واقــع المحاماة في المغــرب والأفــق المجهول
الوطن24/ بقلم: ذ. رشيد أيت بلعربي*
دائما ما كانت تشكل المحاماة درعا واقيا لحقوق وحريات المواطنين في مواجهة أي اعتداء يطالها أو يتهددها سواء كان صادرا عن أشخاص القانون العام أو الخاص. وإذا كانت هاته الصورة هي القاعدة والأصل الذي طبع مهنة النبلاء وعلى مدى تاريخها العريق سواء على المستوى العالمي أو على المستوى الوطني، فإن الأمر لم يعد بنفس الزخم – على المستوى الوطني على الأقل – بفعل مجموعة من العوامل المحيطة بالمهنة منها ما هو سياسي وما هو اقتصادي وما هو اجتماعي ومنها ما هو مهني. فمحاماة سبعينيات وثمانينات القرن الماضي ليست هي محاماة اليوم. وجرأة وشجاعة النقيب عبد الرحمن بنعمرو والأساتذة عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحيم برادة وأحمد بنجلون ليست هي جرأة محاميي اليوم. فبينما وقف بعض هؤلاء أمام المحاكم دفاعا عن المتهمين بالانقلاب على الحسن الثاني علانية وأدوا دورهم بشجاعة متناهية، لم يعد بعض محاميي هذا الزمن قادرين حتى على النيابة في مواجهة شرطي أو دركي. وبهذا فقدت المحاماة بريقها وهيبتها وقوتها بل أصبحت لقمة سائغة في كثير من المحطات. لكن ذلك لم يأت من فراغ بل نتيجة تراكمات سلبية مرتبطة بعوامل عديدة .
وإذا كانت العوامل الخارجية كثيرة وتعود في جزء كبير منها إلى سياسة الدولة تجاه المحامين والمحاماة بشكل عام وهو ما يتجلى في مجموعة من الإشارات السلبية في السنوات الأخيرة (إغراق المهنة بأفواج متتالية من المحامين، الضريبة، محاكمات تعسفية وغيرها)، فإن العوامل الداخلية تبقى أكبر مشكل تعانيه المهنة وفي مقدمتها:
1- ضعف المؤسسات المهنية: إن أكبر تجليات هذا الضعف هو كون المؤسسات المشرفة على تدبير الشأن المهني أصبحت عاجزة عن بلورة أفكار واقعية لحماية المهنة من مجموعة من المظاهر السلبية. حيث نحت نحو تغليب مصلحة المحامي الفرد على مصلحة المحامين والمهنة بشكل عام في تعاطيها مع المشاكل التي تطفو على سطح المشهد المهني. وهو ما يظهر بشكل جلي في كيفية تعاملها مع السلوكات المنحرفة والشاذة التي تصدر عن بعض المحامين رغم قلتها. هذا على مستوى الهيئات السبعة عشر.
أما على المستوى الوطني، فإن تراجع جمعية هيئات المحامين عن الأدوار التي كانت تقوم بها للدفاع عن المحامين والمحاماة ومكانتها وسط المجتمع بشكل عام وداخل منظومة العدالة بشكل خاص، واكتفائها بتنظيم انتخابات تجديد المكتب كل ثلاث سنوات مع ما يرافق ذلك من طقوس التكريم والاعتراف بلاشيء، أصبح من المعيقات الرئيسية لأي تطور للمهنة. وما طريقة تعاطي المكتب المنتهية ولايته مع أزمة جواز التلقيح وأزمة الضريبة ومؤتمر الداخلة والصمت المخزي على فضائح امتحاني الأهلية الأخيرين الذي سيظل وصمة عار على المكتب المنتهية ولايته إلا خير دليل ذلك. وبالتالي لا بد من التفكير في إيجاد أفكار تنظيمية جديدة لتقوية هياكل المؤسسات المهنية المشرفة على تدبير شؤون المحامين محليا ووطنيا. وهنا أستحضر مقتطفا من الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في الدورة الثانية للمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب المنعقد بالدار البيضاء بتاريخ 20 غشت 2000 والتي شخصت واقع المحاماة في المغرب وقدمت بعض المقترحات الناجعة للنهوض بالمهنة، حيث ورد فيها:
“ونتيجة لهذه التحديات فإن المحاماة توجد اليوم في موقع دفاع حتى لا تفقد قواعدها وتقاليدها وأعرافها وثقة من يلجأ إليها. ولن يتسنى رفع تلكم التحديات إلا بالعمل على إصلاح وهيكلة المهنة وفق تنظيم حديث ومتطور يحافظ للمحاماة على استقلالها وحريتها ويضمن في نفس الوقت تطورها وتكيفها مع المتطلبات المستجدة”.
2- الإهمال الكبير الذي طال أعراف وتقاليد مهنة المحاماة، لدرجة أصبحت معه بعضها بمثابة عبء ثقيل على المحامين وأصبح التقيد بها استثناء. والسبب في ذلك هو أننا أهملنا منظومة الأعراف والتقاليد المهنية الحقة واختصرناها في تسبيق ملفات النقيب والنقباء السابقين و الزملاء خارج الهيئة وضرورة تحية بعضنا ورد التحية والإطناب الكبير في تشنيف مسامع المتمرنين بضرورة تقديم أنفسهم لبقية الزملاء والزميلات، علما أن هناك أعراف وتقاليد أخرى أهم من ذلك بكثير تهم جوهر الممارسة المهنية بشكل عام سواء في علاقة المحامين بمؤسساتهم المهنية أو في علاقة هاته الأخيرة بهم، وعلاقة المحامين ببعضهم بشكل عام سواء داخل الهيئة أو خارجها أو بالهيئات القضائية أو بكتابة الضبط أو غيرها من المؤسسات المرتبطة بمنظومة العدالة، أو في علاقتهم بموكليهم وكيفية التعامل معهم سواء في مناقشة قضاياهم أو مكان استقبالهم ومدى الأهمية التي تعطى لملفاتهم في البحث والاجتهاد والاستشارة وفي إعداد المذكرات والمرافعات والطعون وغيرها من المجالات التي تشكل المجال الخصب الذي يرفع من قيمة المحامي ورسالته السامية في الدفاع عن حقوق وحريات المواطنين عوض التقوقع وسط بعض الشكليات المتعلقة بطلب الملفات وتراتبية المحامين. ويبقى أكبر عائق في تمرد المحامين على هاته الأعراف والتقاليد هو تخلي الكبار عنها. فكيف يمكن للمحامي حديث الالتحاق بالمهنة أن يتلقى ملاحظات حول الأعراف والتقاليد المتعلقة بكيفية التعامل مع الزملاء من زميل أقدم منه وهذا الأخير لا يقدم المثال الجيد على ذلك؟ وكيف يمكن للمحامي أن يستمع لخطاب عن الأعراف والتقاليد ممن يفترض فيهم حماية هاته الأعراف و التقاليد عن كيفية التعامل مع الزملاء والموكلين وحماية السر المهني وهو يرى أن مخاطبه بمجرد دخوله للجلسة يطلب ملفه من رئيس الجلسة دون اعتبار لزميله الذي تأخر قليلا، ويتوجه إلى الكتاب العموميين وينتظر مع طوابير المنتظرين من أجل كتابة مقالات ومذكرات تتضمن أسرارا لموكليه؟
3 – إهمال الجانب القيمي في المحاماة باعتبارها مهنة حرة ومستقلة ورسالة إنسانية غرضها الأساسي الدفاع عن الحقوق والحريات وإعلاء قيمة العدل، وفي المقابل التركيز الكلي على ما هو مادي حيث أصبحت الرغبة في الاغتناء السريع أمرا مشروعا حتى ولو كان ذلك على حساب الإخلال بواجبات المحامي التي يفرضها قانون المهنة وأعرافها وتقاليدها وقيمها الراسخة. وهنا أستحضر أيضا مقتطفا ثانيا من نفس الرسالة الملكية المشار إليها أعلاه والتي ورد فيها:
“وإن من أكبر المعوقات المهنية الداخلية التي تؤثر سلبا على المحاماة ما يعرفه الواقع من مساس بأخلاقياتها وقيمها وتغليب الاعتبارات المادية على مبادئها الإنسانية السامية وهو ما يؤدي إلى الإخلال بالواجبات التي تفرضها المهنة على المحامي. فهذه الشوائب لا تمس بقدسية مهنة المحاماة فقط بل وتلقي بظلالها السلبية على الحماية القانونية المطلوب توفيرها لعموم المتقاضين. هذه الحماية التي يعد ضمانها جوهر عمل المحامي و رسالته في آن واحد”.
4-تنامي ظاهرتي السمسرة والوساطة بشكل ملحوظ، وهو ما يعود في المقام الأول لتراكم سنوات من التساهل بل وتوفير الحماية المؤسساتية لمن نهجوا هذا النهج في الممارسة و الغياب الكلي لمؤسسة التأديب التي يتعين أن ينهض بها النقباء والمجالس لدرجة أصبحت إثارة هاتين الظاهرتين في النقاش لا تحرك شعرة واحدة سواء في من يتعاطون هذا النوع من الممارسات أو في المؤسسات المهنية. لكن في مقابل ذلك تولدت فكرة يراها البعض مشروعة ألا وهي فرض التنازل عن نسبة من المبالغ / الأتعاب المتحصلة من أفعال يجرمها القانون لفائدة من يرون أنهم ضحايا هاتين الظاهرتين عوض المطالبة بالتصدي بحزم لهما واجتثاتهما واجتثات كل من اختارهما منهاجا و سلوكا في الممارسة، وبالتالي فتح الباب لكل الزملاء والزميلات القادرين على العمل في فضاء يضمن تكافؤ الفرص من أجل ممارسة المهنة بعزة نفس و كرامة ومهنية عوض فرض رسوم جمركية على ممارسة السمسرة والوساطة لتوزيعها بشكل دوري على الجميع. وهو عمل يزكي ويشرعن الفساد بمختلف صوره لدرجة أصبح من يتعاطى السمسرة يصرح بجرأة زائدة أنه ليس من حق أي كان محاسبته على أفعاله مادام يتنازل عن جزء من أتعابه لفائدة باقي المحامين. وهو كلام قيل في أكثر من مناسبة.
5- تفشي خطاب البؤس والخطاب الحاط من كرامة المحامين والمحاماة في الأوساط المهنية من خلال الترويج لشيوع بعض الحالات الاجتماعية الاستثنائية والنادرة ( زميل لا يستطيع أداء مبالغ كراء منزله، زميل مهدد بالإفراغ من مكتبه، زميل لم يستطع توفير ثمن بوطا غاز، زميل لم يستطع شراء كيلو شباكية، زميل لا يستطيع الدخول إلى منزله لأنه لا يجد مالا لشراء لتر من الحليب لأبنائه). أهاته هي المحاماة ؟ أهذا هو شموخها؟ أهذا هو كبرياء المحامي؟ وهل بالترويج لهذا الخطاب الشعبوي البئيس والمضلل سنصلح حالنا وحال المهنة ونقضي على هاته الحالات وسط المحامين؟ لا ثم ألف لا. إن وجود هاته الحالات ناذر جدا إذ تعد على أصابع اليد الواحدة وربما أقل. وإذا كانت هناك حالة أو حالتين أو ثلاثة في كل هيئة، فإنه الهيئة لا تتحمل مسؤولية ذلك. فعدم قدرة زميل على أداء السومة الكرائية لمنزله أو مكتبه ليس بسبب المهنة. والدليل على ذلك أن هناك زملاء له في المهنة أحدث منه في تاريخ الالتحاق ولا يعانون من هذا المشكل. إذن فالخلل في هذا الزميل لأنه هو من لم يستطع إيجاد النسق الصحيح لممارسة المهنة بشكل يكسب به قوت يومه دون السقوط في المحظور، بل ربما أنه مارس المهنة في وقت من الأوقات لكنه لم يستطع الاستمرار في ذلك لتغير الظروف أو لانقشاع بعض الغيوم من حوله. أو لربما اعتاد أن يتنقل من منزل إلى منزل ومن مكتب لآخر دون أداء واجبات الكراء كما يحترف ذلك البعض لأنه استطاب مجانية الكراء. ولهذا فإن هذا النوع من الخطابات لن يحل مشاكل هؤلاء بل إنه يضع المهنة في موقف لا يليق بها. فالمحامي يجب أن يظل وفيا في خطابه للغة وعزة وكرامة المحامي ولشموخ المحاماة وكبريائها و عنفوانها.
6- تغييب أهمية التكوين لدى المحامي، وهو الذي أصبح حديث كل المؤسسات. فالرئيس المنتدب للمجلس الأعلى السلطة القضائية مثلا لا يترك مناسبة تمر دون الحديث عن ضعف التكوين لدى المحامين ويقدم كل مرة مثالا بعدد القضايا التي تقضي فيها محكمة النقض بعدم قبول الطلب. وهو أمر وإن كان يثير حفيظة المحامين لكنها الحقيقة التي لا يمكن حجبها. كما أن وزارة العدل في مسودة مشروع قانون المهنة طرحت أيضا مسألة التكوين المستمر الإجباري على المحامين. وهو ما يؤكد أن هناك حاجة ماسة للتكوين. لكن الملاحظ أن نسبة كبيرة من المحامين لا يهمها التكوين ويعتبرونه مجرد مضيعة للوقت. فتجد مثلا عدد المقبلين على رحلة أو متابعة مقابلة لكرة القدم لفريق الهيئة أكثر ممن يحضرون ندوة علمية. بل هناك فئة تتحجج بتفشي بعض الظواهر كالسمسرة وغيرها وتعتبر الإقبال على التكوين دون جدوى. لكن وبكل موضوعية فإذا كانت السمسرة والوساطة واقعا تعاني منه المهنة فإن السماسرة والوسطاء لا يحتكرون مائة بالمائة من القضايا. فإذا كان عدد القضايا الرائجة في شعبتي الجنحي سير والمسؤولية التقصيرية مثلا أمام المحكمة الابتدائية بالقنيطرة هو 3000 قضية سنويا في المجموع، فإن ما يسمى بمحتكري ملفات السير لا يتجاوز عدد ملفاتهم مجتمعين 200 ملف أما الباقي فهو موزع على باقي الزملاء والزميلات الذي يمارسون المحاماة بشكل طبيعي و تصلهم هاته الملفات بالطرق العادية والمشروعة. نفس الأمر يقال عن قضايا نزاعات الشغل و قضايا التلبس والجنايات والأسرة وغيرها. أي أنه إذا كان من يتعاطون السمسرة والوساطة يحتكرون ما بين 10 و 20 في المائة من الملفات في شعبة معينة فإن 80 في المائة الباقية على الأقل تقتسم بين المحامين الذين يشتغلون وفقا للقانون. علما أن هناك شعب أخرى لا تعرف لا احتكارا ولا سمسرة كما هو الشأن بالنسبة للقضايا المدنية والعقارية والقضايا الإدارية والتجارية وقضايا الجنحي العادي وملفات الأسرة بالنسبة للزوج على الأقل، حيث ينوب فيها أغلب المحامين مع بعض التفاوت بينهم والذي تتحكم فيه ظروف ذاتية وأخرى موضوعية كالمحيط الاجتماعي للمحامي وعلاقاته الشخصية ومدى انفتاحه على المجتمع وسمعته ونوعية علاقته مع موكليه وطبيعة خطابه وشخصيته وتكوينه القانوني وغيرها. أي أن المشكل في محدودية فرص العمل لا يعود إلى السمسرة والاحتكار فقط بل إلى السمعة السيئة أحيانا أو الكسل والخمول أو انتشار الفكر الاتكالي داخل الممارسة المهنية أو ضعف التكوين أو عدم بدل العناية الكافية بملفات الموكلين. فما نصادفه للأسف في مذكرات ومرافعات بعض الزملاء والزميلات في ممارستهم يندى له الجبين لا من حيث الشكل ولا من حيث مضمون المذكرة أو المرافعة إذ لا يعقل أن محاميا قضى 20 سنة في ممارسة المهنة ومازال لا يستطيع ضبط شكليات مقال الطعن بالاستئناف أو النقض فينتهي إلى عدم قبوله شكلا أو يقدم الدفوع الشكلية بعد انتهاء مناقشة الموضوع بشكل كلي. وهنا نؤكد على أن التكوين الذاتي للمحامي وتحليه بالرغبة في تطويره قدراته واستغلال وقته فيما هو ثمين يعود عليه بالنفع في ممارسته المهنية، أصبح أمرا ملحا علما أن المعلومة القانونية أصبحت أكثر سهولة من ذي قبل. فبنقرة بسيطة على أي محرك بحث سيجد نفسه أمام دراسات ومقالات وآراء فقهية مختلفة وأمام أحدث الاجتهادات القضائية الوطنية والدولية في كل موضوع. لكن المشكل يكمن في غياب الرغبة والإرادة في تقوية القدرات الذاتية للمحامي في مجال التكوين.
نعم هذا واقعنا وواقع المحاماة اليوم الذي يتعين الاعتراف به أولا، والتفكير في سبل التمرد عليه ثانيا. فواقع المحاماة لم يعد يتحمل وجود مؤسسات وطنية ومحلية مهترئة بعقول فارغة مطبعة مع الفساد مفضلة قضاء مآربها الشخصية على حساب المحاماة والمحامين. واقع لم يعد يتحمل مزيدا من التساهل مع خرق أعراف وتقاليد المهنة، ولم يعد يتحمل مزيدا من الانحدار القيمي في السلوك والممارسة.كما لم يعد يتحمل مزيدا من التدني في مستوى التكوين.
*محام وعضو مكتب نقابة المحامين بالمغرب فرع القنيطرة