(حماس والنظام السوري:مبادئ ومواقف)
الوطن24/ بقلم: د. أحمد الريسوني
منذ عدة أشهر يتصاعد السجال حول قرار حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إعادة علاقتها مع النظام السوري.. وهو سجال ما كان له أن يكون لولا أن القرار المذكور لقي، وما زال يلقى، رفضا قاطعا ومعارضة شرسة من بعض الأطراف، في مقدمتها جزء من المعارضة السورية..
مجريات هذا السجال المتصاعد كشفت عن مدى الحاجة إلى التصحيح أو التوضيح لكثير من المفاهيم والمنطلقات والمستندات الرائجة، أو المغيبة، في هذا السجال الذي شاركتُ فيه بأشكال وعبارات عرَضية، جزئية ومتقطعة..
لذلك رأيت أن أعرض وجهة نظري بقدر من التكامل والتنسيق، وبالله تعالى التوفيق.
1/ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي أبرز فصائل المقاومة الفلسطينية، التي تجاهد لتحرير فلسطين من الاحتلال والاغتصاب الصهيوني. وكثير من قادة الصهيونية وكيانهم أصبحوا يختصرون معركتهم في كونهم يواجهون حماس وخطر حماس.. فحماس عندهم هي العدو الأكبر والأخطر، الذي ينازعهم في وجودهم.
2/ تحظى حركة حماس، وعموم المقاومة الفلسطينية، بتأييد كبير وراسخ لدى الشعوب العربية والإسلامية، لكونها تجسد ضمير الأمة الإسلامية، وأملَها في تحرير فلسطين والقدس الشريف. وهذا بالضبط هو موقفي من حماس، ومن كل التنظيمات والشخصيات الفلسطينية، الرافضة والمقاوِمة للاحتلال. إنه موقف الإجلال والثقة والاعتزاز.
3/ قيادة حماس قيادة منتخبة، ويتجدد انتخابها بصفة منتظمة في الداخل والخارج. وهي لذلك تحظى بكامل الشرعية والمصداقية في تمثيل الحركة، وفي تمثيل جزء كبير من الشعب الفلسطيني. وتحظى بالاحترام والتقدير من كافة الأطراف المؤيدة للشعب الفلسطيني ولتحرير فلسطين. وهي ليست قيادة فردية استبدادية، وليست متسلطة مفروضة بالقوة أو بالتزييف أو بشراء الذمم.. وهي قيادة ميدانية، وليست قيادة خطابية كلامية. وليست ظاهرة صوتية رنانة..
وعما قريب سنرى ونسمع عن انتخاباتها الداخلية، التي ستقول كلمتها في القيادة الحالية وفي مواقفها وسياستها..
4/ قادة حماس المتعاقبون، منذ تأسيسها وإلى الآن، هم محل ثقة في دينهم وكفاءتهم ووفائهم وإخلاصهم وخبراتهم وتضحياتهم.. فهم أهل للأمانة التي حُـمِّلوها وللمكانة التي نالوها.. ولم يسبق أن كانوا محل شك أو طعن أو اتهام في خصالهم ومؤهلاتهم المذكورة، حفظهم الله وزادهم فضلا ورفعة.
5/ وبناء عليه، فالواجب إحسانُ الظن بهم، واستصحاب ما هو ثابت لهم، وحمل اجتهاداتهم على المعهود فيهم. وهي في عمومها اجتهادات شورية، دائرة بين الصواب والأصوب، وبين الحسن والأحسن.. مع المراجعة والتقويم الذاتي المستمر.
أما رميهم فجأة بالطعون والاتهامات في أمانتهم وكفاءتهم وتبصُّرهم، ومحاولةُ تدمير سمعتهم ومصداقيتهم، ومحاولة شق وحدتهم.. فهي جناية مكتملة، سيحاسب عليها أصحابها، حتى لو وقانا الله شرها ولم تحقق مبتغاها.
وإنَّ أخبثَ ما يمكن توجيهه للقادة المخلصين هو بث التشكيكات الجزافية والاتهامات الوبائية والتفسيرات الباطنية، حول أشخاصهم وحول تصرفاتهم ومقاصدهم..
وإن أفضل دعم وشكر نقدمه لقادتنا الشرفاء، هو الدفاع عن ذمتهم وأمانتهم، وصدُّ الغارات والشائعات المروَّجة ضدهم..
6/ منذ شهور يواجه قادة حركة حماس سيلا من الاتهامات والطعون والتلبيسات، بأنهم:
ركنوا إلى الذين ظلموا،
وارتموا في أحضان إيران،
وتحالفوا مع المجرم السفاح،
وصافحوا الأيدي الملطخة بدماء الأبرياء،
وباعوا قضيتهم لإيران،
وفتحوا الأبواب للتشيع،
وخذلوا الشعب السوري والمسجد الأموي..
مقتضى هذه الاتهامات ونتيجتها هي: أن هؤلاء القادة الأكفاء الشرفاء: إما أصبحوا خونة مارقين، أو أصبحوا أغبياء مغفلين!!
وإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فأنا أسأل أصحاب الحملة ضد حماس: لماذا في نظركم أقدَمَ قادة حماس على هذا القرار وهذه الخطوة؟ ما هي دوافعهم ومقاصدهم؟ أعطونا تفسيرا مقنعا..
7/ بعد الزيارة التي قام بها إلى دمشق وفد يمثل عشرة من فصائل المقاومة الفلسطينية، والتقوا فيها مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، استعَرَت الحملة ضد حماس وحدها، بل كثيرون نشروا الخبر بأن “وفدا من حماس” زار دمشق والتقى بالرئيس السوري.. وهكذا تم تحريف الخبر وتغييب تسعة من الفصائل الفلسطينية الأخرى، لكي يتم الاستفراد بالفصيل العاشر (حماس)، والتشنيعُ عليه وحده.. وهذا مسلك غريب متكرر: الهجوم ينصب على حماس وحدها، بينما معظم الفصائل الفلسطينية، أو كلها، لها علاقات طبيعية، أو جيدة، مع النظام السوري!؟
وبعد اللقاء بين الوفد الفلسطيني وبشار الأسد، نشر أحد الدكاترة الشرعيين – على تويتر – صورة يتصدرها القيادي في حركة حماس، الأخ المجاهد خليل الحية مع بشار الأسد، ووضع الشيخ الدكتور تحتها الحديث الشريف: (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ).
وعلق شيخ آخر بقوله: “وجوه بائسة وأيادي ملطخة بالدم …. لا كَتبَ الله الخير ولا التوفيق في هذا الاجتماع”.
أنا أفهم كيف يدفع الغضب والتهور إلى محاولة تشويه رجل مجاهد قدم بيتُهُ وأقاربه الشهداء تلو الشهداء في غزة، لكن لا أستطيع أن أفهم هذا التعدي والتألي على الحديث النبوي وتسخيره في الانتقام والتهديد، وكذلك التعدي وسوء الأدب والتطاول حتى في دعاء الله تعالى؟! {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16]
نسأل الله السلامة والعافية واللطف..
8/ قبل حوالي سنتين أرسل إلي أحد علمائنا الأجلاء سؤالا فيه نبرة استنكارية، وهو: هل يجوز لحماس أن تأخذ مساعدات من إيران؟ فأجبته على الفور: من واجب حماس أن تأخذ المساعدات من إيران ومن غيرها، وحتى – لو فرضنا – من الصين ومن روسيا ومن كوريا الشمالية والجنوبية..
حماس تتحمل الكثير الكثير من أعباء المقاومة ومن احتياجات الشعب الفلسطيني، في غزة وفي المخيمات، في الداخل والخارج، فبأي حق تَرفض المساعدات وتحرم منها هذه الجبهات؟
المساعدات المرفوضة هي فقط تلك المرهونة بشروط ومطالب سياسية أو مذهبية، أو بما يضر القضية الفلسطينية.. وإيران وغيرها في ذلك سواء
9/ نعم إيران – وبغض النظر عن طائفيتها المقيتة وملفاتها الإجرامية المعلومة – تعطي الكثير للشعب الفلسطيني وللمقاومة الفلسطينية، وإيران هي البلد الوحيد الذي يسلِّح المقاومة الفلسطينية.
بل إن عددا من الدول العربية تعتبر حتى الدعم الشعبي والفردي للمقاومة الفلسطينية تمويلا للإرهاب، يعتقل أصحابه ويحاكمون، أو يعتقلون بدون محاكمة..
ولم تفلح الشعوب العربية – وهي مئات الملايين – ولا مائة مليون مصري، حتى من رفع الحصار الإسرائيلي/المصري المفروض على إخوانهم في قطاع غزة. والآن: حتى مدن الضفة (القدس، جنين، نابلس..) أصبحت أيضا تحت الحصار الصهيوني، والعرب من حولها يتفرجون! وبعضهم يطربون ويصفقون.. ومع ذلك يسألني السائل: هل يجوز لحماس…؟
10/ وحين تُذكر إيران ودعمها الدائم للقضية الفلسطينية، سياسيا وماليا وعسكريا، ينبري أصحاب التفسير الباطني الغيبي ليؤكدوا لنا أن إيران إنما تمارس التقية والخداع، وأنها متواطئة ومتفاهمة مع إسرائيل ومع الغرب سرا، وأنها تستغل القضية الفلسطينية فقط لجلب التعاطف والتأييد لها، وأنها تضحك على الفلسطينيين، وأنها تستدرجهم نحو التشيع والاندماج في مشروعها..
وبكل سذاجة وغفلة أقول لهم: طيب، صدقنا ما لا يصدق، وسلمنا لكم بما تقولون.. فهلا أقنعتم الأنظمة العربية “السنية” أن تفعل مثل إيران وأفضل، وأن تنتزع من إيران هذه الورقة؟ ألا ترونهم يعبثون بالأموال الخيالية ويشتتونها في الحماقات والسفاهات؟ ويريدون لحماس فقط أن تموت جوعا وعطشا وغما وكمدا! ومن لم يمت بالسيف مات بغيره..
وهلا أقنعتم الشعوب العربية أن تنهض وتدعم الشعب الفلسطيني، وتغدق عليه من بعض ما أنعم الله به عليها، وتغنيه عن الروافض والصفويين والبويهيين؟
وهلا أقنعتم أحزابكم وفصائلكم وأنفسكم وأتباعكم بوجوب الاحتضان الفعلي لفلسطين والفلسطينيين، ومنافسة إيران ومزاحمتها وتهميشها، وتحرير إخواننا وقضيتنا من قبضتها؟
تتفرجون على مدى سنين، فإذا رأيتم حركة حماس تبحث لشعبها وقضيتها وجهادها عن حلول ومسالك ومخارج، استيقظتم وتحركت غيرتكم وشفقتكم على الإسلام والمسلمين، وبادرتم بإدانة حماس؟
11/ تعامُلُ حماس مع سوريا وإيران وحزب الله فيه مخاطر ومزالق محتملة لا شك فيها، ويحتاج تلافيها إلى كثير من اليقظة والحزم. ونحسب أن قيادة حماس لها كامل الوعي والقدرة والأهلية في هذا المجال، وهي الأكثر أهلية لذلك من أي طرف آخر. والحركة تعاملت مع سوريا من قبل، وتعاملت طويلا وكثيرا مع إيران، وكذلك بقيةُ الفصائل الفلسطينية، فخبـرونا بالملموس عن تلك المخاطر والمزالق؛ ما الذي وقع منها خلال الثلاثة عقود المنصرمة؟ وما حجمه وما مظاهره؟ وما مضاره؟ بينما -بالمقابل- أصبحت حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما قوة عسكرية صاعدة، يحسب لها ما لا يحسب لمجمل الجيوش العربية المحنطة.
وهذا لا يعني الغفلة عن تلك “المخاطر والمزالق”، ويجب أن نكون يقظين وناصحين ومنبهين.. ولكن لا يجوز لأحد تشويهُ حماس، وتحقير قيادتها، وعرقلة مسيرتها المظفرة، بالأوهام والهواجس والتخمينات والافتراضات. مع أن البديل عن هذا المسار ومخاطره ومزالقه المفترضة، ليس سوى الاختناق والموت البطيئ أو السريع، لحماس وللقضية الفلسطينية. وهو ما تتمناه وتسعى إليه الأنظمة العربية “السنية”.
12/ بعض الإسلاميين يريدون من حماس أن تكون لهم نصيرا وظهيرا في قضاياهم الداخلية والحزبية، أو في صراعاتهم مع خصومهم.. يريدون منها أن تكون إلى جانبهم ضد إيران في العراق، وضد بشار الأسد وطائفته في سوريا، وضد الحوثيين وإيران في اليمن، وضد حزب الله في لبنان.. ولا يجيزون لها أن تقيم أي علاقة ودّ أو تعاون أو تنسيق مع أحد من هؤلاء “الأعداء”.. وأن عليها أن تتخذ أولئك الإسلاميين وقضاياهم مرجعا ومعيارا لعلاقاتها وتحركاتها.. وبعضهم عبروا عن ذلك بصراحة وبَـجَاحة لا مزيد عليها، وفي بيانات رسمية!
وهذا انزلاق استراتيجي لو قُبل، فلن ينتهي إلا بنهاية حماس.
حماس ليس لها الآن إلا عدو واحد: هو العدو الصهيوني، وهو الاحتلال. وليس لها إلا معركة واحدة هي معركة المواجهة مع الكيان الصهيوني، وتحرير فلسطين من براثنه.
حماس تحتاج إلى من يعينها ويحمل عنها ويحمل معها، لا إلى من يُـحَمِّلها ويزيدها رهقا.
13/ المقاومة الفلسطينية تواجه قوة جبارة عاتية، مدعومة ومحمية من كافة الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا. وقد انخرطت دول عربية متعددة في حلف إسرائيل ضد حماس، وضد المقاومة الفلسطينية بشكل عام. فكيف إذا سلطنا عليها – نحن أيضا – سهام التثبيط والتخويف والتشكيك والتخذيل؟ رجاء: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
ومعلوم أن هذه المقاومة الشريفة تريد، ونحن نريد منها، تحرير فلسطين؟ فكيف، ومتى، تتصورونها ستفعل ذلك في ظل الأوضاع المشار إليها؟ أرجو أن تجيبوا تفصيلا، ولو في قرارة أنفسكم..
أنا أرى أن المقاومة الفلسطينية ما زالت ضعيفة جدا وبعيدة جدا عن هدفها النهائي، وهي مدعوة لزوما ووجوبا، إلى نسج علاقات متعددة، تتيح لها تقوية قدراتها القتالية، وتنويع مصادر تسلحها..
هذا هو طريق الارتقاء والصعود، وليس فقط طريق البقاء والصمود..
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]