الحداثة الرشدية: تفكيك مفهوم الرشد
الوطن 24/ بقلم: ذ. كمال القصير
– إن مبدأ الرشد أحد المقاصد الكبرى للتفكير الإسلامي، كما أن “تحرّي الرشد” مقصد نبّه إليه القرآن. حيث إن العناية بالمفاهيم القرآنية عنصر محوري في بناء الحداثة الراشدة، فمن ناحية البناء القيمي يرتبط الرشد بأصل الدين نفسه وطبيعة مسؤولية الاختيار الإنساني الأول لنظامه القيمي، بين الرشد والغي، بين الحرية والإكراه. ويشكّل مبدأ الرشد أداة رقابة عقلية وعملية تتيح قياس ومراجعة متواصلة للإنتاج المعرفي والسلوك الاجتماعي والسلطوي. وإذا كان مبدأ الرشد مكتملا من الناحية الإسلامية فإن غياب الفعل الإبداعي يوقع الكثيرين ضمن تعقيدات متابعة الحداثة و ما بعد الحداثة السائلة. إن الرشد ليس مفهوما زمنيا منحصرا في فترة أو طبقة بل ممتدّ عبر مفاصل الإسلام وأركانه، وهو خروج من حالة القصور الفكري والاقتصادي والسياسي والسلوكي إلى حالة الرشد في كل تلك المجالات. وهو إطار تفسيري ومرجعي يحلّ تعقيدات كثيرة في التعامل مع مسألة الحداثة وما بعد الحداثة. حيث يرتبط الرشد بمفهوم التجديد وضرورته في الفكر الإسلامي. إن الحاجة ملحّة لعامل” مفجّر” بلغة الفيزياء لتوسيع فاعلية مبدأ الرشد، ذلك المبدأ والمفهوم الحيوي الدينامي الذي يمثل مرحلة ودورة النضج في حياة الإنسان والفكر والحضارة، والذي يتناقض مع حالة موت الحضارة والأفكار.
– في خضم الصراع الحالي بين الثقافات والمجتمعات، يبدو الرشد كمبدأ إسلامي يمثل حالة النموذج paradigm وأحد المفاهيم والإمكانات المركزية الكامنة، التي وإن كانت ذات فاعلية في النظام المفاهيمي والتطبيقي الإسلامي إلا أن توظيفها يتمّ في نطاق ضيق وضمن دوائر محدودة في التنظير للحداثة الإسلامية، أو التي من باب أولى يمكن تسميتها الحداثة الراشدة. وباعتبار مبدأ الرشد نموذجا وجب التأكيد على أن” النماذج تخدم وظائف مهمّة وهي تحديد القوى المحرّكة في الأنظمة والعلاقات والبنى المفهومية، وتعطي هذه القوى الأنظمة والأبنية نظاما معيّنا للأشياء”[1].
– وقد كان مبدأ الرشد بلا نزاع ينتج بشكل متواصل ممارسات نموذجية في الفكر والاقتصاد والسياسة والعمران داخل المجال الحضاري الإسلامي، رغم كل ما يمكن إيراده من اعتراضات تفصيلية، وما يجعل من مبدأ الرشد نظاما نموذجيا هو قابليته للفشل حينا ونجاحه غالبا، وفاعليته في غالب الأحيان ونقصها أحيانا.
– إن الحداثة الراشدة لم تعد تمثّل بديلا للحداثة الغربية فحسب، بل علاجا وحلاّ للآثار السلبية للحداثة الغربية، لمشكلاتها البيئية والاجتماعية والنفسية والروحية، التي باتت مشكلة إنسانية. لقد بات مبدأ الرشد في حاجة إلى إعادة تموضع ضمن الفكر الإسلامي وأدوات ومناهج اشتغاله. ذلك أن السعي نحو تحقيق مبدأ الرشد في المجال الإسلامي هو محور تحديث البنى الفكرية وسلوك المجتمع والسلطة، وصولا إلى طبيعة الإسهام والآداء الحضاري الإسلامي. وكلما تمّ الاقتراب من تحقّق مبدأ الرشد كانت عملية التحديث والتجديد تمضي بخطى أسرع. ذلك أن الرشد هو روح الحداثة الإسلامية، وهو ما يستلزم منهجيا الوقوف عند عدد من عناصره وسياقاته، لاستكشاف ما يمكن أن نطلق عليه الحداثة الراشدة.
– يخترق مبدأ الرشد في النظام المعرفي الإسلامي الأنظمة المفاهيمية والأبعاد الفكرية ونمط السلوك الحضاري، وهو بذلك يمثّل جوهر حركية ودينامية العقل المسلم. حيث تعتبر صفة الرشد عنوانا لبلوغ أعلى مستويات الإدراك والوعي الفردي والجماعي لطبيعة الأهداف والأدوار المطلوبة ضمن سياق أعمّ هو السياق الحضاري. ولذلك فإن لهذا المبدأ تاريخا فكريا وسياسيا واجتماعيا متطورا ومتحوّلا، لم يعرف انقطاعا زمنيا، فهو متى ما غاب عن المجتمع وجدناه في سلوك السلطة، ومتى غاب الرشد عن السلطة تحقّق في آداء المجتمع وأنماط الإبداع والمناعة بداخله كما أظهرت التجربة التاريخية للمسلمين، ومتى غاب عن السلطة تجسّد في أدوار العلماء والعكس صحيح كذلك، ومتى غاب عن التجمعات المحدودة تجسّد في المنتج الحضاري النهائي.
– إن الرشد ليس مفهوما زمنيا، ولذلك ورد ذكره في الأمم السابقة، كمؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف، فهو خاصية تتجاوز التوظيف البشري لتكون مصطلحا تداوليا في العالم الغيبي أيضا، فقد وصف الجن وظيفة القرآن الأساسية بقولهم: “إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فأَمنا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا”[ الجن، الآية: 1-2]
– إن الرشد كمبدأ ومنتج للإسلام لم يبدأ مع فترة الخلافة الراشدة، ولم يرتبط بها عضويا وإن كان أهم تجلياتها، بل إن بدايته هي بداية الإسلام نفسه كدين راشد. ومن منطلق لازمنية الرشد أمكن اعتبار أن نهاية الفترة الزمنية للخلافة الراشدة لم يكن نهاية الرشد وتجلياته، بسبب التحولات الكبيرة التي عرفها الاجتماع الإسلامي في أنماط العيش والحكم، بل امتدّ هذا المفهوم حاضرا ومؤثرا في صيغ حضارية وعلمية ومجتمعية مختلفة، وهو ما يسمح بالقول إن الرشد قد استمر نمطا إسلاميا حضاريا، وإن كان هذا المبدأ قد تضرّر في مراحل مختلفة وبمستويات متباينة، سواء من ناحية الممارسة من جانب السلطة التاريخية، أو من جانب المؤسسة العلمية والإشكالات التي ارتبطت بها. ولذلك فإن ربط غياب أو نهاية حالة الرشد بغياب الخلفاء الراشدين وانقضاء فترة الخلافة الراشدة يعتبر تفسيرا قاصرا عن إدراك معنى الرشد، فلا يوجد ما يخصص الرشد بالأشخاص أو جيل بعينه ولا بالزمن حصرا. ولم توصف الخلافة الراشدة بهذا الوصف لكون الخلفاء كانوا راشدين فحسب، وإنما لكون ذلك النموذج السياسي والقيمي قد جاء مواكبا لمرحلة ارتقاء ورشد حضاري وفكري عام للمجتمع والسلطة معا، حيث غلبت القيم المعيارية في تلك المرحلة.
– وعلى مستوى التجربة التاريخية يمكن الحديث عن حداثة أموية وأخرى عباسية، إلا أن الحداثة في الفترة الأموية كانت أكثر تسييسا في منحاها العام، في حين غلب على الحداثة العباسية جدل العلاقة بين الفكر والسلطة ونتج عن ذلك تحولات هائلة في المسار المعرفي للحضارة الإسلامية، لكن مع اتساع العمران. فقد وجدت في تلك الحقب عناصر كثيرة للحداثة الفكرية والعلمية والثقافية والعمرانية وعرفت بناء بيت الحكمة وترجمة الفكر الحضاري، وعرفت ذروة علوم الكلام وبداية الفلسفة الإسلامية، وتثبيت المذاهب الفقهية واتساع رقعة التدوين والإبداع الأدبي والإنساني، وفي العلوم التجريبية والعمارة كذلك.
– وقد مال كثير من الباحثين أثناء دراستهم لفترة الخلافة الراشدة إلى تركيز تنظيراتهم وتقييمهم حول محور “الخلافة” أكثر من بحثهم وتركيزهم على محرّكها الأساسي ومحرّك السياق المجتمعي الذي اشتغلت ضمن تأثيراته وهو مبدأ الرشد. ولذلك تعدّدت مداخل التقييم والانتقاد والتفكيك المنهجي للخلافة وما لحق بها من تحوّلات، أكثر من تعددها حول دينامية مبدأ الرشد وتحوّلاته. والأمثلة على ذلك كثيرة من بينها تقييم الفيلسوف الراحل محمد عابد الجابري لانهيار الخلافة بسبب ما أسماه الثغرات الدستورية لنظام الخلافة.
– لقد بات تجذّر فكرة الرشد في عمق مشاريع الفكر الإسلامي حاجة متنامية. ويبدو مهمّا لهذا الفكر التمييز بين مبدأ الرشد والخلافة المرتبطان بشكل آلي في العقل المسلم، ذلك أن التمسك بمبدأ الرشد وتوسيعه من الناحية الوظيفية، واستثماره في المعرفة الإسلامية أكثر نفعا وأقوى منهجيا من تركيز كل التنظيرات حول قضية الخلافة. ذلك أن أهمّ ما يمكن توليده في الوقت الحالي من نموذج الخلافة الراشدة من الناحية المعيارية هو قدرتها على المصالحة بين المجالين الديني والزمني، حيث إن الأصل الذي بني عليه نموذج الخلافة الراشدة هو فكرة الحفاظ على تواصل واستمرار النموذج النبوي. وإذا كان نموذج الخلافة قد ترك إرثا من الممارسات والمبادئ الراشدة سياسيا وقيميا، إلا أن ذلك النموذج لم يترك مؤسسات وأدوات معيارية للقياس عليها، وتمثل في آن واحد التطبيق المؤسسي لمبدأ الرشد، فبقي هذا المبدأ نتيجة توظيفه الضيق حبيس مرحلة ونماذج معينة.
– إن مبدأ الرشد أحد المقاصد الكبرى للتفكير الإسلامي، كما أن “تحرّي الرشد” مقصد نبّه إليه القرآن، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا: الجن (14. وليس الرشد مرادفا لأي بناء سياسي محدّد أو شكل اقتصادي أو بنية فكرية معيّنة، بل منهج عام وسلوك في الحياة يمكّن في الزمن الحاضر من التخلص من المخزون الهائل للأفكار الميتة المتراكمة عبر التجارب التاريخية المتعاقبة، ولذلك تتيح هذه المقاربة المعيارية تجاوز قيود البنية وخصوصيات الزمن والمكان والأشكال في الكشف عن هذا المبدأ وتوسيع مجالات توظيفه. فقد بات الرشد القيمي والفكري والسياسي تحدّيا وحاجة أساسية لتطور المجتمعات الإسلامية التي تسعى للتقدم في ظل المحافظة على خصوصياتها المعرفية.
– إن الحاجة ملحّة لعامل” مفجّر” بلغة الفيزياء لتوسيع فاعلية مبدأ الرشد، ذلك المبدأ والمفهوم الحيوي الدينامي الذي يمثل مرحلة ودورة النضج في حياة الإنسان والفكر والحضارة، والذي يتناقض مع حالة موت الحضارة والأفكار. ويعتبر مالك بن نبي أحد الذين قدّموا تفسيرات دقيقة في مجال موت الأفكار، حيث يميّز بين مستويين، أولا “الفكرة الميّتة” وهي التي خذلت أصولها وانحرفت عن مثلها الأعلى، ولم يعد لها جذور في محيط ثقافتها الأصلي. وثانيا “الفكرة المميتة” القاتلة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعدما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الأصلي”[2. ولذلك اعتبر أن الخطر هو” إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة، بأفكار قاتلة مستوردة من حضارة أخرى”[3]. وهذا التفسير مطابق تماما لوصف علاقة العقل الإسلامي بفكر الحداثة وما بعد الحداثة. ذلك أن” هذه الأفكار التي أضحت قاتلة في محيطها تصبح أكثر فتكا حينما نستأصلها من ذلك المحيط، لأنها بصفة عامة تترك مع جذورها التي لا يمكن نقلها ترياقا يتأقلم به ضررها في وسطها الأصلي”[4].
وعندما يشيخ الإنسان يتراجع رشده، وكذلك تفعل الحضارة إذا شاخت. ولذلك تفسيرا لمرحلة الرشد فإن مالك بن نبي يرى أن المجال الإنساني يتكون من ثلاثة عناصر متفاعلة،” الأشياء” و” الأشخاص” و”الأفكار”. حيث يمرّ الإنسان في صغره بمراحل ثلاث يطّلع فيها بداية على الأشياء ثم يتعرّف بعد ذلك على الأشخاص ثم يدرك الأفكار، وينطبق الأمر نفسه على المجتمع في تطوره الحضاري بهذه المراحل. وقد طرح بن نبي إشكالا حين اعتبر أنه ليس” المقصود في الواقع أن نتساءل لماذا توجد عناصر مميتة في الثقافة الغربية، ولكن لماذا تذهب النخبة المسلمة بالضبط للبحث هنالك عن هذه العناصر. ذلك أن ما يحدّد خيار هذه النخبة في الواقع ليس مضمون الثقافة الغربية، بل مضمون وعيها هي نفسها هو الذي حدّد خيارها”[5].
– ولذلك فإن الملاحظ لتعريفات الحداثة لدى عدد كبير من النخبة والمفكرين العرب ومدى إحاطتها بالمفهوم يجد” تهويل المفهوم حتى تبدو الحداثة وكأنها كائن تاريخي عجيب يتصرّف في الأحياء والأشياء تصرّف الإله القادر، والحال أن هذا التصوّر للحداثة غير حداثي، لأنه ينقل الحداثة من رتبة مفهوم عقلي إجرائي، إلى رتبة شيء وهمي مقدس”[6].
(*) مكونات الحداثة الراشدة وفق النسق القرآني
– قبل تركيب معنى الرشد للحداثة ووصفها به لابدّ بداية من التنبيه إلى وجود تقارب واضج بين معاني الرشد والحداثة من حيث الوضع اللغوي كما سنرى في بعض الجوانب، وإذا كان الرشد مرحلة عمرية تتميز بتفجّر القدرة الإدراكية والاختيار، فإن الحداثة في اللغة أيضا تحمل معنى المرحلة العمرية التي يصلها الإنسان، وجاء قول الله عز ووجل: فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) [النساء:6 بمعنى البلوغ بعلامته، {فإن آنستم} أي: أبصرتم{منهم رشدًا}، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين”[7]. وكما يقال عن الرشد لغة يقال عن ” حداثة السن”، وفي الصحاح ” الشباب: جمع شاب، وكذلك الشبان، والشباب أيضا: الحداثة، وكذلك الشبيبة، وهو خلاف الشيب”[8]. وفي القاموس المحيط” حدَث حُدوثا وحداثة: نقيض قدُم، ورجل حدث السّن وحديثُها بَيِّنُ الحداثة والحدوثة: فتِيٌّ “[9].
– ولذلك فالرشد والحداثة صفتان للمرحلة العمرية التي تتميز بالتوثب الإدراكي وبروز وتفجّر الاختيارات العقلية المبدعة، ومثلما ينطبق التعريف على دورة حياة الإنسان العقلية والسلوكية، فإنه ينطبق على دورة حياة المجتمع والحضارة بشكل واضح. والحداثة من ناحية الاشتقاق اللغوي تعني أيضا الإحداث والإبداع الجديد لما لم يكن، وهي بهذا الوضع منافية للتقليد، لأن مضامين التقليد واقعة وموجودة، والمقلّد يقتفي أثر غيره استنساخا لا إبداعا، في حين ينبغي أن يشير مفهوم الحداثة المعاصر إلى الإبداع والتجديد. وفي لسان العرب “حدث”: الحديث نقيض القديم، والحدوث نقيض القُدْمةِ، وحدَث الشيء يحدُث حدوثا وحَداثةً، وأَحدثه فهو محدث وحديث”[10]. ذلك أنه” لابد من اعتبار الحداثة تطبيقا إبداعيا لا تطبيقا اتباعيا، فالحداثة لا تنال إلا بطريق الإبداع، فينبغي للحداثي أن يبدع في تعقيله للأشياء وتفصيله بينها، وأن يبدع في استقلاله عن غيره، بل أن يبدع في إبداعه”[11].
– إن الإعلان عن راشدية القيم والمعايير والأفكار الإسلامية ليس كافيا وحده، بل الحاجة قائمة إلى ربطها بما يجعلها مواكبة للتحديات المعرفية، خاصة في سياق هذه السيول المتدفقة عبر المنتج العقلي الغربي فكرا وتجلياتها سلوكا. ولذلك فإن مكونات وعناصر مبدأ الرشد تجعل منه قاعدة الحداثة المطلوبة أو باختصار الحداثة الراشدة. ذلك أن مبدأ الرشد مناقض لحالة السيولة وعدم الثبات القيمي والفكري والفلسفي، وبهذا الوصف فهو يمثل قاعدة صلبة لطبيعة الحداثة المطلوبة في المجتمعات الإسلامية.
– إن الصدام العلماني الإسلامي حول مفهوم الحداثة وحدود القبول والرفض لهذا المنتج الحضاري الغربي يتخذ شكل صراع أيديولوجي رغم طبيعته الفكرية والعلمية التي لا يلتفت إليها دائما، وهو ما يفوّت فرص ترشيد أدوات مقاربة بناء حداثة محلية منفتحة راشدة، تتفادى الانسياق وراء حالة السيولة في الفكر الغربي، وهي سيولة متسارعة باتت تعقّد محاولات اللّحاق بها أو حتى تقليدها بالنسبة للمقلّدين، بسبب طبيعتها غير الثابتة، وهو ما يفسّر استمرار النقاش حول الحداثة قبولا ورفضا في الوقت الذي تتجه فيه الحداثة الغربية إلى تجاوز الأطر الفلسفية والتفسيرية الثابتة التي تسمح حتى بتقليدها في الحدّ الأدنى. إن أهم تعقيدات التعامل مع الحداثة الغربية هو السعي للاستفادة واستنبات ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية بتعبير مالك بن نبي، في حقل ثقافة وحضارة ذات جذور أخلاقية وغيبية.
– لا يكفي انتقاد أسس الحداثة الغربية لبناء حداثة راشدة، اكتفاءا بمنهج المناقضة للمفاهيم الغربية لا بناءا لبدائل مفاهيمية قد تكون مغايرة. كما أن وصف “الإسلامية” للحداثة البديل المفترض لا يفي بالغرض من الناحية الوظيفية حتى يتم تفكيك عناصره التي تبعده عن أن يكون مجرد تزيين إسلامي لمضامين حداثية معقدة، وذلك نتييجة غلبة العموم على وصف “الإسلامية” وهو الوصف الذي قد يشمل الحداثيين وغير الحداثيين على اختلافهم جميعا ضمن السياق العام، وعلى سبيل المثال فإن السلفية تعتبر نفسها مفهوما حداثيا، طالما يعتبر الرجوع إلى أفهام السلف حلاّ وأداة لتغيير الواقع الحالي وتحسينه، كما أن مدارس أخرى تعتبر نفسها حداثية طالما تعتبر أن منتجاتها وإبداعها الفكري يمثل حلّا لمعضلات الوقت الحالي، فهي بذلك ترى أن أدواتها حداثية أيضا، وبهذا الاعتبار يصبح الاكتفاء ببديل الحداثة الإسلامية أمرا غير وظيفي.
– إن العناية بالمفاهيم القرآنية عنصر محوري في بناء الحداثة الراشدة، فمن ناحية البناء القيمي يرتبط الرشد بأصل الدين نفسه وطبيعة مسؤولية الاختيار الإنساني الأول لنظامه القيمي، بين الرشد والغي، بين الحرية والإكراه. (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا) [البقرة 256]. وقد جاء الرشد في المعنى القرآني كذلك قرينا لمعنى الاستجابة المرتبطة بالإيمان (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة / 186] فلا يخفى ما في معنى الاستجابة من ديناميكية وحيوية عقلية وروحية قد تكون معها الاستجابة فردية أو جماعية وحضارية، وكما قد تكون الاستجابة لداع إيماني فقد تكون لمواجهة تحديات معرفية أمام العقل المسلم، وبذلك فإن عنصر الاستجابة أساسي في بناء الحداثة الراشدة المنفتحة.
– إن الرشد بمعنى البلوغ والأهلية للتصرف في المال وسداد الرأي، كما ورد في الآية (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) [النساء / 6]. يفتح آفاقا أكبر لتفسير البلوغ والأهلية لا بالعامل الجسمي والعقلي للإنسان فحسب، بل كذلك بمعنى أعم في بلوغ المجتمعات والمفاهيم والأفكار التي تتبناها، درجة البلوغ والرشد الذي يعقبه إنتاج لأنماط معرفية وحضارية راشدة. ولذلك يعرّف طه عبد الرحمن مقتضى مبدأ الرشد بأن ” الأصل في الحداثة الانتقال من القصور إلى الرشد، حيث يحيل في تفسير هذه الحالة على جواب الفيلسوف الألماني كانط عن سؤال حول الأنوار، بأنه عدم قدرة المرء على استخدام فكره في الأمور دون إشراف الغير عليه، والقصور هو اختيار التبعية للغير”[12].
– إن الحداثة الراشدة عملية ومسار إصلاحي متواصل بكل مستوياته، سواء تعلق الأمر بالفرد أو المجتمع أو الدولة أو الأمة، (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) الأعراف: 146] والمقصود هنا بسبيل الرشد طريق الصلاح.
– إن قيمة المعرفة والعلم مرتبطة بمدى الرشد الذي يتحقق في منتجاتها وخلاصاتها، والحقول التي يمكن تطبيقه من خلالها مراعيا للأنظمة القيمية، (قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) الكهف/ 51. قال الزمخشري ” رَشَدًا أي علما ذا رشد”[13]. وفي هذا إشارة إلى أهمية ارتباط العلم بالرشد.
– إن الحداثة الراشدة لابد أن تحمل صفة النفع للمجتمع بكل مكوناته، و هو المعنى الذي يمكن اسنتاجه من نقيض الرشد وهو الضرّ والإضرار. (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) [الجن / 21]. ولتكتمل صورة الرشد كما صوّرها القرآن، كان ضروريا التنبيه إلى ما يكمّل هذا الرشد من سورة الرشد الأولى سورة الكهف، وهو محلية وذاتية اتباع أسباب المعرفة، ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَاتّبَعَ سَبَبًا﴾ الكهْف:84-85
(*) تفعيل مبدأ الرشد وإمكانات الحداثة الإسلامية
– يوجب الحديث عن الحداثة دائما تناول قضية التراث الذي اعتبره فهمي جدعان في كتابه” الماضي في الحاضر” مشروع الأبواب على ماض مقدّس، وملتحم بحاضر متخلّفّ”[14]. ذلك أن فكرة الحداثة والتحديث في المجال العربي والإسلامي لازالت محتفظة ببذور “مشكلة النشأة وأسبابها”. ولم يبدأ النقاش حول الحداثة جوابا لتراكم الأسئلة الفلسفية والمعرفية وتطورا طبيعيا للمجتمعات الإسلامية، بقدر ما كان تعبيرا عن الوعي بعمق الهوّة الملاحظ بين العالم الإسلامي والغرب المتقدم والمنتج. إن بداية إشكالية التعامل مع الحداثة الغربية يرجع ببساطة إلى الفترة التي تمكّن فيها الغرب الأوربي في القرون الماضية لظروف وتراكمات خاصة به، من إبداع أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية أحدثت فعاليتها العالية تأثيرا وجاذبية في المجالين العربي والإسلامي، ونتج عن ذلك بشكل غير محسوب بروز تفسيرات ثقافية وأديولوجية لأسباب القبول وأسباب الرفض وسبل اللحاق بها، صاحبه إغفال الميدان الحقيقي للحداثة وهو العلم والتقنية.
– إننا بإزاء متابعة الحداثة وهي في مرحلة الاستخدام المفرط للتقنية والعقلنة المحكومة بقيم المنفعة. وسعيا وراء حداثة متحوّلة وسائلة فقد” أفرطنا في البحث عن ملامح التشابه بين حداثتنا وحداثات الآخر، بما جعل الآخر الإطار المرجعي في كل الأصول، وجعل من إنجاز حداثتنا انعكاسا لصورة هذا الأخر في أغلب الأحيان”[15]. وهذا ما يجعل فكرة الحداثة تتخذ طابع الإشكالية لا الحل.
– ولذلك مهما تعددت الدعوات إلى القراءات التأويلية للتراث سعيا لمواكبة الحداثة فلن يكون الأمر ذا فائدة، طالما بقي النقاش ذا طابع ثقافي وأيديولوجي بعيد عن محور الحداثة العلمي التقني، كما لا يمكن اعتبار علمنة النص الديني حلاّ لإطلاق موجة التحديث. وقد عرف التاريخ العلمي في الإسلام عددا من القراءات والتأويلات المتعددة للنص الديني، إلا أن تلك القراءات القديمة أو المعاصرة من منطلق التأويل لم تكن يوما سببا للتحديث أو لتغير نمط الآداء الحضاري الإسلامي. فلم تكن لها تلك الفاعلية إلا في لحظات ارتباطها بالسلطة وتبنيها لها كما كان الحال بالنسبة للمعتزلة في العهد العباسي، والتي لم تكن تأويلاتهم إلا لتضيف انقساما حادا في المعرفة الإسلامية. وبذلك فإن الحداثة الإسلامية خاضعة لعوامل أخرى علمية وتقنية واجتماعية بعيدة عن إعادة تأويل النصوص الإسلامية. فرؤية الماضي بطريقة جديدة ورؤية المعاصر بطريقة قديمة عملية متبادلة تحتاج المرور عبر قناة الرشد وأبعاده اللاّزمنية لإنتاج نموذج حضاري.
– إن عملية الانطلاق من التراث نحو الحداثة عملية معقّدة بسبب وجود أدوات التأثير والفاعلية خارج هذه العملية، حيث أدوار المجتمعات والسلطة. كما تزداد تعقيدات وصف فكرة الحداثة الإسلامية بالنظر إلى عامل التعدد والاختلاف والتنوع في الثقافات الفرعية والسلوكات التي تستمد هي كذلك من فضاء الإسلام الحضاري العام، مما يسمح بالقول إن تعدّد الحداثات الإسلامية بات أمرا ممكنا ولا يعدّ إشكالا بل قد يكون احتمالا وتطوّرا مستقبليا منطقيا، وهو ما وقع خارج الفضاء الإسلامي، حيث تعددت أنواع الحداثة بين أوربية وآسيوية وأميركية. وضمن هذا السياق تعتبر إمكانات وجود حداثات إسلامية سؤال يطرح حول مدى وظيفية مصطلح الحداثة الإسلامية بشكل عام كما ذكرنا من قبل.
– إن روح الحداثة الإسلامية هو مبدأ ” الرشد” بكل تركيباته وأبعاده، وبهذا الاعتبار فإن الرشد مفهوم محلي وحالة إدراكية اجتماعية منتجة لأنماط سلوك متفق مع المسار العام للدّين والحضارة، وهو ما يعقّد كل مساعي الاستيراد والاستجلاب الخارجي. ذلك أن الرشد المجتمعي والحضاري هو نتاج دورة حياتية تحترم طبيعة التطور في حياة الأفراد والمجتمعات، فلا تلجأ إلى الاستعانة بالآخر إلا في حال الشيخوخة، وهو كما يعتبر مشاهدا في حالة الإنسان إذا شاخ وحاجته للآخر، أمكن ملاحظته في طبيعة المجتمعات إذا شاخت في فكرها وسلوكها.
– وفي الوقت الذي مازال المجال الإسلامي لم يحسم موقفه من الحداثة يلج الغرب في ما بعد الحداثة التي مازال النقاش خارجا عنها. وهنالك ملاحظات أساسية ضرورية لتقييم وضع الحداثة الإسلامية البديلة في علاقتها بالواقع الحالي بالحداثة الغربية، ذلك أن التحولات الفلسفية الغربية أدّت إلى التجاوز الفلسفي لمقولات الحداثة التقليدية، في الوقت الذي ما تزال التنظيرات الإسلامية حبيسة مرحلة الحداثة التقليدية وغير مواكبة لمكونات الحداثة السائلة بتعبير سيغموند باومان، وقواعد تفكيك الثوابت العلمية والقيمية، أو بتعبير أكثر دقة لحظة موت الحداثة حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي ليوتار. فما بعد الحداثة اعتقاد بسقوط النظريات الكبيرة في تفسير العالم، وسقوط الأنساق المفاهيمية المغلقة حسب وجهة نظر أصحابها، وسقوط النماذج واليقينيات المطلقة.
– إذن نحن بصدد نقد عنيف لمبادئ الحداثة، في مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، أدى إلى كسر سلطة الأنساق الفكرية الكبيرة وأطرها التفسيرية. حيث تطرح ما بعد الحداثة على أدوات العلوم المنهجية الإسلامية تحدي طبيعة التأويل وأدواته، فما بعد الحداثة مرحلة تتصف بسيطرة التأويل وإعادة ترتيب المعادلة الثلاثية” القارئ، المؤلف، النص” الذي قد يكون نصا دينيا أو أدبيا أو غير ذلك. حيث انتقل الدور الأساس في التفسير إلى القارئ وصاحب التأويل، الذي من خلال تأويلاته أضحى شريكا في تحديد وتفسير مضمون النص دينيا أو على مستوى نصوص العلوم الإنسانية، وهو في الواقع يشارك في تأليف النص، فلا سيطرة للنص أو واضعه حتى لو كان دينيا، وهو مفهوم سيولة المعنى وانفتاح النصوص.
– إن الإطار العام لتعامل الفكر الإسلامي هو مبدأ الرشد الذي يعفي من الوقوع الدائم تحت سقف التفكير من منطلق الحداثة الغربية والبناء حولها قبولا أو رفضا. وبالنسبة لمحاولة الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن فإن وجود حداثة غير إسلامية يفترض بالضرورة وجود حداثة إسلامية، وهو الافتراض والمقدمة التي لم تمنع وقوعه جزئيا في شراك المحاكاة التي يجتهد بشدة في التصدّي لها، كما هو واضح في كتاباته، إلا أنه لا إشكال في متابعة هذه الفرضية حتى نهايتها. فلا يعقل أن تنطوي الحداثة على النفع والمصلحة للمجتمعات، ثم لا يكون طرف من حقيقتها أصلا عميقا في الإسلام. ولذلك فقد طرح قواعد للتعامل مع مكوّن الحداثة في ثلاثة مرتكزات، مبدأ الرشد المشكّل من الاستقلال والإبداع، ومبدأ النقد الذي يتكون من التعقيل والتفصيل، ومبدأ الشمول الذي يتكون من التوسع والتعميم.
– ويبدو على المستوى النظري من السهل القول بحداثة إسلامية تؤمن بربط العلم بمجال القيم، إلا أن إشكالية العلم والتقدم العلمي غير محسومة في المجال الإسلامي بالنظر إلى واقع تخلّف الإنتاج العلمي مقارنة مع الغرب، وبذلك تصبح مهمة هذا الربط صعبة من ناحية وجود القيم بدون العلم المطلوب لها، ومن ناحية استيراد العلوم الغربية منفصلة عن قيمها وهو الأمر الذي يوقع في التعقيد، ذلك أن علوم الغرب مرتبطة بأنظمة قيمية خاصة بها تتجاوز الممكن ضمن حدود وقيود النظام القيمي الإسلامي، بفرضياتها ونتائجها وخلاصاتها المتحدّية. وبهذا الاعتبار لم يعد كافيا القول بفكرة الربط بين العلم والقيم نظريا حتى يتمكّن المجال الإسلامي من بلوغ مرحلة الإنتاج العلمي التقني التجريبي ليضع له هو نفسه أطرا قيمية مناسبة لهذا المجال. ولذلك فإن نموذج الحداثة اليابانية بدأ بالعلم وإنتاج التقنية المنافسة للمجال الغربي، ثم أحاطها بسياج قيمه الاجتماعية والثقافية.
(*) موقع الرشد من الحداثة عند طه عبد الرحمن
– إن تخصيص الحديث والمثال بعمل طه عبد الرحمن هنا هو بسبب تفرّده في الاتساع بتفصيل مبدأ الرشد، وهو قد قطع مراحل في التنظير للحداثة الإسلامية من منطلق اعتبار مبدأ الرشد أحد ركائزها. ويستخدم في وصف الحداثة المطلوبة مصطلحات ذات حمولة قيمية مهمّة مثل ” الحداثة الصّالحة في الممارسة الإسلامية”. وفي محاولة بناء الإطار العام للتعامل مع الحداثة الغربية التي هي عبارة عن حداثات، فهو يعتبر أن ” الفعل الحداثي يجد رقيّه في الممارسة الإسلامية بما لا يجده في ممارسة غيرها”[16].
– إن مشروع الحداثة الإسلامية لدى طه عبد الرحمن لا يخرج عن مسار ومنطق التأصيل لحداثة مقابلة للحداثة الغربية، بما يعني أن التأصيل نفسه واقع تحت ضغط النموذج الغربي ومستحضر له، فهو بذلك ليس تفكيرا عنديا وذاتيا من حيث المنطلق. وإذا كانت “إسلامية الحداثة” مختلف المضمون بينه وبين الراحل محمد عابد الجابري، إلا أنه قريب من اهتمام الجابري بهاجس وسؤال كيفية تأصيل الحداثة الغربية الأصل الأوربية الدار والمنشأ، وقد تسائل الجابري عن كيفية بناء حداثة عربية؟ وقدّم إجابة مختلفة تبقى مهمّة لمعرفة طبيعة الأجوبة الموجودة في المجال الفكري للتعامل مع الحداثة نوردها تماشيا مع ما يفرضه مبدأ الرشد من استحضار عامل ” النقد”. وحسب وجهة نظر الجابري الخاصة فإن ” الحركة في داخل الثقافة العربية منذ عصر التدوين إلى اليوم لا تتجسّم في إنتاج الجديد، بل في إعادة إنتاج القديم، وقد تطوّرت عملية الإنتاج هذه منذ القرن السابع إلى تكلّس وتتقوقع واجترار، فساد فيها الفهم التراثي للتراث، فالحداثة لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي، بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسمّيه بالمعاصرة بمعنى مواكبة التقدم على الصعيد العالمي”[17].
– وينبني مبدأ الرشد عند طه عبد الرحمن على ركيزتين، أولا الاستقلال الذي يجعل الإنسان الراشد يستغني عن كل وصاية، ويتطلّع إلى أن يشرّع لنفسه فترسّخ بذلك ذاتيته، فالإنسان الراشد منطلق الحركة قويّ الذات. أما الركيزة الثانية فهي الإبداع، حيث يسعى الإنسان الراشد إلى أن يبدع أفكاره وأقواله ويؤسسها على قيم جديدة يبدعها من عنده، أو على قيم سابقة يعيد إبداعها حتى كأنها قيم غير مسبوقة [18].
– إذن بالنسبة لطه عبد الرحمن فإن مبدأ الرشد لا يشكّل الحداثة الإسلامية لوحده حتى ينضاف إليه مبدأ النقد ومبدأ الشمول. ويبقى السؤال مطروحا حول كون هذه المبادى تساوي في الرتبة مبدأ الرشد أم أنها خادمة ومحيطة بمبدأ الرشد، وربما من عناصره بما يغني عن هذا التفصيل. وسنرى من خلال تعريفه لمبدأي النقد والشمول أنهما مجرد أجزاء في صلب مبدأ الرشد الذي كان يغنيه عن إضافة مبدأي النقد والشمول، وأن الرشد يغني عن التفصيل فيها لكونه يتضمّنهما، ومستفيدين في نفس الوقت من هذا التفصيل الجيد والتركيب البنّاء. وقد رأينا أن معاني الرشد وديناميته وانسحابه على عدد كبير من المفاهيم يوحي بشموليته، كما أن الرشد يتضمن بالضرورة القدرة على النقد لضرورة توفر القدرة على الإدراك والتمييز.
– ويعرف طه عبد الرحمن مبدأ النقد في سياق الحداثة الإسلامية بكون” الأصل في الحداثة هو الانتقال من حال الاعتقاد إلى حال الانتقاد، والمراد بالاعتقاد التسليم لشيء من غير وجود دليل عليه، ومقابله الانتقاد، فيكون حدّه هو المطالبة بالدليل على الشيء كي يحصل التسليم به، حيث يقوم مبدأ النقد على العقلنة أو التعقيل، ثم التفريق أو التفصيل”[19].
– وفي هذا السياق يكاد يوجد تطابق ملحوظ في الأفكار والمصطلحات المتعلقة بتأصيل الحداثة بين الجابري وطه عبد الرحمن، خاصة أن الجابري قد اعتبر مصرّحا أن ” الحداثة ليست موقفا فرديا إلا من حيث ارتباطها بروح النقد والإبداع داخل ثقافة ما، إن الحداثة على الرغم من الأهمية التي تعطيها للفرد كقيمة في ذاته ليست من أجل ذاته، بل هي دوما من أجل غيرها، من أجل عموم الثقافة التي تنبثق فيها”[20]. حيث يتم استخدام نفس الأدوات الاصطلاحية كما نرى في تفصيل طه عبد الرحمن لروح الحداثة، وهذا التقارب يضيف بلاشك قوة لفكرة الحداثة الإسلامية.
– ومقتضى مبدأ الشمول أن “الأصل في الحداثة الإخراج من حالة الخصوص إلى حال الشمول، والمراد بالخصوص وجود الشيء ضمن دائرة محدودة أو بصفات محدّدة، أما خصوص المجتمع فمن حيث إن أفراده يتميّزون بصفات حضارية وثقافية معينة، وعلى هذا فالشمول الحداثي عبارة عن تجاوز لهذه الخصوصيات”[21].
– ولا يكتمل مبدأ الشمول إلا من خلال ركيزتين، أولا التوسع فلا تنحصر أفعال الحداثة في مجالات بعينها، بل إنها تنفذ في كل مجالات الحياة ومستويات السلوك، فتؤثر في مجالات الفكر والعلم والدين والأخلاق كما تؤثر في مجالات القانون والسياسة والاقتصاد. وثانيا التعميم حيث لا تبقى الحداثة حبيسة المجتمع الذي نشأت فيه، بل إن منتجاتها التي تكون عالية التقنية وقيمها التي تدعو إلى تحرير الإنسان ترتحل إلى ما سواه من المجتمعات، أيّا كانت الفروق التاريخية والثقافية بين الطرفين”[22]. فروح الحداثة روح راشدة وناقدة وشاملة.
– لقد تحدث طه عبد الرحمن عن شروط خاصة لتطبيق مبدأ الرشد وحدّدها في مقدمة تعتبر أن الرشد يتكون من ركنين هما، الاستقلال والإبداع. وأوضح كيفية الانتقال من الاستقلال المقلّد إلى الاستقلال المبدع، تفاديا لاستمرار حال الوصاية والإمداد الفكري الغربي. ليليه الانتقال من الإبداع المقلّد إلى الإبداع المبدع، ولذلك اعتبر أنه ” لن يقدّر الطريق الإسلامي في الإبداع قيمة الإبداع بمدى انقطاعه عن كل سابق على وجه الإطلاق، وإنما بمدى انقطاعه عن كل سابق استنفذ مكامن الإبداع فيه، فكم من القيم الإنسانية السابقة هي قيم خالدة لا يبليها المستقبل الآجل، والانفصال عنها قد يهوي بالإنسان إلى الدرك الأسفل ويقطعه عن كمال الحداثة، فالحداثة هي بقدرتها على الارتقاء بالإنسان، لا بقدرتها على الانفصال”[23].
– إن الرشد أداة رقابة عقلية وعملية تتيح قياس ومراجعة متواصلة للإنتاج المعرفي والسلوك الاجتماعي والسلطوي. وإذا كان مبدأ الرشد مكتملا من الناحية الإسلامية فإن غياب الفعل الإبداعي يوقع الكثيرين ضمن تعقيدات متابعة ما بعد حداثة يضع أسسها التنظيرية أمثال الفرنسي ليوتارد، والتي تعتبر العقل تصورا ميتافيزيقيا، وفكرة الانسان ومفهوم الذاتية نزعة أنانية، وأن المعيار الذي يتبعه للحكم على القضايا هو غياب المعيارية نفسها The Absence of Criteria، أما السرديات الكبرى فهي مجرد ألعاب لغوية. أو حداثة اعتبرت غير مكتملة كما عبّر عن ذلك الألماني هابرماس المدافع عن العقل تحت وصف العقلانية التواصلية، وعن الحداثة الغربية بوصفها مشروعا لم يكتمل، مع الاعتراف بمأزق الحداثة سياسيا.
– وكما أن الرشد ذو أبعاد في الفكر والممارسة السياسية الإسلامية فإن في مسعى إنجاز حداثة إسلامية لابد من إعادة النظر في طبيعة النظرية السياسية الإسلامية وتجديد مكوناتها، وفي غياب ذلك يصبح الحديث عن الحداثة الإسلامية ناقصا، فلا يمكن تصور حداثة إسلامية نظريا فقط، بمعزل عن النظرية السياسية المرافقة لها. ولذلك فإن” الحداثة بسعيها إلى إعادة البناء القيمي داخل المجتمعات، يجب أن تلزم نفسها بصياغة مشروع سياسي قادر على تجاوز القائم إلى ما هو أفضل، فالحداثة لا يمكن أن تبتعد أو تكفّ عن التنظير السياسي والفلسفة السياسية”[24]. وبهذا الاعتبار فإن الضمور أو غياب التجديد في عناصر النظرية السياسية الإسلامية يضعف فاعلية وراشدية الحداثة.
– إن مبدأ الرشد خروج من حالة القصور الفكري والاقتصادي والسياسي والسلوكي إلى حالة الرشد في كل تلك المجالات. وهو إطار تفسيري ومرجعي يحلّ تعقيدات كثيرة في التعامل مع مسألة الحداثة وما بعد الحداثة. حيث يرتبط الرشد بمفهوم التجديد وضرورته في الفكر الإسلامي، ويستوجب الرشد تحديث مستويات عديدة في المناهج والرؤى وممارسة النقد كما أظهرنا سابقا مع كل من التراث والحداثة.
#صفحة_فلسفة_السؤال
__________
1) وائل حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى2014، ص38
2) مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، دمشق 2002، ص153.
3) المرجع نفسه 75
4) المرجع نفسه 75
5) المرجع نفسه 149
6) طه عبد الرحمان، روح الحداثة: المدخل إلى تتأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأول2006، ص24.
7)أحمد بن عجيبة، البحر المديد، 2/ دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 2002، ص12.
8) الصحاح، الجوهري 2/ دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة 1990، ص169.
9) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص: 214
10) ابن منظور، لسان العرب، 2/ دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 131.
11) طه عبد الرحمان، روح الحداثة، ص: 34
12) المرجع نفسه 25
13) الزمخشري، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، 2/ 685 دار إحياء التراث العربي – بيروت
14) فهمي جدعان، الماضي في الحاضر: دراسات في تشكّلات ومسالك التجربة الفكرية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت الطبعة الأولى 1997، ص339.
15) المرجع نفسه 567
16) طه عبد الرحمان، روح الحداثة، ص18
17) محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى 1991، ص16.
18) طه عبد الرحمان، روح الحداثة، ص 26
19) المرجع نفسه، ص27
20) المرجع نفسه، ص17
21) المرجع نفسه ص28
22) المرجع نفسه ص29
23) المرجع نفسه ص40
24) علي المحمداوي، الإشكالية السياسية للحداثة، من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل: هابر ماس نموذجا، منشورات الاختلاف الطبعة الأولى 2011، ص124.