاني من الضعف والوهن وأصبحت غائبة عن الساحة، بسبب التصويت العقابي الذي شهدته انتخابات 08 شتنبر2021 بالإضافة إلى الحروب الداخلية بين تيارات متصارعة حول «كعكة» المناصب في القيادة الحزبية، وقد وضع الخطاب الملكي الذي ألقاه الملك محمد السادس بمقر البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية العاشرة، الأصبع على الداء الذي بدأ يستشري وسط الأحزاب السياسية المغربية، والمتمثل أساسا في فقدان تلك الأحزاب لمهمتها التأطيرية والتوجه نحو الصراعات الداخلية والمصالح السياسية الضيقة وتبادل الاتهامات والتصريحات “فممارسات بعض المسؤولين المنتخبين تدفع عددا من المواطنين وخاصة الشباب، للعزوف عن الانخراط في العمل السياسي، وعن المشاركة في الانتخابات لأنهم بكل بساطة، لا يثقون في الطبقة السياسية ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل..”، فمن الطبيعي إذن أن يقف الباحث والمثقف والمواطن وقفة مع الذات حول ما حققه المغرب من منجزات، وما يواجهه من تحديات خاصة ما نعيشه اليوم من تراجع ثقة الشارع المغربي في الأحزاب السياسية بشكل ملموس، ويرجح ضعف هذه الثقة في الأحزاب المغربية إلى فقدان النزاهة والانضباط لدى معظمها وعدم الالتزام ببرنامجها الانتخابي بكل صدق ومسؤولية، فلا يعقل مثلا على حزب كان بالأمس القريب يدافع عن الثوابت والمواقف ضد التطبيع وضد قانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين بالإضافة إلى تقنين زراعة القنب الهندي، في تناقض صارخ مع مرجعية الحزب وهويته، واليوم يقول بأن الحزب يعتذر عن هذه المنجزات، بل وجب عليك الانسحاب قبل الاعتذار لأن سياسة الدولة والمصالح العليا للوطن أكبر من وجود هذه الخلافات داخل النسق السياسي لأنه بكل بساطة لما نكون في كراسي الحكم نبرر كل الأشياء ولما نفقد أغلبية المقاعد نقول بأن هذه الانتخابات غير مفهومة وكأنها القيامة كما أشار إليها جلالة الملك في إحدى خطبه حيث “…لا أحد يعرف الآخر، والجميع حكومة وأحزابا، مرشحين وناخبين، يفقدون صوابهم، ويدخلون في فوضى وصراعات، لا علاقة لها بحرية الاختيار، التي يمثلها الانتخاب”.
فإذا كنا نتفق جميعا على الدور البارز الذي تلعبه الأحزاب السياسية في الدولة على المستوى التمثيلي والتأطيري للمواطنين من خلال الدستور المغربي الجديد، الذي أعطى مجموعة من الامتيازات الدستورية والقانونية، والمادية للأحزاب السياسية، لكي تقوم بدورها السياسي، من خلال تنافس البرامج وتقديم القوانين والعرائض والحلول، فإننا لا يمكن أن نتفق على اختلاف ذلك، وهنا نطرح التساؤل هل دائما سوف نبقى نكرر ونبكي على الأطلال بأن تلك الأحزاب هي التي واجهت أزمة الربيع العربي وجنبت إلى حد تعبيرهم الدولة من المجهول؟، فازدواجية هذا الخطاب الذي يحتمل في رسائله نوع من “المن” بخصوص دور الحزب في الحفاظ على الاستقرار إبان ثورات الربيع الديمقراطي، ما هو إلا نوع للأسف الشديد من تمجيد الذات و الركوب على الوطن لأنه ما وقع في تلك الدول التي عصفت بها رياح هذه الأزمة لا يمكن وقوعه في المملكة المغربية الشريفة، لأن رابطة الملك بشعبه أقوى من رابطة المواطن بالأحزاب التي فرضتها إلا صناديق الاقتراع من خلال توليها التمثيل السياسي لفترة زمنية محددة، أما رابطة المواطن بملكه فهي راسخة عبر رابطة تنبني على البيعة والولاء الراسخ للمغاربة طيلة قرون، فلقد جسدت البيعة الشرعية على امتداد تاريخ المملكة المغربية الرابطة المتينة والصلة الراسخة التي مافتئت تجمع الملك بوصفه أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين بشعبه الذي يعتبره بمثابة قائد الأمة ورمز الوحدة والسيادة الوطنية بجميع تجلياتها، ومن تم فشخص الملك ، يحظى بمكانة خاصة في نظامنا السياسي وعلى جميع الفاعلين مرشحين وأحزابا تفادي استخدامه في أي صراعات كيفما كانت .
فالمؤسسة الملكية هي التي سارعت الخطى وتفاعلت بشكل سريع مع أحداث الربيع العربي بخطوات استباقية، معلنة شعار “الإصلاح في ظل الاستقرار”، بخطاب 9 مارس 2011 الذي رفعت فيه سقف التطلعات، حين أعلنت عن أول مراجعة لدستور في عهد الملك محمد السادس، قوامها توسيع هامش الحقوق والحريات، وتقوية الطابع المؤسساتي بالتنصيص على هيئات الحكامة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية في المغرب وربط المسؤولية بالمحاسبة.
إن من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب هو غياب إرادة سياسية حقيقية مؤتمنة على خدمة الوطن والمواطن، فبقدر ما يحظى به المغرب من مصداقية قاريا ودوليا في كل المجالات، بقدر ما تصدمنا الحصيلة والواقع في بعض المجالات الاجتماعية وبالتالي فعندما تكون تلك النتائج إيجابية تتسابق بعض تلك الأحزاب والطبقة السياسية إلى الواجهة، للاستفادة سياسيا وإعلاميا من تلك المكاسب المحققة ويجهلون بأن المجتمع واعٍ بموقعه ولم يعد يقبل بتلك التصرفات، وهو سؤال طرح نفسه في الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش المجيد سنة 2017 معتبرا أنه “.. إذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟..”.
وبالتالي فالتحلي بروح المسؤولية العالية في تدبير الشأن العام، والتجاوب مع انشغالات المواطنين يبقى أهم تحدي لمواجهة هذه الأزمة التي تقتضي انخراط جميع المؤسسات والفعاليات الوطنية المعنية، وأحزاب سياسية واعية تعمل بجد، وتملك رؤى ومشاريع تحمل نوايا صادقة وحماسة وطنية، لإعطاء نفس جديد لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا.
*باحث في القانون العام والعلوم السياسية