وعد الآخرة العودة من التطرف الجهادي
يتشرف موقع “الوطن24” باصدار مقتطفات من كتاب وعد الاخرة للمعتقل والكاتب عادل الحسني .
المنحة المسمومة
تسلمت المجتمعات المتدينة بالإسلام عموما خلال العقود الماضية منحة مسمومة، طوال هذه العقود صدقت بأن هويتنا من عنصر واحد، دين شامل يوجه الفرد لكل نواحي الحياة بلغة مقدسة، إغراء هذه المنحة بدأ بكونها تنهي حالة الكراهية بسبب العصبيات القبلية والإثنية وغيرها،ويكون الإسلام بذلك مخلصا سحريا من الانقسام والصراع السياسي والفكري والطائفي. لم ينته الإغراء إلى هذا الحد، وتعداه إلى أن قدمت هذه المنحة الهوياتية البديلة كخلاص حاسم من واقع الفقر واللامساواة والحروب…
أهم سم ترجعناه في هذه المنحة هي تلك العداوة المقيتة للنقد، فبسرعة تستطيع هذه المنحة النفاذ للذهن كحقيقة بديهية ومسلمة دون أي نقد، فكيف يمكن انتقاد فكرة تقول : هويتنا هي ديننا وعروبتنا! وكل حديث عن العناصر الأخرى في هوية المحلية يهاجم بشراسة بدعوى كونها دعاوى للفتنة، وأن الدين وحده كفيل بضمان الكلمة الواحدة لاستقرار المجتمع!
تملكت هذه المنحة نفسي بعد أن حظيت بالقداسة والتنزه عن النقد،ووضعت ملكة النقد فقط تجاه خصوم التسلط بالدين. كنت قارئا لشيء من الفلسفة، لكن أتمتع بالقدر الكافي من امتيازاتها الذهنية،وصرفت كل ملكات العقل لأدوات هدم الهوية المحلية التي لم تكن دينية، كانت لغتي وثقافتي وتاريخي المحلي وجهة عداوتي لصالح منحة الدعوة و الصحوة الإسلامية الوافدة من الشرق الأوسط، و ترسخ في العقل الجمعي المتدين عموما أن الهوية المحلية نزعة عصبية كريهة،وربطتُ تاريخ وطني وهويتي بالشرق العربي في حدود أربعة عشر قرنا، فصلت نفسي عن الثقافة الغربية بعد أن صنفتها كثقافة معادية،وانهيارها سيكون من انتصار الحضارة التي أنتمي لها، دبرت طبيعتي النفسية في شَقّها على خطى الحلال والحرام، وتعاظم احتكام ورمُ الإقصاء في نفسي، وأصبح لزاما كي يكون تديني مناسبا لمجمل معتقداتي هاته إضافة إلى إقرار نصوص دينية واضحة، أن أنتزع من نفسي الإقبال على الحياة و الحب والموسيقى و ربطت قيم الفن بجماليات سطحية تخدم فقط الهوية الحدّية الواحدة.
إنها المنحة الغريبة التي تقبلتها كهوية بديلة تستولي على تفكيري وسلوكي، كما استولت على تصوري للمجتمع الذي ينبغي أن يكون على نمط واحد من الاعتقاد والسلوك والمظهر، وأقصت كل مفاهيم الحياة السوية. تمكّن هذه المنحة المتطرف من تكفير العقلانيين فقط لأنه يلتزم بها في شكل قميص وقبعة سلفية مع ترديد لازمات الشيوخ، ويمكن أن يحصل على تبرير وتأييد واسع للعنف الذي يمكن أن يمارسه على من يختلف معه.
كنت في سن مثالية لتقبل المنح المسمومة، سن تشكل الرغبة في الانتماء لهوية قوية، سن تشكل الهواجس تجاه السلطة، سن المراهقة، استلمت المنحة في عمر شغُف بالبحث عن أي موقع معنوي قوي لتشكيل الهوية واتخاذ موقف قوي وجريء من السلطة.
تشكلت الهوية في نفسي كمراهق فالدين تعاليمٌ آخذها عن الشيوخ حول كل جزئيات الحياة، والسلطة في بلدي أصبحت بعد المنحة المسمومة مجرد مؤسسات فاسدة ينخرها فساد الابتعاد عن الدين، وكل أنواع الفساد الأخرى مجرد نتائج حتمية.
تعريف كل من الهوية والسلطة وضعني في موقع محجوب عن تحليل الواقع عقلانيا، إنها أول أعراض المنحة المسمومة التي تنزع الجهادي من الواقع و تضع ولاءه المطلق في خدمة النزعة المركزية والمتعصبة للهوية كانتماء للأمة الإسلامية في صياغات المودودي، وتعلي مقامها بشكل حدّي ومغرور على الأمم الأخرى في تعبيرات سيد قطب البديعة، منحة بمثابة عقد يرهن الحياة بمسار شبيه بمن يقرر أن يوقع بعمره لشيطان العنف والضيق دون أن يعي توابع بنود العقد على مستقبله.
قراءة هذه الكتابات السياسية/الدينية حركت توجه الفرد المولع بدعوة الصحوة الإسلامية لاتخاذ مواقف سلبية من كل زوايا الحياة، بدءا من من نفسي، إلى غاية مراكمة الكره للآخر المختلف عن ديني، ثم عن التوجه الطائفي داخل الدين نفسه، ثم عن التوجه المذهبي داخل الطائفة نفسها، وتتواصل عملية الانقسام النفسي هذه إلى أن تظهر في صراع قاتل في الواقع للحصول على الشهادة.
تواصل تأثير سم المنحة في نفسي عبر وسائط شديدة الفعالية غير القراءة، خطبة الجمعة، برامج الفضائيات في ذلك الوقت، و وقوع أحداث حركت في تفكيري كل عناصر التطرف التي أخذت مكانها في نفسي وتنتظر الانطلاق على الأرض، مثل خبر في حجم احتلال العراق.
منحة تجعل من الجاهل عالما يحصل على تقدير المجتمع لأنه يقدم نفسه كحارس للهوية في مقابل المهدديين لها، ويسهل عليه اقتناص التأييد بمجرد أن يتهم خصومه بالإباحية والعمالة للغرب.
إنها المنحة الموهوبة للمجتمعات الضعيفة فكريا بعد عقود من تعريب التعليم والإعلام، وبالتالي جعلاها سوقا رائجة للدعوة الإخوانية والسلفية. تلقفت المنحة نفس جمعية ضعيفة، التهمت التفاحة المسمومة وأنزلتها من الفهم العاقل للحياة إلى أرض متوحشة مغمورة بالتوجيهات المتعصبة، ليحال الفرد ملكية لتسلط السلطة الدينية المفرقة بين المؤسسات الرسمية و الأحزاب الدينية التي تعتاش على الانتخابات، أو جماعة عنيفة أو من تستعد لخوض العنف.
إغراء المنحة المسمومة كامن أيضا في لذيذة ومريحة، تلغي ضرورة التفكير العقلاني النسبي القاسي على مجتمعات تتوق للحلول السريعة. نجد ذلك في كل خطابات استغلال الدين والقضية الفلسطينية وغيرها من قضايا “الأمة”، ولفظ الأمة كان دائما منحة مجانية لشكل يشبه تعاونية من المجتمعات المهزومة من أجل أن تصدق أنها ليست ضعيفة،ولا ينقصها سوى العودة للأصل الممنوح والخارج تماما عن الهويات المحلية التي تم التنكر لها رغم غناها. هذا التنكر للذات تم لأنه ضروري للحل، وكون أن الإسلام هو الحل. لم تصل هذه المجتمعات للحل، ووجدت نفسها تهاجم بشراسة إرثها التاريخي واللغوي. وحين أفلس هذا الخطاب الإقصائي لجأت الحركات الإسلامية إلى استخدام عناصر الهوية المحلية لصالحها.
كانت الخطابات الإسلاموية تلتجئ إلى الاعتراف بالمغاربة كمغاربة وأمازيغ فقط إذا انتصروا لتنظيمات الإسلام السياسي في مسيرة ما، أو كثروا صفوف المقاتلين في ساحات القتال، يمكن ملاحظة ذلك في الخطابات السياسية للحركات التي تمتدح الأمازيغ فقط لكونهم أسلموا وحسن إسلامهم، ويسمح للجهادي باستعمال كنية مشرقية إلى جانب كونه أمازيغا؛”أبوفلان الأمازيغي”، فتندثر هوية المغربي أمام المنحة الحضارية التي يراها عظيمة، وبعد تجلي الحقيقة، حقيقة أنها منحة للاستغلال، تفاحة النزول والتنازل عن الذات الحقيقية، مصيدة للتجنيد من أجل القتل بالوكالة، أو الصراخ في الاحتجاجات بالوكالة، بعد أن تنجلي هذه النتيجة تزيد هذه القوى الدينية من الاعتراف بالمكونات المحلية لأتباعها للحفاظ على ولائهم. والحاصل أن الاعتراف المتزايد بالهويات المحلية للشعوب المتدينة بالإسلام من لدن الحركات الدينية يتوسع في إطار الحفاظ على مشروع التسلط العام، وليس اعترافا ينم عن مراجعات فكرية كما يروج العديد من الباحثين.
صرّفت المؤسسات الدينية الرسمية وقادة الإسلام السياسي والشيوخ هذه المنحة دون تقييم نتائجها على واقع سلوك المجتمعات، ودون ربطها بارتفاع معدلات التطرف. هذا التصريف مستقر في بث أفكار الإقصاء بوتيرة أكثر فعالية وسرعة بالسماح للمنح المالية الكبيرة و الراوتب مادية شهرية منتظمة لوسطاء رعاية دور القرآن الذين يفتحون مزيدا من القلوب المؤمنة من أجل توظيفها في مسار الاستغلال.
تقدم المنحة المسمومة كأفكار ومعتقدات ونظم قيم للمجتمعات التي حُرمت تعلم تاريخ هويتها المحلية وحُرمت نِعَم تعدد اللغات، واختار أصحاب المنح الوقت المناسب ليسري سم المنحة في جسد المجتمعات،تعليم متخلف وإعلام متخم بالوعظ المتعصب سرى في أوصال الوعي حتى أُقفل عن استخدام أبسط بديهيات العقل النقدية.
هذا ليس حكمي، إنه حكم هذه “الأمة” نفسها، وعلى نفسها، فحين تفشل بقيادة الإخوان أو الجهاديين أو غيرهم تقول بشكل واضح إن الفشل تحقق بتأثير خارجي، ويسهل على الممنوح التبرؤ من المانح واتهامه بأنه أداة في يد الخارج، ويحلو لها العودة للمستبد الأول حين يفشل مشروع المستبد الثاني، فحسن البنا بعد أن وحد الملايين حول الخلافة أصبح مع أتباعه اللاحقين في نظر المجتمع المتحسر اليوم على فشل المشروع أداة للخارج، كذلك أصبح بن لادن وقادة الجهاديين بعد تراكم القتل والتفكك في نهاية القصة.
قد يتنازل المجتمع عن حكامه، لكن يصعب أن يستغني عن المنحة،لأنها تحكم إدراكه للعالم والواقع وتحقق له ارتياحا دون جهد، وتركها مؤلم. كنت كجهادي نسخة مركّزة من المجتمع !
ولكن الذي لم يكن في حسبان الشيوخ والمتاجرين بالدين أن الوصول المنحة ليست تعاليم توضع في قلب المؤمن فيصبح وديعا خاضعا لتمرير مشروع التسلط بالدين، أنها منحة تعبر عن مسار يبدأ بالتدين الجميل وينتهي إلى لحظة الاستشهاد، هي لحظة لاختبار وعد الآخرة،و إنها ترياق الشفاء من المنحة المسمومة لكل محظوظ اقترب من الموت وعاد من المنحدر بيقين آخر وحياة أخرى.
سيعترض بعض المؤمنين طبعا على هذا القول بكون الاستشهاد لا يختبر صدقه إلا بعد الموت، وهذا صحيح، ولكن هناك معطى صحيح قبل الموت؛ وعد الآخرة كان دائما في النصوص مرتبطا بوعد يتحقق في الحياة الحاضرة، وعد يحكي شفاء صدر المؤمن بتحقق هزيمة الآخر،وكانت أشرطة فيديو الجهاديين تحاول عبر أكاذيب المسك الفواح من قتلى الجهاديين أكثر ما يغري الشباب بوعد سيتحقق في الحاضر،ولم يكن يجرؤ مسلم واحد ومن أي تيار أن يشكك بعقله في أكاذيب الجهاد الأفغاني عن ظهور الملائكة وروائح المسك وسقوط الطائرات ببنادق المجاهدين البدائية !