معنويات الملك لا تحتاج لترميم إسرائيلي
الوطن 24/ بقلم : د محمد الشرقاوي *
ثمة سجلّ تاريخي مشترك بين الملوك الثلاثة: محمد الخامس، والحسن الثاني، ومحمد السادس، في التمسك الشخصي والسياسي بحوار الديانات وتعايش الثقافات. في الأربعينات، أوجد محمد الخامس سبل الحماية لآلاف اليهود من بطش النازيين. وفي الستينات، لم يقف الحسن الثاني في طريق من أراد الهجرة إلى إسرائيل، ولم يغير اعتبار الذين فضّلوا البقاء بأنهم مغاربة يهود بتوازي الحقوق والواجبات لديهم مع بقية المغاربة. وحافظ محمد السادس على وضع جيد لليهود في المغرب. واستقبل هو وسلفه الحسن الثاني باباوات الفاتيكان ضمن قناعة المغرب بالحوار الإسلامي مع المسيحية بكافة تجلياتها الكاثوليكية عبر العالم.
هذه مسلّمات واقعية يعززها وجود المساجد والكنائس والكنس في جل المدن المغربية، ويلتف المغاربة حول فكرة التسامح الديني والتعددية العرقية والثقافية حتى في نص دساتيرهم. وأي مناسبة لتذكيرهم بهذه الشهامة السياسية والتعددية الثقافية لا تكون سوى تحصيل حاصل.
لكن فحوى ما قاله رئيس الأمن القومي الإسرائيلي مائير بن شبات عشية وصوله الرباط في مقابلة صحفية بأن “إسرائيل تكفل حرية العبادة لجميع الأديان والطوائف التي تعيش فيها” تنمّ عن مقارنة ضمنية وكأن لدى المغرب مشاكل مع تعايش الأديان أو تحديات في طريق الاختلاط الاجتماعي والثقافي. فهل حان عصر “التنوير الإسرائيلي” لهدي صراط المغاربة؟
عندما يستعرض بن شبات بعضا من سيرته الذاتية، ويتذكّر أصله وحياته الأولى هو وإخوته في المغرب، فهو يثير رومانسية الاغتراب في إسرائيل، أو حتى اعتباره ضمن الشتات المغربي المتناثر في مائة دولة في العالم. والقصة الشخصية تظل إحدى تقنيات تركيب الخطاب والدبلوماسية الناعمة. وقد تنفتح لها الأفواه وتفتر بها القلوب في حميمية المغرب المشترك، والمواطنة المشتركة، والوجدان المشترك…!
لكن هذه المقدمات النوستالجية لا تُنسي حقيقة أن السيد بن شبات وبقية الوفد الإسرائيلي الأمريكي جاءوا في مهمة سياسية محددة بتكليف من نتنياهو وحزب الليكود وهي استكمال التطبيع الشامل مع المغرب مقابل اعتراف الرئيس ترمب بمغربية الصحراء. ومهمة السيد بن شبات تقتضي ضمان مصلحة إسرائيل أولا وأخيرا. فماذا يتبقى من “مغربية” بن شبات؟!
وعندما يعتبره مجالسوه “منّا” وبقية توابعها الهوياتية، فإن مصلحته ومصلحة الليكود لا تجعله “منّا”، بل “منهم”، هم النتنياهويون، والليكوديون، واليمينيون، ودعاة الصهيونية، وبقية القوى المتشددة التي تريد نسف حل الدولتين الذي يتمسك به المغرب في سياسته تجاه الفلسطينيين والإسرائيليين.
وعندما يتمسك المغرب بعدم تخليه عن التزامه بالقضية الفلسطينية وحل الدولتين ووضع القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية في المستقبل، فإنه قد ينسى أو يتناسى أن الليكوديين من أمثال بن شبات ويهود آخرين من أصل مغربي هم من سيعارضون بشدة موقف المغرب، ويصرون على التطبيع وعلى تجويف القضية الفلسطينية من خلال “اتفاقات أبراهام”. وهنا يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض، أو بالأحرى الحدّ الفاصل بين الرومانسية والواقعية، وإن تحدث بن شبات معنا بالدارجة، أو أشاد بطعم الكسكس أو حلاوة “أتاي” المنعنع وحلويات “كعب غزال والبريوات” على موائد الضيافة السخية.
من ذكاء نتنياهو وبن شبات وكوشنير أن يعتمدوا خطاب النوستالجيا اليهودية للمغرب والإشادة بموقف الملك من تعايش الديانات، أو كما تمت هندسة عنوان المقابلة “قيم الملك محمد السادس مثال للشراكة بين الأديان الثلاثة”. هي مجرد سرديات وتحصيل حاصل تغدو أدوات ناجعة هذا الأسبوع في تركيب خطاب موات لإقناع الملك والمغاربة بقبول التطبيع الكامل هذا الأسبوع.
سردياتٌ… وحكاياتٌ… ونوستالجيا… قد تنتشي بها الآذان وتنفتح لها الصدور، وترتفع معها الحميمية العاطفية، وتغيب عقلانية التفاوض الصارم في القبول بمقايضة اعتراف مقابل تطبيع.
هي دبلوماسية تطبيعية ناعمة تستغل التاريخ أيضا عندما يتحول بن شبات إلى “برّاح” لترويج النسخة المغربية من “اتفاقيات إبراهيم” (في المغرب) و”اتفاقات أبراهام” (في البيت الأبيض) لكونها “ترمز إلى الأصل المشترك للأديان السماوية الثلاثة. أورشليم.. القدس.. والأماكن المقدسة يجب أن تكون مواقع تحقق التقارب والسلام والأخوة بين الشعوب وليس الحرب والعداوة”، حسب تعبيره.
مثالية الدين، وخطاب التاريخ، وسرديات النوستالجيا وأدوات ناعمة أخرى تترقب أن تقبل الرباط خطة التطبيع، فما الخيار بين جاذبية العاطفة وحساب العقل!
كوشنير قادم لصرف شيك نتنياهو، فمتى يصرف المغرب شيك ترمب؟
ستحطّ طائرة العال على أرضية مطار سلا الرباط الثلاثاء قادمة من تل أبيب، وعلى متنها وفد أمريكي إسرائيلي أمريكي مشترك يترأسه جاريد كوشنير، عرّاب النسخ العربية من اتفاقات أبراهام، ومعه آفي بيركويتس المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط، وآدم بروهلر مدير هيئة مالية التنمية الدولية الأمريكية، ومائير بن شابات مستشار الأمن القومي الإسرائيلي.
سيتكرر مشهد الفتوحات الكوشنيرية برمزية صور النزول من طائرة تحمل علما إسرائيليا على غرار احتفالية أبو ظبي. وتكتمل من خلفها نشوة نتنياهو وأعضاء الليكود بأن “الأرض بتتكلم إسرائيلي بين مشارق الخليج ومغارب المحيط. في هذا الخريف، قرر كوشنير الإبن السياسي الشرعي لنتنياهو أن يكمل دينه، كما تقول فحولة بعض العرب، بعقد زيجة أخرى من عروس مغربية، تكون الزيجة الرابعة على غرار زفافه في أبو ظبي والمنامة، وإعلان الخطوبة في الخرطوم، والخيط على الجرّار…!
يقول أحد العارفين بدهاليز السياسة في الرباط إن حماسة المغاربة تجعلهم يضفون “قراءة مشرقية على صفقة “اعتراف ترمب تطبيع إسرائيل”، بتبريرهم ما يحدث بضرورة “إحياء صلة الرحم” مع أبناء جلدتنا اليهود المغاربة في إسرائيل، وهذا مقطع مثالي يتكرر في تصريحات السيد بوريطة وبقية المدافعين عن خطاب “ويل للمصلّين”!
وسيتقرر تكليف رئيس الحكومة سعد الدين العثماني أو وزير الخارجية وأحد عرابي الاتفاق الجديد ناصر بوريطة بتدبير الضيافة للوفد الزائر. ستستوي الجلسة في مقر وزارة الخارجية بين أعضاء الوفد المشترك مع سي بوريطة ومساعديه في لحظة برغماتية في السياسة ولغة المصالح والواقعية السياسية، وتُرمى ورقاتُ اللعب على الطاولة “اعطيني، نعطيك”: اعترافٌ وقنصليةٌ وصفقةُ أسلحة من واشنطن مقابل تطبيع كامل غير منقوص بين الرباط وتل بيب؟
كما هو أسلوب التجار والسماسرة ولغة المساومة، تغيب أدبيات الدبلوماسية ومثالية الطرح، فتحضر جدلية المقايضة وخطوات التسليم وتمتلأ مربعات رقعة الشطرنج. لا يأتي كوشنير ورفاقه إلى الرباط في رحلة استكشافية أو للقاء المشاورات الأولية مع الملك، كما كان الحال خلال مأدبة الإفطار في رمضان ما قبل الماضي، بل لتحريك قطار التطبيع على السكة المغربية.
على الضفة الأخرى للأطلسي، تتحرك جبهة جديدة قديمة تقاوم تغيير الموقف الأمريكي من قضية الصحراء، ومن منظريها السناتور جيمس إينهوف رئيس لجنة الشؤون العسكرية في مجلس الشيوخ وجون بولتون مستشار الأمن القومي السابق وغيرهما. ويدفع هذا الحلف باتجاه حمل الرئيس بايدن على “قلب موقف ترمب” إزاء قضية الصحراء، وبدأ تركيب الخطاب السياسي بمقالات رأي في صحف ومجلات من طراز فورين بوليسي. وينتقد بولتون الرئيس ترمب لتسرعه باعلان موقفه إزاء الصحراء دون التشاور مع جبهة البوليساريو والجزائر وموريتانيا، وهي أطراف لا يمكن تغييبها من النزاع بجرة قلم حسب اعتقاده. وثمة اقتراحات متداولة باتفاق جديد بين الرئيس المنتخب بايدن والسناتور إينهوف بعد حفل التنصيب في العشرين من الشهر الجاري لمحو ما خطّه الرئيس المنصرف ترمب.
إذا حاولنا قلب الآية، ولو من بال الخيال السياسي، بسؤال من رحم تبادل المصالح ذاته والواقعية السياسية ذاتها: هل هناك “كوشنير مغربي” أو “نتنياهو مغربي” يستطيع مساءلة اللحظة بين يوم الإعلان الرئاسي لترمب في البيت الأبيض ويوم مسعى كوشنير الأمريكي الإسرائيلي لإتمام الصفقة؟
دبلوماسية الاتفاقات الدولية تستدعي نظرة العين في العين وتحريك قطع الشطرنج بالتوازي، وليس فقدان البوصلة بالتركيز على ما يروق والتساهل مع ما يروق الطرف المقابل. قد تكون اللحظة بمثابة زيارة البنك بشيكين: شيك باسم نتنياهو، وآخر باسم ترمب، فهل تصر الرباط على صرفهما في وقت واحد؟
*أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا