المغرب بين صمت العدالة وجرأة إسبانيا… متى نكسر دائرة الإفلات من العقاب؟

في إسبانيا، زوجة رئيس الحكومة تمثل أمام القضاء في قضية تحقيق تتعلق بالصفقات والتمويل، في مشهد يُجسد معنى الدولة الحديثة التي لا تُميز بين الحاكم والمحكوم، ولا تخاف من المساءلة. هناك، لا أحد فوق القانون، ولا حصانة لمن تُثار حوله شبهات. أما في المغرب، فالصورة مختلفة حدّ التناقض: ملفات الفساد تتكدس، والتقارير الرسمية تُعرض ثم تُنسى، والمواطن ما زال ينتظر من يجرؤ على محاسبة من بددوا ثروات البلاد.

عندما تهتز مدريد لاستدعاء زوجة رئيس الحكومة، فذلك لا يعني إضعاف الدولة الإسبانية، بل تقويتها. العدالة هناك تُمارس صلاحياتها باستقلالية تامة، لتبعث رسالة مفادها أن النزاهة ليست ترفاً سياسياً، بل واجب وطني.
أما في المغرب، فإن غياب المحاسبة الحقيقية يزرع في النفوس شعوراً باللاجدوى، ويُغذي الإحباط الشعبي، ويُعمق الهوة بين المواطن ومؤسسات الدولة.

والأمثلة كثيرة من أن تُحصى — وقد تضاعفت في السنوات الأخيرة — بعد أن تيقن الفاسدون أن الإفلات من العقاب أصبح نهجاً توفر له شبكة آمان عابرة للمؤسسات والإدارات. القوانين التي يشرعها البرلمان باتت في كثير من الأحيان تميل نحو توفير غطاء قانوني لنهب المال العام، والإثراء غير المشروع لا يُجرّم كما يجب، فتداعى الغاسدون لركوب سلم الانتخابات باعتباره غنيمة يفترس فيها مال الشعب. لا خوف لديهم من ربط المسؤولية بالمحاسبة مادامت الثروات تتكدس، ونهب المال العام أصبح عادة، والشكايات والمتابعات على الرفوف تطالها نسيان مدروس. والشعب، الغارق في الأزمات، يكاد لا يصدق أن من جمعوا الثروات عبر السرقة والتملص الضريبي وتعارض المصالح وتقاسم الريع مع الأهل والأقارب هم أنفسهم أصحاب القرار، وسادة التشريع، وقادة الحكم؛ يسرقونه نهاراً جهاراً ثم يملؤون الساحات والفضاءات والمنتديات صراخاً بأن من يطالبون بالحقوق وتطبيق العدالة ونزاهة القضاء هم انفصاليون ودعاة فتنة يجب أن تُعاقبهم القوانين وحدهم دون سواهم.

المغاربة اليوم لا يطالبون بالمستحيل، بل فقط بحدٍّ أدنى من العدالة والشفافية. يريدون أن يروا نفس الجرأة في فتح الملفات الكبرى التي يعرفها الجميع: من صفقات عمومية مشبوهة إلى مسؤولين راكموا ثروات على حساب المال العام. فهل يعقل أن يُعاقب الصغار ويُترك الكبار طلقاء؟ هل يعقل أن يُحاسَب الموظف البسيط على تأخير ورقة، بينما من بدد الملايير يُمنح ترقيات ومناصب جديدة؟

لقد أكد الملك محمد السادس في أكثر من خطاب أن “ربط المسؤولية بالمحاسبة ليس خياراً بل إلزاماً دستورياً”، ومع ذلك ما زال هذا المبدأ غائباً عن الواقع اليومي. إن الشعب المغربي اليوم يريد أفعالاً لا شعارات؛ يريد عدالة تُنصفه لا تُخيفه.

حين تتحرك العدالة في مدريد وتصمت في الرباط، فالمشكلة ليست في الشعب ولا في نصوص القانون وحدها، بل في الجرأة السياسية التي ما زالت غائبة. وإذا لم نكسر دائرة الإفلات من العقاب، فإننا سنظل نعيش في بلد تُهدر فيه الثروات باسم التنمية، وتُدفن الحقيقة باسم “الاستقرار”.

المغاربة اليوم يستحقون أكثر من الوعود؛ يستحقون دولة تحاسب الجميع دون استثناء، وتضع مصلحة الوطن فوق المصالح الشخصية. فلا تنمية حقيقية دون عدالة، ولا عدالة حقيقية دون محاسبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *