لكي لا نحول الجهل إلى علم

الوطن24/ د. إدريس الكنبوري

عندما كتبت أمس تدوينتي عن كورونا وبناء المساجد لم يكن في نيتي الرد على أحد كما حسب البعض. من عوائدي عدم الرد إلا إذا سئلت عن ذلك من طرف صحافيين أو إعلاميين. وحين أفعل ذلك فليس ذلك ردا بل مشاركة في نقاش معلق غير موجودة شروطه، بمعنى أنني أفعل ذلك لكي يكون هناك نوع من “التوازن” في هذا الفضاء الأزرق الذي هو ساحة لعب لكنه أيضا رواق علمي مفتوح.

لذلك أعود اليوم مضطرا ومدفوعا بنداء الضمير الذي لا يريد أن يستريح. فأقول:

اعلم أن التخلف العلمي والتكنولوجي في العالم الإسلامي ليس مرده الدين والغيبيات وما يسمى الخرافات – وهي غير تلك – بل مرده عوامل كثيرة متضامنة، من بينها ظهور طبقة من أشباه المثقفين الذين يحاولون إقناع الحكام بأن أسباب التخلف العلمي والتكنولوجي في العالم العربي والإسلامي مرده الدين والغيبيات والخرافات – وهي هي تلك – وأنه ينبغي القطع مع هذه السفاسف لبناء المجتمع الحداثي المتنور المليء بالمختبرات العلمية التي تصنع صاروخا كل نصف ساعة.

وهي هي اللعبة المدروسة: الشعوب العربية والإسلامية مسلمة ولن تتخلى عن الإسلام، وهؤلاء يربطون نزول العلم بارتفاع الدين، فالدين لن يرتفع والعلم لن ينزل، وهكذا يدور التسلسل بينما يتفرج علينا الأوروبيون.

ثم اعلم حفظك الله أن الغيب والخرافة والأسطورة لم تمنع الشعوب من تحقيق التقدم العلمي. وهاك بعض الأدلة باختصار: لقد كان المسلمون السابقون يؤمنون بالغيب أشد الإيمان لكنهم صنعوا حضارة علمية نقلها عنهم الغرب. وآمن الصينيون بالخرافة الكنفوشيوسية لكنهم صنعوا تقدما علميا ينافس الغرب. وللهنود من الخرافات ما يضحك القرد الحزين ولديهم مئات الطوائف لكنهم اليوم أمة من العباقرة. وكان الاتحاد السوفياتي يعيش عبادة الشخص الواحد بشكل أكثر تطرفا من المسيحية القديمة، فكان واجبا على الطفل في المدرسة أن يشكر ستالين وليس الله، وكان على الأسرة حين تجتمع للأكل أن تحمد ستالين وليس الله (هذه معلومات صحيحة منقولة عن مثقفين سوريين عاشوا في موسكو وكتبوها) لكن الاتحاد السوفياتي حقق تقدما هائلا كما هو معروف. وفي إيران مجتمع يؤمن بالمهدي الذي سيعود ويجرح نفسه كل عام على رجل قتل قبل 14 قرنا حتى تتحول الشوارع دماء فيضحك العالم، لكن الإيرانيين اليوم يزعجون العالم. ولماذا نذهب بعيدا؟ كان اليونانيون مجموعة من الحمقى يتصورون العالم تسيطر عليه آلهة كثيرة كل إله يتحكم في شيء في الكون، مثل معمل الخياطة، لكنهم أبدعوا فلسفة وعلما حتى أن أوروبا بعد أكثر من عشرين قرنا يقولون إنهم هم أساتذتهم، يعني أرسطو الذي كان يسير شبه عار وبنعل مثقوب ويأكل السمك نيئا هو واحد من أساتذة باستور وانشتاين ونيوتن.

ولكنهم فضلاء ويعترفون بما تحقق عند الإغريق وهو قليل، ونحن فينا الحقراء الذين لا يريدون أن يعترفوا بما حقق المسلمون وهو كثير.

فالقضية إذن ليست قضية خرافة، لكنها قضية جهل. كيف؟ سنشرح.

العالم الذي يذهب إلى معمله في أوروبا ليس بالضرورة ملحدا، هذا تصور غارق في الجهل. هناك علماء مؤمنون بالمسيح ويرتادون الكنيسة ويقراون في الإنجيل بين وقت وآخر. هناك علماء – يعني علماء العلوم الدقيقة – كتبوا في المسيحية كمؤمنين، وأدعوا هؤلاء إلى قراءة كتاب نيوتن حول التثليت المسيحي.

إنكم تقولون – كذبا وتزويرا – أن ابن رشد نموذج للعقل والعلم، أفليس هذا النموذج كافيا؟ لقد كان أبو الوليد يذهب إلى المسجد ويقيم الليل ويحفظ القرآن، وهو الذي كتب “فصل المقال” لكنه أيضا كتب “بداية المجتهد”، وأنتم تريدون صاحب الكتاب الأول وترفضون صاحب الكتاب الثاني وهما شخص واحد، وهذا دليل على جهلكم.

وتدعون – كذبا وتزويرا – أن المعتزلة نموذج للعقل والعلم، أفليس هذا النموذج كافيا؟ لقد كان أهل العدل والتوحيد أول من أبدع علم الكلام فقط لنصرة الإسلام، وهم أول من جادل اليهود والنصارى دفاعا عن الإسلام، ولكنكم تريدون طائفة صغيرة من المعتزلة رفضها كبار المعتزلة، لأنها رفضت الصفات وأرادت وضع العقل مكان النبوة فما بقي لها من الدين شيء.

وأنا واثق أنكم لا تعرفون من ابن رشد سوى سطرا سخيفا من”فصل المقال” يضحك العجائز، ولا تفهمون من المعتزلة سوى أنهم من العزلة عن الأمة.

إن العقل يقول إن أسباب تخلفنا العلمي متشابكة لو كنا واقعيين. والعقل يقول: عندما ترى – رعاك الله – الحروب الشرسة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في التكنولوجيا والتجارة العالمية، وعندما ترى الحروب الشرسة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية حول التجارة والصناعة والتقدم العلمي، ألا تفهم من هذا أن دخولنا بينهم صعب؟.

إنني عندما أتفرج على بعض البرامج عن الحيوانات وأرى أن السباع تتصارع حول فريسة واحدة أعرف أنه لا يمكن أن يكون للضبع مكان.

لقد رأيتم ما حصل للعراق مرتين، ولم يكن العراق قويا لكنهم كذبوا عليه لسحقه، والقصة يعرفها اليوم باعة الفلفل.

والأمثلة كثيرة.

إنكم إما جهال، أو كذابون، أو متآمرون. وأنا أتمنى أن تكونوا جهالا، فهذا خير وأكرم.