القبر المنسي (مستمدة من الواقع) “الجزء2”

الوطن24/ بقلم: فؤاد العنيز

أجبتها وعلامات الاستغراب تستبد بي:

– بكل فرح, تفضلي بنيتي, كلي آذان صاغية.

لم أكن أسمع في الطرف الآخر إلا آهة مثقلة بالحزن. لعلها كانت تغالب دموعها وهي تحاول أن تخبرني عما تفكر فيه. ولعلها كانت تستجمع قوتها وشجاعتها لتفاتحني في موضوع جعلتني أستشعر من خلال جدية نبرات صوتها وحنانه أنه ذو أهمية بالغة لديها. ثم قالت بما يشبه الرجاء: 

– تعرف أن والدتي ماتت رحمها الله عندما كان عمري خمس سنوات وأنني بصراحة لا أعرف عن حياتها الكثير لا هنا بكندا ولا هناك بالبلد. وإني أطمع في كرمك سيدي وأدعوك للقاء آخر بالمقهى لتحدثني عنها وتملأ بياضا يكاد يخنقني. كيف عاشت هناك؟ كيف عصفت بها الرياح إلى هذه البقاع البعيدة؟

أجبتها موضحا:

في الحقيقة لا أظنني سأفيدك كثيرا فأنا لم أكن قد تشرفت بمعرفة والدتك المرحومة عندما كنا في ” البلاد ” ولم أتعرف عليها إلا هنا وبمحض الصدفة. لكن، تأكدي أني لن أبخل عليك بما أعرف.

عبرت لي عن سعادتها العارمة وهي تشكرني على قبولي للقاء.

ذهبت بمعية ابنتي فاطمة للموعد بالمطعم الذي دعتنا إليه وردة. كانت أنيقة أكثر من المرة السابقة لأنها كانت تولي لهذا اللقاء أهمية خاصة ربما. ورغم أن لباسها كان عصريا إلا أنه يجعلك تشعر أنه يختزن ملامح لباس مغربي تقليدي. ولعل هذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، حرصها على التشبت بجذورها المغربية.

تبدو وردة ذكية لبقة ومهذبة. بل إني أراها نجحت في استمالة ابنتي فاطمة نحوها. أراهما تضحكان بعفوية وصدق وكأنهما أختان أو صديقتان حميمتان. مرّ الوقت دون أن نستشعره. انتظرت أن تمطرني وردة بوابل من الأسئلة التي تقض مضجعها كما يبدو، غير أنها لم تفعل.

لعلها لم تكن قد خططت لوجود ابنتي فاطمة معنا لذلك فهي لم تفاتحني قط في الموضوع الذي دعتني من أجله والذي كان محاولة التعرف على والدتها المرحومة من خلال معلوماتي القليلة عنها.

في المساء، ودعتنا وردة مكرهة. لابد أنها ضحّت برغبتها العارمة وبفرصة إشباع فضولها المستبد لكي لا تفسد عنا هذه الأمسية الجميلة.

أذكر جيدا الصدفة التي جمعتني بوالدتها المرحومة هناء أول مرة. كان ذلك بالفندق الذي يعمل به زوجها الكندي. كنت شابا في مقتبل العمر وكانت هي في مثل سني. غير أن ملامحها التي تفضح أصولها العربية كانت واضحة جدا. سألتها بالعامية المغربية:

– اسمحي لي سيدتي, واش انتي عربية ؟

أجابت وقد أشرقت قسمات وجهها بفرح طفولي كما لو أنها لم تكن تنتظر قط أن يحدثها أحد في هذه البقاع القصية بلهجتها العربية:

– آه … مغربية بالضبط.

لا أدعي أنني لم أصب أنا الآخر بدهشة الاكتشاف الجميل. فقد هزني الحنين إلى الديار وبرمت من سماع كل اللغات من حولي إلا لغتي الحبيبة.

عبرت لها عن سعادتي بالتعرف إليها بنبرة محتشمة لست أدري لماذا؟؟

اكتفت هي بابتسامة مشرقة وأخبرتني أن زوجها الكندي يعمل بهذا الفندق وسيشرفها أن تقدمني له. وافقت ممتنا وانصرفت وفي ذهني أسئلة حارقة تكاد تعصف بتفكيري، من تكون هذه المغربية المرحة؟  كيف هو زوجها الكندي؟  وهل سينزعج من حضوري؟ أسئلة رهنت الإجابات عنها باللقاء المقبل.