رجال عظام عرفتهم (3): المرحوم الحاج الحسين برادة، القائد المؤسس للمقاومة والقائد المؤسس لجيش التحرير.
الوطن24/ إعداد: د. عبد الله لعماري (محامي وفاعل سياسي)
الشخصية الثالثة التي كان يهيم الحاج الحسين برادة بحبها وتعظيمها هي شخصية الدكتور الخطيب، ومارأيت في حياتي حبا بين إثنين أصدق ولاأعمق ولا أملك للوجدان من الحب الذي جمع بين المرحوم والدكتور الخطيب، حتى إنه سمى إبنه البكر على إسمه، حتى وأنه كان يتمنى على الله أن لا يتوفاه قبل أن يكون آخر عمل يقوم به في الدنيا هو تأسيس مؤسسة للدكتور الخطيب، ولعل جانبا من الحب الذي كان يكنه لي أتى من كوني أشتغلت معه على هذا المشروع، ففي سنة 2014 بادرنا إلى وضع أول لبنة في هذا الصدد، عندما ألتأم جمع هام من الشخصيات الوطنية، وإنتدب خمسة من المؤسسين للتوقيع على رسالة تحسيسية وإستئذانية موجهة إلى الملك محمد السادس لمباركة المشروع، بالنظر إلى سمو مقام الدكتور الخطيب في التاريخ الوطني شعبيا ورسميا، وكان قد وقع الرسالة الحاج الحسين برادة بصفته من رجال وقادة المقاومة، والعقيد الحاج المختار الزنفاري بصفته من رجال وقادة جيش التحرير، ووقعها ثلاث أمناء عامين لأحزاب وطنية من رفاق الخطيب ووقعتها شخصيا بصفتي من عامة الشعب.
وقد أبره الله في دعاءه ومناه وقسمه عليه، فقد توفاه الله شهورا بعد تأسيس هذه المؤسسة سنة 2019، وعلى تعلات هذا التأسيس الذي حرفه عن مساره، قراصنة السياسة من الحزب المعلوم متدثرين برداء شوكة وسلطان الحكومة، حينما سطوا على جهود منا بذلت لسنوات، أقول على تعلاته فقد اكتفينا منه أن أفاض على فقيدنا الحاج برادة بهجة الروح ومسرة النفس.
وحينما أعود إلى هذا الحب بين هذين الهرمين فلا عجب، وقد التقيا على إرادة الإستشهاد في سبيل الله وهوى إفتداء الوطن بالروح والدم منذ سنة 1951، سواء في حرب المدن بالمقاومة، أو في حرب الجبال حينما أسسا معا جيش التحرير.

من أروع مافي هذا الحب الجميل أنه لم يختل ولم يتزعزع ذرة واحدة حتى في اللحظة التي واجه فيها المرحوم برادة، الدكتور الخطيب وولي العهد أنذاك الحسن الثاني معا، معترضا على الطريقة التي تم بها إدماج جيش التحرير، وقد كان الدكتور الخطيب هو من أخبر ولي العهد بذلك، عرضا للمواقق، ولم يختل ولم يتزعزع عندما إستنكف الفقيد أن يشارك الدكتور الخطيب مسيرته السياسية سواء عند تأسيسه الحركة الشعبية أو عند تأسيسه الحركة الشعبية الدستورية، بالرغم من أنه يملك المؤهلات والملكات التي كانت ستجعله من رموز السياسة الوطنية بامتياز، ولم يفعل ذلك، ولو أنهما لم يكونا ليفترقا يوما واحدا بالإتصال، إلى أن فرق بينهما الموت، ولكنه كان يضع أمواله رهن إشارته، مثلما كان يضعها بين يدي كثير من الوطنيين السياسيين، لايهمه أن يكونوا من أحزاب يتحفظ على مرجعيتها الإيديولوجية، ولذلك وحينما عاد الزعيم الإتحادي عبدالرحمان اليوسفي من المنفى سواء منه القهري الأول أو الطوعي الثاني، كان الحسين برادة على خط الدعم الأول له، ويؤمن له كل إحتياجاته، لما يعرفه في رفيقه القديم للسلاح من أنفة النفس وتعففه عما عند الآخر، سواء من عند حزبه أو من عند الدولة، أو من عند شخصية ما مهما سما شأنها، لكن الحرج كان يرفع بين رفاق السلاح.
في سبيل دعم السياسيين الوطنيين، واحتضان إجتماعاتهم التنسيقية التصالحية أو التوحيدية ، اتخذ الحاج الحسين برادة فيلا خاصة لإحتضان واستضافة اللقاأت، وتغطية تكاليف ذلك، دون أن يشاركه أحد في ذلك، ودون أن يكون له هدف ما أو تحيز ما إلى فئة ما سوى التحيز لهواه الوطني في أن تشرق شمس النماء والهناء على المغرب الذي يتنفسه عشقا وشغفا وصبابة.
ولكن، ويالحرقة هذه اللكن، ويالشواظ نارها، ويالمضاضة قطعها لكبد فقيدنا الحاج الحسين برادة، أنه مات وهو على بساط الفقروالفاقة والحاجة، يعيش عفافا في ظلال بر ورعاية أبناءه، وهو الذي ولج عالم الأعمال والتكسب الحر منذ بواكير الإستقلال، وكان بإمكان إستثماراته أن تناطح عظائم الرساميل والثروات، لولا أن ثروته وأمواله وأملاكه تسلطت عليها في آخر عمره وعز عجزه و شيخوخته، طواحين قرارات إدارية جائرة، أردتها يبابا ونسفتها إلى الحضيض، ولم يستنقذها منها حتى وهو يلج بها لجة عوالم القضاء، التي كان لها أول يعلمه، ومات ولم يكن لها آخر حتى يعلمه، ومات وهو يحمل في صدره لظى هذه الغصة الحارقة لحشى أكباده.
عشت مع الحاج الحسين برادة هذه الغصة، وهو يرسلها بين يدي زفرات حرى، أتحسسها حين يعرض مظلمته و يسردها علي سردا، يتباحث معي المخارج القانونية لإستعادة أمواله وإنصافه في حقه المهدر المضاع. بل إن لجوءه إلى القضاء تطلب منه ثروة أخرى، مصاريف للتقاضي وواجبات الخبرات وتكاليف الترافع.
نزوة واحدة، وهوى واحد كان يستنزف أمواله، يهدرها على هذه النزوة إهدارا ولايبالي، وهي إستضافة وإحتضان اللقاأت والتجمعات السياسية لرفاقه الوطنيين أو المقاومين، وتقديم الدعم لأي كان من المقاومين أو السياسيين الوطنيين.
وقد لمست فيه شخصيا هذه النزوة، حينما كان يحثني على جمع الجموع التأسيسية لمؤسسة الدكتور الخطيب، في منزله وعلى ضيافته، وحينما كنت أتحرج من العدد، كان يبدي الإستعداد لاستقبال الأضعاف المضاعفة، ولما كنت استخبر أصدقاءه، تخبرت أن الحاج برادة أفنى عمره في الإستضافات والعطاأت.
هكذا كنت أتقطع ألما وحسرة، وأنا أرى الغصة تقطع نياط قلب الوطني الفدائي الكبير الذي هب في عز شبابه يفتدي الوطن من الإحتلال ويفتدي الشعب من القهر والنخاسة والإستعباد، ويفتدي الملك الشرعي من النفي والغصب والإكراه والإبعاد، ثم وفى للبلاد والعباد وللملك، فما بدل تبديلا وماخان عهدا، وما باع ذمة، وما ارتمى على ثروات البلاد وسهولها وقصورها ينتهبها إنتهابا وإغتصابا وقد خلفها الإستعمار نهبا مستباحا، وكان فقيدنا في طليعة من يقدر على الغنائم سلبا وإستحواذا، ولكن ضمير رفاق الشهداء كان مرجعه ومنهجه هو التعفف والتجرد والنقاء الجهادي الوطني.