من خطوات التأسيس الأولى للحركة الإسلامية المغربية: (الحلقة الخامسة)

الوطن24/الشيخ عبد الكريم مطيع 

كان الإنفاق من أهم عقبات التأسيس التي واجهتنا، وكان جمهور حركتنا قد اتسع كثيرا ولا يكاد يستوعب أننا نبني حركة تغيير إلا بصعوبة وضبابية، جمهور من طلبة أغلبهم فقراء، وأوساط شعبية هي نفسها تحتاج إلى المساعدة، ومعلمين لا يكاد راتبهم الشهري يغطي نفقة أسرهم وإيجار بيوتهم، وعندما شكا بعضهم في خلية للمعلمين ندرة كتب الفكر الإسلامي وغلاءها اقترحت عليهم اتخاذ أمين منهم يدخرون لديه مساهمة مادية أسبوعية قدرها ربع درهم ( خمس ريالات)، والدرهم حينئذ ربع دولار، يخصصونها لشراء ما يحتاجونه من مراجع، فوافقوا وواظبوا على ذلك حوالي شهرين تقريبا ثم بدا من واحد منهم تضايق من هذا الادخار وشبهه بعمل النقابات، فلما بلغني الخبر، اكتفيت حفاظا على الصف الذي كان هشا بأن سألت في لقائهم الأسبوعي أمينهم عن مبلغ ما جمع لديه فذكر قدره وأشرت عليهم أن يبادروا بشراء كتب يدرسونها فوافقوا وكلفت أمينهم بأن يصحب معه أخوين إلى إحدى المكتبات لتنفيذ رغبتهم، وفي الجلسة الأسبوعية الموالية أمرتهم بإلغاء عملية الادخار مطلقا تجنبا مني لأي “قيل وقال”.
كان موضوع الإنفاق المالي هاجسا يؤرقني، وعائقا مهما في طريق بناء الحركة، والإنفاق عادة لا تطيب له إلا نفوس من يعرف هدفه ومسعاه، وهذه المعرفة لم تكن متوفرة لدى بعضهم على الأقل، ولما طرحت موضوعه على خاصة الإخوة لم أجد فيهم من له القدرة على المساهمة إلا الأخ عبد اللطيف عدنان وكانت زوجته مدرسة تساعده براتبها، والأخ محمد العبدلاوي المدغري وزوجته مديرة مدرسة ابتدائية تساعده كذلك براتبها، وله بيت في مدينة سلا يتسلم إيجاره الشهرى، والأخ سعيد أصواب (من آيت أصواب في سوس) صاحب مكتبة بسيطة بشارع آيت يفلمان بالدار البيضاء، وأنا رابعهم براتبي الشهري وراتب زوجتي، ثم لما علمت والدتي رحمها الله بالأمر ولها قطعة أرض زراعية ورثتها من أبيها في الشاوية العليا حول مدينة ابن أحمد، وضعتها بين يديَّ على أن أخصص محصولها للحركة، فوضعتها كذلك بيد أحد شبابنا يشتغل بالفلاحة وله أدواتها بالشاوية العليا، كي يستزرعها وننفق ريعها على الدعوة، وتحملت مع الأخ عبد اللطيف عدنان والأخ العبدلاوي جميع النفقات الأخرى، كل من موقعه وحسب طاقته، وتحمل الأخ سعيد أصواب توفير الأدوات المدرسية أقلاما ودفاتر وكتبا مدرسية وغيرها لطلبتنا الفقراء على كثرتهم في بداية كل موسم دراسي وأثناءه، فكنت أرسل إليه صاحب الحاجة من الطلبة مزودا برسالة موقعة مني فيوفر له حاجته، على أن يودع عنده الإخوة الكبار صدقاتهم لنفس الغاية، فقام بذلك بكل أريحية وكرم وخفف عنا هم حاجة فقرائنا من التلاميذ والطلبة. أما النفقات الأخرى فكانت شخصية، يقوم بها من كلفها وتشمل التنقل وطباعة الدروس الأسبوعية وشراء الكتب التي نزود بها الخلايا الطلابية وخلايا المعلمين، والأسفار الدعوية بين المدن، أو الاستضافات الدعوية لمن نطمع في تأليف قلوبهم وكانت لكثرتها لا تكاد تعد، فكنت مع الأخ عبد اللطيف عدنان والأخ العبدلاوي المدغري نتكفل بها حسب استطاعتنا، حتى إذا كلفنا أحدا من غيرنا بإقامتها في بيته مكناه من تكاليفها المادية، خشية أن نفتح بابا لفتنة شيطانية لا قدرة لنا على إغلاقه وصفنا على ما هو عليه من الهشاشة. وكانت هذه هي الثغرة التي عانيناها طيلة حركتنا، إذ لم نعود أبناء الحركة على العطاء منذ اليوم الأول لعملنا.
وفي هذه الأثناء أرسلت إلي وزارة الثقافة رسالة تخبرني بها أنها خصصت لنا دعما قدره ألف درهم (ما يعادل مائة دولار) فأخبرت الأخوين عبد اللطيف والعبدلاوي فرأيا إهمال الرسالة، وكان ما رأيا.
ثم كانت الثلمة الأولى في صفنا بموت الأخوين محمد العبدلاوي المدغري وسعيد أصواب رحمهما الله، وكان موتهما بإذن الله موتا للصالحين وعلى حسن خاتمة إن شاء الله.
أما الأخ العبدلاوي فكان يعاوده ألم خفيف بين الفينة والأخرى، ثم اشتد به الألم مرة فأخذته بنفسي إلى عيادة دكتور معروف ومشهور أعرفه جيدا أجرى له الفحوص اللازمة وقرر التعجيل بعملية جراحية له بتنسيق مع ابن أخت له ممرض بدرجة مساعد طبيب، فوافقت زوجته وأجريت له العملية، إلا أني فوجئت بالطبيب الجراح يدعوني هاتفيا بعد العملية مباشرة لزيارته منفردا في مكتبه، وعند زيارته أسر إلى بأن الأخ مصاب بسرطان حاد وسريع في الجهاز الهضمي، وقد استؤصل الجزء المصاب، ولكن المرض قد يعود بعد حوالي ستة أشهر ويكون مميتا لا محالة، وليس من المناسب أن نخبره بالأمر أو نخبر أسرته كي يقضي مرتاحا هذه الفترة المتبقية له من الحياة والتي قدرها الطبيب بحوالي ستة أشهر، وفعلا خرج الأخ من المستشفى وظهرت عليه معالم الشفاء وسافر بسيارته إلى مسقط رأسه بالصحراء الشرقية (قصر السوق وما حوله) حيث عاوده المرض، فرجع إلى بيته بمدينة سلا، واضطر ابن أخته الممرض أن يخبره بحقيقة حالته الصحية، كي يرتب أمر عائلته وأبنائه ويترك وصيته، فتقبل رحمه الله الخبر بصدر رحب وبكى قليلا ثم عكف على تلاوة القرآن ويردد طيلة ما بقي له من الحياة (إنا لله وإنا إليه راجعون..)، وفي ليلة وفاته خاطب زوجته فقال: ( فلانة أرى أنني أثقلت عليك بمرضي وبما تأخر عني ما قدره الله لي، لقد جاء الفرج إن شاء الله، أنيمي الأطفال هذه الليلة مبكرا وأيقظيهم غدا مبكرا وعجلي لهم بطعام الإفطار)، وفي ضحى اليوم الموالي قال لها نظفي بيتك ورتبيه بسرعة، ثم بعد الزوال سمع تكبيرا في الشارع فقال لزوجته انظري مصدر التكبير فرجعت إليه وقالت: نعش يحمله بضعة أفراد إلى المقبرة المجاورة، ويبدو أن الميت فقير ولا مشيعين له، فترحم عليه وقال لها: هات قماشا نظيفا وضعيه على رأسي ووجهي، ثم اتركيني أرتاح فترة، ففعلت ما أمرت به، ثم غابت لحظات وعادت فوجدته قد التحق بالرفيق الأعلى.
وكنت قد زرته قبل وفاته بيومين صحبة الأخ إبراهيم كمال الذي لم يكن يعرفه من قبل أو يرآه لحداثة التحاقه بالحركة، فوجدناه نموذج الصابر المحتسب وقد أكل المرض جسده فلم يبق منه إلا مثل فرخ دجاج له عينان حادتان ينبعث منهما نور مشع، وعندما قبلت رأسه مودعا استوقفني وخاطبني بلهجة الواثق: (اسمع يا أخي، إنكم على الحق فاثبتوا وإن الدنيا غرارة فلا تغرنكم وإنكم ملاقون شدائد فاصبروا). رحم الله أخانا وأسكنه الجنة بواسع رحمته وفضله، فقد كان سباقا إلى فعل الخيرات وسباقا إلى الآخرة وسباقا إلى الجنة إن شاء الله، نحسبه كذلك والله حسيبه.
وأما الثلمة الثانية فموت الأخ سعيد أصواب، وذلك أنني فوجئت بمكالمة هاتفية منه ذات يوم أخبرني فيها بأنه نزيل بمستشفى خاص وأجريت له عملية جراحيةـ فضل ألا يخبرني بها كيلا أثنيه عنها، وفعلا زرته وواظبت على زيارته يوميا، وفي يوم الجمعة الموالي خرجت من المسجد بعد صلاة الجمعة وزرته مباشرة في غرفته بالمستشفى، وعندما أخذت كرسيا عند رأسه وجلست، نظر إلي وسأل: من هذان اللذان جاءا معك من المسجد؟ قلت: جئت وحدي، قال بل جاء معك شخصان أراهما جالسين قريبا منك عن يمينك وعليهما ثياب بيض، ولم يكد يتم حديثه حتى دخل الطبيب الجراح لمراقبة حالته الصحية وطلب مني الانتظار خارج الغرفة، وفعلا مكثت على باب الغرفة لحظات فخرج الطبيب يعلن أسفه وتعزيته في وفاة أخينا سعيد أصواب، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *