حينما تساءل الوطنية النخبة السياسة: نحو بناء جماعي للوطن

نص الدستور المغربي والقوانين ذات الصلة على دور الأحزاب السياسية والجمعيات في المساهمة الى جانب الدولة ومؤسساتها في الرقي بالتدبير العمومي من خلال صنع ومراقبة السياسات العمومية، ووضع البرامج التنموية، ثم تأطير المجتمع وخاصة الشباب (الفصل 7 والفصل 12 من الدستور) باعتبارها وسيطا او مؤسسة وساطة بين المواطن وصانع القرار. هذا الدور ليس مجانا، بل هناك اموال او تمويلات وامتيازات تقدم للأحزاب السياسية، مع رصد الكفاءات والخبراء للقيام بأدوارها.

معلوم ان المجتمع يمر بالعديد من المحطات التي تعرف تغيرات ومستجدات تفرض مواكبة النخب السياسية لها بكل الوسائل المتاحة التي يضمنها الدستور والقانون. نعم هناك اعطاب واختلالات منذ سنوات، لكن المسؤولية تفرض على الحكومة والاحزاب العمل على مواكبتها بما تتوفر عليه من اليات. في المغرب تعيش الحكومة والاحزاب السياسية في منطقة الراحة دون ان تأبه لحاجيات المجتمع ومطالبه المتزايدة، ودون استشراف مستقبلي لتدبير الشأن العام الوطني، وهذا مرده الى غياب التواصل مع المواطن، وحتى الركون الى الاتكالية والانتظارية كما جاء في الخطاب الملكي. 

إذا كان دور الأحزاب السياسية والجمعيات هو المساهمة أولا في تدبير الشأن العام الوطني والترابي، ثم العمل على تحقيق الأهداف التنموية عبر ممثليها ومنتخبيها مركزيا ولامركزيا، وكذا العمل على تنشئة الشباب على قيم المواطنة والمشاركة الفعالة في تدبير الشأن العام، فإن دور هؤلاء الفاعلين متصل بتفعيل أدوار هم عبر البرامج الهادفة، والقيام بالأنشطة المتعلقة ببناء قدرات المواطنات والمواطنين من وعي وتثقيف، وخلق تلاحم وطني وجمعي يضمن استقرار المغرب، فضلا عن ممارسة الدبلوماسية وبناء علاقات ولوبي قوي للدفاع عن مصالح المغرب بشكل رسمي او غير رسمي.

تتوفر الاحزاب السياسية والجمعيات على هياكل مختلفة خاصة الشبيبات الحزبية التي تضطلع بدور كبير نيابة عن الاحزاب والمسؤولين المنتمين لها في استقطاب الشباب وتاطيرهم سياسيا وتوعيتهم قيميا، لانها القاعدة الاساسية لكل حزب سياسي من اجل توسيع المشاركة الحزبية وبناء الخلف. غير ان الواقع هو اتساع الفجوة بين الشبيبات والشباب خاصة ببعض المناطق النائية والمهمشة وحتى المدن، لأنها دورها يقتصر على التركيز على المدن الكبرى، مع استهداف بعض الشباب بمعايير مختلفة بعيدة عن الكفاءة والمساواة والرغبة في خدمة المصلحة العامة.

إن طريقة عمل الأحزاب السياسية والجمعيات داخل المنظومة برمتها سواء من حيث التاطير او من حيث الادماج والاشراك، لا ينم بصلة للدور المنوط بهم، بل ساهم في خلق فجوة ما بين هؤلاء الفاعلين وبين المواطن وخاصة الشباب، وهو ما يتضح حاليا من مظاهرات واحتجاجات رافقتها اعمال عنف وتخريب تضع دور التأطير الحزبي موضع تساؤل؟

ان السنوات السابقة والوضعية الحالية التي يمر منها المغرب تبين أن الأحزاب السياسية مجرد تنظيمات تدار لحساب مصالح شخصية سياسية ضيقة، ساهمت في اتساع الهوة بين الشاب والسياسة والشأن العام، كما أن سكوت وتراجع دور الاحزاب السياسية وحتى الجمعيات عن القيام بمهام التأطير والوساطة بين المؤسسات والمواطنين يجعل باقي المؤسسات في اصطدام مباشر مع هذه المطالب والتعبيرات الجديدة.

وجاء في عدة خطب ملكية أن الاحزاب السياسية وغيرها من الفاعلين الاخرين مطالبين بتفعيل ادوارهم، لأن الحركية والتطور الذي يعرفه المغرب في جميع المجالات لا يواكبه تطور أدوار الفاعلين السياسيين حيث أكد جلالته: …فالتطور السياسي والتنموي، الذي يعرفه المغرب، لم ينعكس بالإيجاب، على تعامل الأحزاب والمسؤولين السياسيين والإداريين، مع التطلعات والانشغالات الحقيقية للمغاربة…” كما أكد جلالة الملك على ضرورة تعزيز العمل الجماعي والروح الوطنية بعيدا عن الانتهازية السياسية والانتظارية السلبية، وتوحيد جهود المغرب في تعزيز فرص النمو والتنمية، وتقوية الروابط بين مختلف فئات المجتمع المغربي بدل التفريق والاقصاء مع استحضار جلالته: “…فالمغرب يجب أن يكون بلدا للفرص، لا بلدا للانتهازيين. وأي مواطن، كيفما كان، ينبغي أن توفر له نفس الحظوظ، لخدمة بلاده، وأن يستفيد على قدم المساواة مع جميع المغاربة، من خيراته، ومن فرص النمو والارتقاء. والواقع أن المغرب يحتاج، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى وطنيين حقيقيين، دافعهم الغيرة على مصالح الوطن والمواطنين، وهمهم توحيد المغاربة بدل تفريقهم؛ وإلى رجال دولة صادقين يتحملون المسؤولية بكل التزام ونكران ذات…”.

لا تعتمد الاحزاب السياسية والجمعيات على الية التواصل السياسي الحزبي والجمعوي بالشكل المناسب وخلال ولاياتها الانتخابية، إذ يمكن القول أنه تواصل موسمي أي أن العملية الاتصالية تزدهر بشكل أكبر خلال الاستحقاقات الانتخابية، فمنهم من يركب على بعض الاحداث الفجائية، أو عند تدبير بعض المشاريع التنموية، ومنهم من يبقى خارج هذا النسق  الاتصالي، وقد سبق أن ذكر الملك في خطبه الملكية بأنه: “… فعندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون، إلى الواجهة، للاستفادة سياسيا وإعلاميا، من المكاسب المحققة. أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه...”

لقد اصبحت الاحزاب السياسية والجمعيات مجرد آلة تستهلك ولا تنتج، بل أكثر من ذلك يمكن اعتبارها عبئا على كاهل الدولة خاصة فيما يتعلق بالدعم العمومي المقدم لها من الميزانية العامة. كما أنها تشكل مجالا مفتوحا لإنتاج الكسل ونخب مترهلة تراكم الثروة، وتغيب فعالية ردود فعلها اتجاه الازمات والمشاكل.

إن الواقع الحالي بالمغرب يُساءل جدوى اعتماد الاحزاب السياسية والجمعيات، لأن عدم التفاعل مع الاحداث والازمات يؤدي الى وضع البلد في طريق أو افق مسدود، إذ بدون مؤسسات كالأحزاب السياسية أو الجمعيات لا يمكن تحقيق الاهداف المسطرة سواء على مستوى التدبير أو التنظيم أو التنمية، فحب الوطن ليس شعارا يرفع، بل عهد يترجم الى عمل وتضحية كما قالها الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه.

فعند وقوع أزمة أو مشكلة وتدعو الحكومة الى فتح باب النقاش من داخل المؤسسات، وعندما تعترف بعض احزاب الاغلبية بالفشل، فان ذلك يعبر عن غياب التكامل في العمل الحكومي وعدم قيام بعض القطاعات بواجبها، وغياب التنسيق بين مختلق القطاعات الاخرى في إطار التضامن الحكومي. كما أنه يعبر عن فشل هيئة الاغلبية التي تديره الحكومة “كلَّ يلغي بلغاه”، وبالتالي فإن المصاب والجريح هو المصلحة العليا للوطن.

للأسف أصبح تحمل المسؤولية ساحة ومجالا خصبا لتراكم الثروة والنفوذ، واصبحت الوطنية حافلة تركبها النخب الفاشلة وغير المؤهلة لخدمة الوطن، فقط تلك التي تروم خدمة أجنداتها الخاصة أو لخدمة مصالح فئوية بدل تحقيق المصلحة العامة، إن هذا الوضع العقيم وغير السليم أدى الى البيئة الحالية المتسمة باحتقان بين المواطن وخاصة الشباب والمؤسسات السياسية والأمنية، وعلى أساس ذلك، أصبح دور الاحزاب السياسية وحتى الجمعيات مرفوضا من طرف المواطن، وهو ما يؤدي الى العزوف عن المشاركة السياسية، وأحيانا فقدان الثقة في المؤسسات، والديموقراطية ككل.

ولهذا، ظل تجمع الشباب وتواصلهم في مواقع الكترونية “ديسكورد” بعيدا عن المؤسسات الشرعية والمهيكلة لذلك، لأن الاحزاب السياسية وشبيباتها والجمعيات لا تقوم بالأدوار المنوطة بها دستوريا واخلاقيا في ظل عدم وجود أي فرص للإدماج الحقيقي والفعال لنخب شابة من الهامش أو خارج دائر الأقرباء أو العائلية الحزبية التي أصبحت تخضع لقانون حديدي أوليغارشي يخدم مصالح القلة داخلها وفق التوصيف الذي قدمه روبرت ميشلز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *