الظاهر والخفي في الخلاف بين المغرب والجزائر سياسيا واقتصاديا
الوطن24/عبد الكبير بلفساحي باحث في العلوم القانونية
على مدار عقود، ظل الخلاف بين المغرب والجزائر واحداً من أكثر النزاعات تعقيداً في منطقة شمال أفريقيا. رغم ما يبدو على السطح من نزاع واضح حول قضية الصحراء المغربية، فإن الأبعاد الحقيقية للصراع تتجاوز هذا الملف لتصل إلى صراعات أعمق تشمل التنافس على النفوذ الإقليمي، المصالح الاقتصادية، والتحالفات الدولية. لكن ما يُخفيه هذا النزاع أكبر بكثير مما يُظهره، فهناك خفايا تتعلق بالأجندات السياسية والمصالح المتداخلة التي تُعقّد أي فرصة للتوصل إلى حل.
الغاية من هذه المساحة هو التأمل في هده الحادثة ، وهو التطور المحزن والمؤسف الذي حدث بين دولتين كبيرتين وجارتين ، فهما عمد المغرب العربي وأرسخها مكانة وأوفرها قوة ، وأكثرها تأهيلا أيضا بأن تكونا البنية أو الأساس للبنية المغاربية التي تطمح لها الشعوب ، إن لم يكن وحدة اندماجية إن لم تكن وحدة تنسيقية فلهما أكثر من علاقات طبيعية بين دول ذات مجتمعات وتربط بينها الكثير من الأرحام الدينية والثقافية والإنسانية .
فجوهر النزاع الظاهر شكلا هو نزاع الصحراء المغربية قلب الخلاف العلني بين الرباط والجزائر. بينما يعتبر المغرب الصحراء جزءا لا يتجزأ من أراضيه وسيادته الوطنية، فإن الجزائر تدعم “جبهة البوليساريو”، التي تسعى لتقرير مصير تلك المنطقة، وهو ما دفع البلدين إلى مواقف متضاربة زادت من حدة التوترات بينهما. وازدادت التوترات دبلوماسيًا بشكل كبير منذ الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء في 2020، حيث اعتبرت الجزائر هذا القرار تحديًا مباشرًا لها ولسياساتها في المنطقة.
فكما تابعنا جميعا حين أعلن وزير الخارجية الأسبق رمضان لعمامرة قطع العلاقات بين المغرب والجزائر والأصح هي قطع العلاقات مع المغرب لأن الخطوة جاءت من جانب واحد
وسنحاول تقديم ملخصا للخلفية التاريخية لهذا الخلاف ، وسنحاول بعدها درج إشكالات الحاضر والمستقبل ، وسنبدأ حيث بدأ وزيرالخارجية الأسبق الجزائري لعمامرة ، وذلك حين استهل كلامه عن حرب الرمال ، وهي الحرب التي اندلعت بين المغرب والجزائر سنة 1963 ، يعني بعيد استقلال الجزائر سنة 1962 ، فهي حرب عدة أيام ولو أنها حرب محزنة لأنها بين الأشقاء ، فقد اندلعلت بين الطرفين للسيطرة على منطقة الصحراء الشرقية وهي الموجودة الآن جنوب غرب الجزائر ، هذه الحرب لها خلفيات ، طبعا الجزائر استعمرتها فرنسا سنة 1830 وهو استعمار مبكر قبل دول المنطقة ، وهذا الإستعمار لم يكن عاديا بل كان احتلاليا واستيطانيا ، يعني أن فرنسا اعتبرت الجزائر جزءا من أرضيها ، وأن الجزائر قطعة من فرنسا ، وهو ما جاء على لسان الكثير من الجنسيات التي وطنتهم فرنسا في الساحل الشمالي الخصب للجزائر ومنطقة التركيز الاستعماري ،واستمر هذا الاستعمار 130 عام ،فقد كان استعمارا طويلا مقارنة بأنماط الاستعمار بالمنطقة ، ولم تتحرر الجزائر إلا بعد اندلاع الثورة عام 1956 كانت المملكة المغربية من أقوى الداعمين لتلك الثورة بقيادة السلطان محمد الخامس ، فقد كان المغرب يدعم الثورة بالعتاد حتى أن كل الثوار وزعمائهم كانوا يتمركزون بالمغرب وخاصة المنطقة الشرقية للمملكة ، وبالأخص مدينة وجدة ، هؤلاء الثوار كانوا يلقبون بالجيش الحدودي ، مثل الهواري بومدين وأحمد بن بله وبوتفليقة والكثير منهم إن لم يكونوا جلهم .
وموضوع النزاع حاليا ألا وهو الحدود التي لم يكن لها وجود بين المغرب والجزائر ، بل حين ننظر للتاريخ نجد أن أراضي ذاخل الجزائر سكانها كانوا يبايعون ملك المغرب وهو ما يسمى الآن بالصحراء الشرقية التي تضم تلمسان وبشار وتندوف وأدرار نزولا إلى المناطق الحدودية مع مالي .
فمباشرة بعد استقلال الجزائر طالب المغرب باسترجاع كل تلك المناطق التي ضمها الاستعمار الفرنسي للجزائر ، هنا يبدأ الخلاف والصراع رغم المفاوضات بين المغرب والحكومة المؤقتة آنذاك التي كان يرأسها عباس فرحات ، لأن العهد الذي كان بين المغرب والثوار هو استرجاع تلك المناطق بعد استقلال الجزائر وذلك حسب الإتفاقية السرية بين محمد الخامس وحكومة الثورة الجزائرية في سبتمبر 1961 ، لكن بعيد استقلال الجزائر طالب المغرب بهذه الأراضي فكان الرد من الجارة هو أن هذه المسألة غير قابلة للنقاش وأن هذه الأراضي حررها الشهداء بدمائهم ، وأن الجزائر متمسكة بما يسمى بالحدود الموروثة عن الإستعمار لتتجنب كل الإشكالات ، بذلك تكون قد نقضت عهدها ومعاهدتها ، مما يجعل المغرب يشعر بالخيانة ، وأن الثوار الجزائريين لم يقدروا دعم المغرب المعنوي والمادي بالسلاح والإيواء السياسي ، فقد أثار قضيتهم الملك محمد الخامس قبل استقلالهم في مجلس الأمم المتحدة سنة 1958 ولم يبالي بأي عواقب سياسية قد تكون سيئة آنذاك للنظام المغربي ، حتى أنهم لم يقبلوا فتح النقاش حول الموضوع وهو الأمر الذي ما زالوا يتشبثون به لحد الآن مختبئين وراء مبدأ تقرير المصير فيما يعرف بمرتزقة البوليساريو والذي لم يعرف لحد الآن أصلهم جميعا ، وفي قضية تقرير المصير التي يثيرونها في كل مرة ، أجابهم السيد عمر هلال في أحد اللقاءات بأن شعب لقبا يل أولى بهذه الفكرة لأنه شعب يبلغ تقريبا 10 ملايين نسمة لهم كل مقومات دولة ولازال النظام الجزائري يضطهدهم ويشوش على مطالبهم .
تاريخيًا، شكلت هذه القضية نقطة تحول في العلاقات بين البلدين. فقد دفعت الجزائر بموقفها الداعم للبوليساريو إلى تعميق الخلافات مع المغرب، مما أدى إلى تدهور العلاقات الثنائية حتى وصلت إلى القطيعة الكاملة. غير أن هذا النزاع الظاهر يخفي وراءه أبعاداً أخرى أكثر تعقيداً، تتعلق بالتنافس الاقتصادي والتحالفات الدولية التي تضفي مزيداً من التعقيد على المشهد بينما هناك معركة خفية وتتجلى في البعد الإقتصادي .
بينما تعد قضية الصحراء المغربية هي الشق العلني في الخلاف، فإن المعركة الحقيقية بين المغرب والجزائر تدور حول المصالح الاقتصادية والنفوذ في المنطقة. المغرب، بنموه الاقتصادي السريع وتوسعه في أفريقيا، يسعى إلى تعزيز دوره كقوة اقتصادية إقليمية، في حين تعتمد الجزائر بشكل كبير على صادرات النفط والغاز لتعزيز مكانتها على الساحة الدولية ، لأن
السباق بين البلدين يتجلى بوضوح في مشاريع البنية التحتية والطاقة ، حيث يسعى المغرب إلى أن يكون مركزا إقليميا للطاقة المتجددة ، مثل الطاقة الشمسية والرياح ، بالإضافة إلى دوره كمحور تجاري يربط بين أوروبا وأفريقيا عبر ميناء طنجة المتوسط. في المقابل، تعتمد الجزائر بشكل رئيسي على تصدير الغاز الطبيعي لأوروبا ، وتسعى للحفاظ على مكانتها كمصدر رئيسي للطاقة ، من أمثلة هذا التنافس مشروع خط أنابيب الغاز بين نيجيريا وأوروبا، حيث تتنافس المغرب والجزائر على أن يكون كل منهما محطة عبور لهذا المشروع ، وهو ما يعكس الصراع الاقتصادي الذي يخفيه الخلاف السياسي الظاهر .
أيضا هناك مصالح خارجية في قلب الصراع ، فلا يمكن فهم الخلاف المغربي الجزائري دون النظر إلى التدخلات الدولية. القوى العالمية ، مثل الولايات المتحدة ، روسيا ، والصين ، والتي تلعب أدواراً خفية في هذا النزاع ، حيث تسعى كل منها إلى استغلاله لصالحها. الولايات المتحدة ، على سبيل المثال ، دعمت المغرب في قضية الصحراء المغربية اعترافا بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. في المقابل ، تتعاون الجزائر بشكل وثيق مع روسيا ، التي تعتبر الجزائر شريكاً عسكرياً رئيسياً في المنطقة وتزودها بالأسلحة المتطورة ، كل ذلك ينتج عنه تصدير الأزمات الداخلية للجارة واتهام المغرب سببا فيها في أكثر من مرة ، ففي كثير من الأحيان ، يتم استغلال الخلاف المغربي الجزائري كوسيلة لتصدير الأزمات الداخلية ، لأن الجزائر تعاني من أزمة اقتصادية خانقة ناتجة عن تراجع أسعار النفط ، واحتجاجات شعبية تطالب بإصلاحات جذرية في النظام السياسي ، لتبقى التدخلات الخارجية لا تتوقف عند الدعم العسكري أو الدبلوماسي فقط ، بل تتجاوز ذلك إلى تعزيز المصالح الاقتصادية. أوروبا ، التي تعتمد على الغاز الجزائري ، تحاول التوسط في النزاع للحفاظ على استقرار المنطقة وتأمين إمداداتها من الطاقة. في حين تسعى الصين إلى الاستفادة من التوترات بين البلدين لتعزيز استثماراتها في شمال أفريقيا ، من هنا، يصبح تصعيد الخلاف مع الجار وسيلة لإشغال الرأي العام الجزائري وصرفه عن الأزمات الداخلية. ويتم تغذية النزعة الوطنية وتحفيز المواطنين على الوقوف خلف حكوماتهم تحت شعار “الدفاع عن الوطن” في مواجهة “العدو الخارجي” ألا وهو المغرب كما وصفه ريس أركانها سعيد شنقريحة “بالعدو الكلاسيكي ” .
إن قول هذا الصراع إلى أين؟ ينتج عنه سؤالا هو ما إذا كان هذا الخلاف بين المغرب والجزائر سيظل عالقا في مكانه ، أم أن هناك احتمالية للوصول إلى تسوية ؟ حتى الآن ، يبدو أن التصعيد هو العنوان الأبرز للمشهد من طرف الجارة الشرقية ، في ظل عدم وجود رغبة حقيقية لديها لتقديم تنازلات أو الجلوس لطاولة الحوار .
وفي الوقت الذي تستمر فيه السياسات الإقليمية والدولية في تعقيد الأمور، لا يزال الشعبان المغربي والجزائري رهينة هذا النزاع. ومع أن الشعوب في كلا البلدين تطمح إلى تحقيق السلام والتنمية المشتركة ، فإن الأجندات السياسية والاقتصادية الخفية تستمر في التحكم بمسار الأمور ، ما لم تحدث تطورات جذرية تدفع نحو حل حقيقي ، سيظل الخلاف المغربي الجزائري حجر عثرة أمام أي فرص للتكامل الإقليمي ، وسيبقى الشعبان ضحية لصراعات لا تخدم إلا مصالح ضيقة لبعض القوى السياسية والاقتصادية.