غريغوري بيرلمان… عبقري الرياضيات الذي تحدى العالم ورفض مليون دولار.

الوطن24/ عبد الجبار الحرشي
في عالمٍ تهيمن عليه الشهرة والجوائز والأضواء، يظهر عالم الرياضيات الروسي غريغوري بيرلمان كاستثناء نادر، عبقري فذّ قلب موازين الفكر العلمي، ثم توارى عن الأنظار بكامل إرادته. بمظهر بسيط يشبه المتشردين، ولحية كثيفة، وملابس غير مرتبة، قد لا يخطر في بالك أن هذا الرجل المتواري في أحد أحياء مدينة سانت بطرسبرغ هو نفسه من حل إحدى أعقد المسائل في تاريخ الرياضيات: حدسية بوانكاريه.
حل لغزاً عمره قرن
طرحت حدسية بوانكاريه عام 1904 من طرف العالم الفرنسي هنري بوانكاريه، وظلت على مدى أكثر من قرن دون حل، متحدّية أجيالاً من أعظم الرياضيين. كانت جزءاً من “مسائل الألفية السبع”، التي رصد لها معهد كلاي للرياضيات جائزة مالية قدرها مليون دولار لكل من ينجح في حل واحدة منها.
في عام 2003، دون سابق إنذار، نشر بيرلمان سلسلة أوراق علمية على موقع إلكتروني مفتوح للعلماء (arXiv)، عارضاً فيها حلاً كاملاً للحدسية، دون أن يسعى لنشره في المجلات المحكمة أو الترويج له. استغرق المجتمع العلمي ثلاث سنوات لفحص برهانه، الذي أُعلن صحته رسميًا عام 2006، ليُحدث ما يشبه الزلزال في الأوساط الأكاديمية.
جوائز رفضها… ومبادئ لم يتنازل عنها
مباشرة بعد التحقق من صحة الحل، أعلنت اللجنة الدولية لميدالية “فيلدز” – أرفع جائزة في الرياضيات – عن فوز بيرلمان بالجائزة في مؤتمر مدريد الدولي سنة 2006. لكن المفاجأة كانت صادمة: رفض بيرلمان الجائزة، بل ورفض حضور الحفل من الأصل.
بعدها بأربع سنوات، عرض عليه معهد كلاي جائزة المليون دولار، باعتباره أول من نجح في حل واحدة من مسائل الألفية، فرفضها أيضاً.
وفي أحد تصريحاته النادرة للصحافة، قال: “لست مهتماً بالمال أو الشهرة. لا أريد أن أكون جزءاً من هذا العالم المعتوه المليء بالمنافقين والمتملقين”.
هذا التصريح لم يكن مجرد انفعال عابر، بل كان ترجمة حقيقية لفلسفة حياة اختارها بيرلمان عن قناعة، تبتعد عن التزلف الأكاديمي، وتنتصر للعلم من أجل العلم فقط.
عزلة طوعية… وعبقرية لا تموت
بعد رفضه للجوائز، انسحب بيرلمان تمامًا من الوسط الأكاديمي، ورفض عروضاً للعمل في أرقى جامعات العالم، منها برنستون وأوكسفورد. يعيش اليوم حياة متواضعة في شقة صغيرة بمدينة سانت بطرسبرغ، نادراً ما يُرى، ولا يستخدم وسائل التواصل أو الهاتف المحمول.
ورغم ابتعاده عن الأضواء، ظل تأثيره العلمي قائماً، وبرهانه على حدسية بوانكاريه يُدرّس اليوم في أعرق الجامعات، باعتباره أحد أعظم الإنجازات الرياضية في القرن الحادي والعشرين.
قدوة في زمن الاستهلاك
قصة غريغوري بيرلمان ليست مجرد إنجاز علمي، بل درس أخلاقي وإنساني بليغ. ففي زمن تتسابق فيه العقول على الجوائز والظهور الإعلامي، جاء رجل بصمتٍ تام، حلّ أعقد مسألة في الرياضيات، ثم اختفى.
عبقريته لم تُقِمه جوائز، ولم تُغْره الملايين، بل اختار أن يكون صوت ضمير نادر، يُذكّر العالم بأن المعرفة لا تُقاس بالأموال، وأن النزاهة العلمية تظل أسمى من كل الأوسمة.