معجم المصطلحات السجنية: “البيدانسي”
الوطن 24/ إعداد: الكاتب محمد الشطبي
البيدانسي : وتعني كل ما هو سجني يُقال مثلا: خبز بيدانسي. لحم بيدانسي. أتاي بدانسي. بطانية بيدانسية… إلخ، وذالك للتفريق بينها وبين الأشياء القادمة من الخارج “السيفيل”. التي على العكس تنسب له للتفريق بينهما فيقال مثلا : خبز سيفيل , كاشا سيفيل عدس سيفيل, مرق سيفيل …إلخ، وأصل الكلمة فرنسي مشتقة من pénitentiaire البيدانسي …
لكن هذا اللفظ / المصطلح حين يطلق في سياق معين خاص فيقصد به أغاني السجناء الشهيرة (أغاني البيدانسي) التي كادت تنقرض في يومنا هذا بانقراض جيل السجناء القديم، وظهور وسائل ترفيه وقتل للفراغ بديلة على رأسها التلفاز. وقد أتيحت لي فرصة سؤال عدد من سجناء الجيل الجديد عن اغاني البيدانسي فوجدت الأغلبية تجهلها، والقلة القليلة منهم تحفظ منها مقاطع مبتورة من قصائد طويلة كان يتردد صداها بين جدران الزنازن قديما حين تصدح بها الحناجر بشكل شبه يومي، في أوقات وطقوس خاصة لها.
أما المهتمون بعلم الإجتماع فلم يبلغ لعلمي أن أحدهم قد بدل مجهودا للبحث في هذا (الفن) الذي لا يقل أهمية عن فنون أخرى تنجز لها الأبحاث وتقام لها الندوات وتنفق عليها الأوقات والأموال…
لربما بسبب الإرتياب من هذا الفضاء المغلق وما ارتسم عنه في العقل الجمعي المغربي من صورة سلبية نمطية وعن ساكنته التي لا تزال في نظر عموم الناس ومنهم الباحثين والمثقفين لا تستحق أن يلتفت لها اشمئزازا منها و تطيرا، أو لأنها عدوة للمجتمع بسبب ما جنته بحقه… !!!
البيدونسي كفن يمكننا تعريفه ببساطة أنه نوع (الراب) راب السجناء. ظهر عقودا طويلة قبل ظهور هذه الموجة الشبابية المعاصرة. راب عوضت فيه الأواني البلاستيكية والمعدنية الآلات والمؤثرات الموسيقية. أما مواضيعه وكلماته فقد فاقت (الراب) الحالي جرأة قوة وفحشا أيضا.
فبما أن السجن كما شبهه بعضهم بالإسفنجة الكبيرة الضخمة تمتص الحكايات، فتتداخل فيها القصص والمشاعر وتتعاظم فتولد هلى شكل قصة أو شعر أو أغاني بيدونسي. وهذه الأخيرة بما أنها سهلة النظم لا تحتاج قواعد محددة كبقية الفنون، وبما أن الفضاء تغلب على سواده الأعظم الهشاشة الثقافية المعرفية، فقد كانت متنفسا بإمتياز وترجمانا للألم، ألم المعيش خلف القضبان. وجلها وليدة الشعور (بالحكرة) والإهانة، والعجز عن ردها، كما لا تخلو من سخرية مرة ونكتة فاجرة… وحسرة على إقتراف الخطيئة وإسترجاع لذكريات جميلة وملاحم ومغامرات وأمجاد الطيش والإنحراف… أغاني البيدانسي كانت ترد على قسوة الحياة والتهميش، بعنف العبارة القوية التي تتجاوز ذلك لتفجر أيضا مكنونات الكبت الجنسي والحرمان والرغبة الإباحية. متجردة من كل ضابط أخلاقي، ديني، مجتمعي … أنشدت كثيرا لـ(الحنانة) الأم. وتحسرت على هجران وغدر المحبوبة بعد بلاء السجن و وثقت لأحداث ومرويات وحكايا منسية لصيقة بالمتخيل اليومي، ولم تغفل قضايا الأمة الكبرى. وأنشدت التحرر من منظومة العقاب والمراقبة وقسوتهما …
البيدانسي بإختصار كانت بمثابة مراكب هرب جماعية من السجون. ومن قيود السلطة و المجتمع عامة… إنها ملطمة شعبية سجنية بإمتياز …
إنها ملحمة فنية منسية. وددت لو أستطيع في يوم ما تدوين ما تشتت منها، وجمعه من أفواه قدماء (الحباسة) في كتاب أو بحث يحفظ الموروث والذاكرة السجنية المغربية، أتمنى ذلك حقا