فرنسا: ضغوط اليسار تضع ماكرون أمام اختبار التوازن السياسي.

تتجه الأنظار في فرنسا نحو قصر الإليزيه، بعد أن دعا الأمين العام للحزب الاشتراكي، أوليفييه فور، الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تعيين شخصية يسارية على رأس الحكومة، في خطوة تعكس تصاعد الضغط السياسي على الرئاسة عقب الانتخابات التشريعية التي قلبت موازين القوى داخل الجمعية الوطنية.

هذه الدعوة لا تأتي من فراغ، إذ أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة تراجع المعسكر الرئاسي وفقدانه للأغلبية، مقابل تقدم واضح لتحالفات اليسار، وعلى رأسها الجبهة الشعبية الجديدة التي تضم الاشتراكيين والخضر والشيوعيين. وهو ما جعل المشهد السياسي الفرنسي يدخل مرحلة “تعايش قسري” بين مؤسسة الرئاسة ومجلس نيابي متنوع التوجهات.

وأكد أوليفييه فور أن “البلاد بحاجة إلى رئيس وزراء يجسد التحول الاجتماعي المنشود، ويترجم رغبة الفرنسيين في العدالة والمساواة”، مضيفاً أن “أي تجاهل لتوجهات الرأي العام سيكون خطأً سياسياً جسيماً”. ويرى مراقبون أن هذا الموقف يعكس تحوّلاً في خطاب الحزب الاشتراكي نحو الدفاع عن دور الدولة الاجتماعية بعد سنوات من السياسات الليبرالية التي عمّقت الفوارق الطبقية وأضعفت القدرة الشرائية للأسر الفرنسية.

من جهته، يبدو الرئيس ماكرون متردداً في تقديم تنازلات سياسية قد تُفسَّر كاعتراف بضعف سلطته التنفيذية. فاختياره لشخصية يسارية لرئاسة الحكومة قد يضمن له هدوءاً مؤقتاً داخل البرلمان، لكنه في المقابل قد يهدد تماسك معسكره الوسطي ويُحدث شرخاً داخل تحالفه الحاكم.

ويرى متتبعون أن فرنسا تعيش اليوم لحظة دقيقة تشبه إلى حدّ كبير مرحلة “التعايش السياسي” التي عرفتها البلاد في ثمانينيات القرن الماضي بين فرانسوا ميتران وجاك شيراك. غير أن السياق الحالي أكثر تعقيداً، مع تصاعد الغضب الشعبي وارتفاع نسب البطالة وتراجع الثقة في الطبقة السياسية.

وفي ظل هذا المشهد المتوتر، يجد ماكرون نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانفتاح على يسار معتدل لتشكيل حكومة توافقية، أو الإصرار على نهجه المستقل والمخاطرة بالدخول في أزمة سياسية طويلة الأمد قد تُضعف موقعه داخلياً وأوروبياً.

ومع تصاعد التحولات السياسية في أوروبا، لا تبدو فرنسا استثناءً. فصعود اليسار في باريس يتقاطع مع موجة أوروبية متنامية تميل إلى إعادة الاعتبار للسياسات الاجتماعية والاقتصاد التضامني، كرد فعل على التفاوتات التي أفرزتها الليبرالية الجديدة. من مدريد إلى برلين وروما، تشهد القارة العجوز عودة النقاش حول دور الدولة في حماية الفئات الهشة وتوجيه الاقتصاد نحو العدالة الاجتماعية، ما يجعل التجربة الفرنسية القادمة اختباراً حقيقياً لمستقبل التوازن بين الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية في أوروبا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *