(84 ـ 85) حديثي اليوم عن المؤتمر الأممي للسلام العالمي: المؤتمر الأممي للسلام
الوطن 24/ بقلم: الدكتور خالص جلبي
المؤتمر الدوري السنوي الذي يعقد في مكة ويحضره الناس من كل فج عميق، يمثل أعظم تظاهرة انسانية عرفها الجنس البشري حتى الآن. هذا الاحتشاد الانساني مبرمج الزمان والمكان، غير قابل للتأجيل والالغاء، غير مقيد بلغة أو عرق أو لون أو جنس؛ فهو أعظم من أي مؤتمر وتجمهر وتجمع على وجه الأرض. ولا يحلم أي مؤتمر انساني أن يصل إلى مستواه، يشارك فيه الرجل والمرأة بحضور لا يقبل التمثيل، والدعوة مفتوحة بإلحاح طالما توفرت نفقات هذه الرحلة المصيرية للقاء انساني فريد متميز. صفته أنه مفتوح للإنسان (ولله على الناس حج البيت)؛ ولفظة (الناس) الأممية كانت غريبة عندما أطلقها القرآن، فالناس كانت ومازالت تنتسب الى أسماء شتى من قبيلةٍ وحزب وطائفة وشيعة. والقرآن رد الانسان الى أصله الذي خرج منه بدون كل الإضافات الجديدة، والهوامش التي تحجب حقيقته.
إن العديد من مظاهر الترميز في الحج لا يدركها الكثير من الناس من خلع كل الملابس، ولف الجسد بفوطة بسيطة، تعبيراً عن محو الفوارق، وإزالة الامتيازات، وزرع الديموقراطية وروح المساواة بين العباد؛ فهذا الإزار الأبيض البسيط يشع بمعاني كبيرة، فهو رمز الكفن لكسر غرور الإنسان، وهو اللون الأبيض رمز الطهارة والنقاء لكسر مبدأ الغدر المستشري في العالم الإسلامي، ونشر مبدأ الأمان والثقة الاجتماعية، وهو إشعاع بزوال طبقة الامتيازات؛ فهو تنزيل واقعي لفكرة التوحيد التي تدشن وحدانية الله ومحو الامتيازات لأي شخص أو طبقة أو طائفة وملة (أن لا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله).
ومع كل زخم هذه التظاهرة فمعظم العالم الإسلامي لا يدرك المغزى العميق خلف المناسك التي يمارسها، فتبقى حركات يؤديها، وطاقة جبارة لا يستفيد منها؛ فهو لا يدرك (الرمزية) في الحج، ولا الدلالة العميقة لانتخاب اللون الأبيض، ولا هندسة الدوران (السبعة) في الطواف، التي تربطه بالاستمرارية والأبدية، خلافاً للحركة باتجاه واحد، أو تاريخية الصفا والمروة وعلاقتها برحلة إبراهيم عليه السلام في الشرق الأوسط، بين حضارة سومر والحضارة الفرعونية، بين الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، وبين صحراء وواد غير ذي زرع.
الرموز ودلالتها (اللون الأبيض):
ومع اللباس الأبيض غير المتميز تُعلن الديموقراطية العملية، فليس هناك امتيازات لأي شخص أو عائلة أو طبقة أو حزب أو طائفة وقبيلة.
ومع اللون الأبيض تشع الطهارة الأخلاقية والنظافة البيولوجية؛ فالمجتمع الإنساني الإسلامي يقوم على الأمان وليس الغدر. ومن اللون الأبيض يبرز معنى السلام العالمي؛ فهذا اليوم يأمن فيه الإنسان والطير والدابة والنبات وحتى شعر اللحية والأظافر فهي تسبيحة سلام هائلة، ويكف الإنسان عن الجدل (ولا جدال في الحج) ويتحول المكان إلى (حرام) أي يحرم فيه قتل الإنسان، ومع حرمة البيت مكاناً تنبثق فكرة (الحرام الزمانية) ففي (الأشهر الحرم) يحرم سفك دم الإنسان، فمن هذا البيت القديم الذي أُسس قبل ما يزيد عن أربعة آلاف سنة تم تدشين فكرة السلام العالمية، كممارسة مكررة سنوية، وكتجربة ميدانية محدودة، من أجل تعميمها عالمياً، ككل تجربة ناجحة صمدت عبر آلاف السنوات، فالحج وظاهرة الأشهر الحرم كانت حتى قبل بعثة الاسلام دورية مكررة في عرب الجزيرة. واللباس الأبيض يذكر بالحشر وقيام الناس لرب العالمين بأعمالهم وليس بانتسابهم أو ثرواتهم؛ فهو لون الكفن، والكفن ليس له جيوب.
واللباس الأبيض يُعلن حذف كل الامتيازات الخاصة برد الإنسان إلى مصدر واحد يتساوى فيه جميع الخلائق، وتتحول ظاهرة الحج إلى (دورة أمم متحدة) من نوع جديد، تنحسر فيه قوى الاستكبار العالمية، ويشطب منه حق الفيتو الظالم الذي تنفرد به حكومات بعينها، حولت العالم إلى مولود مشوه تملك فيه طبقة صغيرة مقدرات الأغلبية في الكون.
وفي الحج تطغى وتسيطر على السطح فكرة الأضحية والغوص في التفصيلات الفقهية، ويغيب معنى (القربان) والإعلان الإبراهيمي؛ من التقدم بقربان الحيوان إعلاناً للكف والتوقف وإلى الأبد عن التضحية بالإنسان، في كل صور القرابين التي تقدم في الحروب، تمهيداً لإعلان السلام العالمي، والدعوة لإقامة حلف عالمي للدفاع عن الانسان المظلوم أياً كان معتقده ومكانه فهذا هو جوهر مفهوم الجهاد.
فكرة القربان:
ولعل فكرة (القربان) كان مصدره الخوف من الطبيعة عند الانسان البدائي، الذي لم يستطع تفسير الظواهر الكونية، التي حركت عنده مزيج من مشاعر الدهشة والفضول والخوف والاجلال. قبل أن يتأسس مفهوم السنن الإلهية، والنواميس المبرمجة في تسيير الكون البديع.
يقول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في كتابه قصة الحضارة: (الخوف كما قال لوكريشس أول أمهات الآلهة وخصوصاً الخوف من الموت، فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار، وقلما جاءتها المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية، فقبل أن تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل كانت كثرة الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف، ومن هنا لم يصدق الانسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية وعزاه الى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة) (1)
ولحل هذه الاشكالية من أجل إرضاء الآلهة والتقرب إليها ولدت فكرة التضحية بالقربان، التي بلغت ذروتها بالتضحية بالإنسان بذاته، وتروي لنا الحضارات القديمة طقوساً مرعبة من مناظر التضحية بالإنسان، عندما كان يبقر صدر الشاب القوي في حضارة الازتيك ويستخرج قلبه وهو يخفق بين استحسان الجمهور ورضا الكهنة، أو إلقاء مئات الأطفال الى النار في مهرجان حربي مفزع عند أهل قرطاجنة المحاصرين، أو تنتقى الفتاة الجميلة من خيرة العائلات الفرعونية كي يتزوجها النيل فيكون مهر الفتاة الطمي الخصيب المتدفق من هضبة الحبشة، فأبطله عمر(ر) بنفس الطريقة المثيرة التي يؤمن بها أهل مصر، الذين كانوا يتغذون على الخرافة، التي تبثها طبقة الكهان، فقذف بين لجاته بخطاب مطوي ـ إن صحت الرواية ـ بلهجة لا تخلو من عبارات السخرية وحكمة العقل السنني: (يانيل إن كنت تجري بسنة الشيطان فلا داعي لنا بجريانك، وإن كنت تجري بسنة الله فاجر كما كنت تجري).
الحرب والقرابين البشرية:
وكما انطلقت فكرة القربان البشري لأخصاب الزرع وتدفق المياه؛ فذُبح الانسان على نصب الآلهة المزيفة، كذلك انطلقت فكرة الحرب تحت وطأة وضغط وثقل هذه الفكرة العنفية، من أجل إرضاء أصنام جديدة، فأخذت فكرة (الحرب) القاعدة التشريعية المبررة والمعقلنة والمقدسة.
هذه المرة لم يتم ذبح الانسان بشكل فردي تحت أنظار جمهور حاشد متلهف يترقب إهراق الدم، بل أصبح المعبد الجديد ساحة كبيرة يقتل فيها مئات الآلاف وتتدفق فيها أنهار الدم، كما قال الجندي الروسي الذي كان يرافق القيصر الروسي نيقولا الثاني أثناء فترة أسره الأخيرة قبل إعدامه بيد الشيوعيين: ((أيها القيصر: إنك تفتقد أقل قدر ممكن من التصور!! هل تعلم كم قتل من الناس في الحرب بموجب الأوامر التي أصدرتها؟؟ لقد مات سبعة ملايين.. إهرقت فيها سبعة ألتار من الدم من كل جندي شاب.. سبعة ليتر من الدم، لسبعة ملايين شاب.. إنها أوقيانوس من الدم ؟؟!!)
إن التاريخ يحدثنا بفصول مروعة من مناظر القرابين البشرية التي تم تقديمها لآلهة القوة والحرب الكاذبة، بدءاً من معركة (كاني) التي ذبح فيها (هانيبال) ثمانين ألف من الرومان، بعد أن أطبق عليهم بنظام (الكماشة) فكان يقطعهم ويفرمهم مثل (لحم السلامي) عندما حولهم الى كتلة مختنقة محاصرة تقاتل حوافها فقط فتُذبح أمام آلة هانيبال العسكرية. ومروراً بحرب الثلاثين عاماً التي استعرت فوق الأرض الألمانية بين عامي (1618- 1648م) وختمت بصلح وستفاليا (WESTFALLEN) عام 1648 م التي وضعت نهاية لحرب ضروس يصعب تصورها بدون قراءة سطور التاريخ المدونة.
اندلعت هذه الحرب المروعة ببدايات بسيطة وتنافسات تافهة بين أمراء الإقطاعيات، ولم يكن يخطر في بال أحد أنها ستكون كما قال الشاعر العربي امرؤ القيس قديماً:
أولُ ما تكون الحرب فُتيَّةٌ تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشُب ضِرامها غدت عجوزاً غيرُ ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت مكـــــــــــروهةً للشم والتقبيل
اشتركت في هذه الحرب جيوش شتى من ألمانية وسويدية وفرنسية وهولندية وإسبانية ودانماركية، وتطاحنت مذاهب متفرقة من كاثوليك وبرتستانت وكالفانيين، ودُمرت الأرض الألمانية شرُ تدمير، وقضى نحبهم حوالي ستة ملايين من أصل (21) مليوناً، أي مات حوالي ثلث السكان، وبالطبع من الشباب، ففي الحرب تنقلب الآية فيدفن الآباء أبناءهم، لاكما هي سنة الحياة بدفن الصغار آباءهم الكبار المسنين!! ولم تقم لألمانيا قائمة إلا بعد قرن من هذه الحرب الأهلية المدمرة، واضطرت الكنيسة الى اصدار قرار نورنمبرغ المشهور بأباحة تعدد الزوجات، خلافاً للتعليمات المسيحية، استناداً الى العهد القديم في هدف تعويض النسل الانساني البائد بأي طريقة وبأسرع وقت ممكن.
جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت : (( تناقص عدد سكان ألمانيا بسرعة أثناء الحرب، وتقول التقديرات المعتدلة بأن عدد سكان ألمانيا والنمسا، هبط من ( 21 ) إلى ( 15 ) مليوناً، وبين ( 35) ألف قرية في ( بوهيميا ) هناك نحو ( 29 ) ألف قرية هجرها أهلوها أثناء الصراع، وهناك في مختلف أنحاء الامبراطورية مئات من القرى لم يبق فيها ساكن واحد، وقد يقطع المرء في بعض الأقاليم ستين ميلاً دون أن يرى قريةً أو بيتاً، وتُركت آلاف الأفدنة الخصيبة دون فلح أو زرع بسبب نقص الرجال أو الدواب أو البذور، أو لإن الفلاحين لم يكونوا على ثقة من أنهم سوف يحصدون نتاج مايزرعون، واستخدمت المحصولات لإطعام الجيوش، وكان ماتبقى يحرق لئلا يستفيد منه الأعداء ، واضُطر الفلاحون في كثير من الأماكن إلى أكل الفضلات المخبأة أو الكلاب والقطط والفئران أو جوز البلوط والحشائش، وقد وجد بعض الموتى وفي أفواههم بعض الحشائش، وتنافس الرجال والنساء مع الغربان والكلاب على لحم الخيول الميتة، وفي الألزاس انتزع المعتدون المشنوقين من المشنقة تلهفاً على التهام جثثهم، وفي أرض الراين كانت القبور تنبش وتباع الجثث لتؤكل، واعترفت إمرأة في مدينة ( الساربروكن _ SAARBRUEKEN ) بأنها أكلت طفلها، وأصبحت المدن الكبرى أطلالاً خربة: ماجديبورج (MAGDEBURG) وهايدلبرج ( HEIDELBERG ) ونورمبرغ ( NUERNBERG ) وبايروث ( BAYREUTH ) وتدهورت الصناعة، وكسدت التجارة، وصار التجار الذين كانوا يوماً أثرياء، يتسولون أو يسرقون ويسلبون من أجل لقمة العيش، وبات الهواء ساماً بسبب الفضلات والنفايات والجثث المتعفنة في الشوارع، وانتشرت الأوبئة مثل التيفوس والدوسنطاريا والتيفود والاسقربوط بين السكان المذعورين، ومرت القوات الاسبانية بمدينة ميونيخ فتركت وراءها طاعوناً أودى بحياة عشرة آلاف ضحية في أربعة أشهر، وذوت وذبلت في أتون الحرب الفنون والآداب التي كانت تضفي على المدن شرفاً ومجداً، وانهارت الأخلاق والروح المعنوية على حد سواء، واختفت كل المثل الدينية والوطنية بعد جيل ساده العنف )) (2)كانت نهاية هذه المعاناة لحرب الثلاثين عاماً في عام ( 1648) م، واما في عام ( 1864) م فقد بدأت كارثة لا تكاد تصدق، ولم تسلط عليها الأضواء تماماً حتى الآن، وهي حرب (الباراغواي) ضد تحالف (الارجنتين والبرازيل والأورغواي). مات في هذا النزاع الدموي والذي استمر ست سنوات حوالي (80%) من سكان الباراغواي، كان عدد السكان مليون وثلاثمائة ألف نسمة، لم يبق منهم سوى (200) ألف فقط؟؟!! وفي الحرب العالمية الأولى قُتل في معارك (السوم) في أوحال وخنادق الأرض الفرنسية بين (تموز- يوليو) و(نوفمبر- تشرين الثاني) عام 1916م مليون و265 ألفاً من شباب أوربا، منهم 650 ألفاً من الألمان و420 ألفاً من البريطانيين و195 ألفاً من الفرنسيين، كل ذلك من أجل تحرير بضعة أميال مربعة تافهة جرى الكر والفر حولها في أربعة أشهر بئيسة لا تمحى من الذاكرة الانسانية. وختاماً في الحرب العراقية الايرانية عندما قتل في أحد المسالخ البشرية في معركة كربلاء خمسة 65 ألفاً من الجنود الشبان من الطرفين، دفنت فيها الأمهات الإيرانيات 45 ألفاً من أولادهن، ودفنت العائلات العراقية 25 ألفاً من شباب المدن العراقية في عمر الورد ونضارة الربيع الباسم، في حرب عقيمة مدمرة، استمرت ثماني سنوات عجاف أطول من الحرب العالمية الثانية، لم يستفد منها سوى مصانع السلاح الألمانية والفرنسية وثلاثين دولة أخرى كانت تمول الحرب وتطول في أمدها.
إن ظاهرة الحرب أصبحت قرباناً هائلاً مخيفاً من نوع جديد، وكانت إفرازاً لتكون الدولة ونمو الحضارة في فجر التاريخ البشري، فالدولة نشأت على احتكار العنف من أجل توفير الأمن لأفراد المجتمع، ولكن بقدر ما ضبطت الدولة الأمن داخلياً بقدر ما أُصيبت بعدوى العنف الخارجي، فالدولة أمسكت بالأفراد داخلياً فامتنعوا عن حل مشاكلهم بالعنف، ولكن غول الدولة الخارجي لم يمكن ضبطه بنفس الآلية، فالجنس البشري ما يزال ينتظر ولادة دولة الدولة، فكما أمسكت الدولة القومية والقطرية – من أجل أمن الأفراد ومن خلال احتكار السلاح بشكل مونوبول – برقاب الأفراد؛ فوقف عنف الأفراد ضمن الدولة الواحدة، كذلك سيصل النمو الانساني الى تكوين الدولة العالمية التي تحتكر الخبز والسلاح عالمياً، فتقضي وبضربة واحدة على المجاعات والحروب، ويتحقق الحلم البشري في السلام على الأرض والسعادة في القلوب، وهو الذي يبشر به الحج عالمياً. ويقوم بتدريب الجنس البشري عليه في دورة سنوية غير قابلة للتأجيل والإلغاء وتبديل المكان، فهي دورة انعقاد مبرمجة الزمان والمكان، دولية مستمرة لا تمسك بها منظمة دولية بل قلوب البشر أجمعين، مفتوحة لكل الألوان والأعراق واللغات والثقافات والجنس، فهي محررة من كل أمراض الطاغوت البشري.
الإعلان الابراهيمي:
إن هذا الاختلاط بين (قربان الإنسان) الفرد القديم و(قربان الشعب) من خلال الحروب يحتاج لتسليط الضوء عليه من خلال موقف إبراهيم وابنه الذي أخذ لقب (اسماعيل الذبيح) حيث يمثل إبراهيم الانعطاف التاريخي بين العهد القديم وقرابينه، والعهد الجديد بإعلان الدين العالمي الجديد وتحرير الانسان من الصنم والقربان، والتوقف عن التضحية بالإنسان في أي صورة من الصور.
إن الترميز يبلغ ذروته في التقدم بإهراق دم الحيوان كناية وتعبيراً وبأسرار عبرت عنه السيرة والحديث في صور شتى، من أجل توكيد المعنى الضخم في التوقف وللأبد عن إهراق دم الإنسان. لأنه أعظم ما في الوجود وخليفة الله في الأرض.
إن فداء اسماعيل ومشروعية الأضحية اعلان ضمني للسلام العالمي والله لن يأكل اللحم ولن يشرب الدم، ولكن الانسان هو الذي يشع بالتقوى (لن ينال الله لحومها ولا دماءها ولكن يناله التقوى منكم) (3)
ومظاهرة الحج الكبرى هي قمة السلم العالمي في الاجتماع الانساني؛ فليس هناك من مدينة على وجه البسيطة إلا ومنها حاج قد جاء على ضامر ليس آخرها طائرة الكونكورد!! وقد تكون ضامرات المستقبل الصواريخ والقطارات المغناطيسية الطائرة!!
وكما يجتمع المسلم ( الانسان ) مع أخيه في حلقات تكبر بشكل متصاعد بدءاً من حلقة الحي في المسجد، ومروراً بصلاة العيد عندما تخرج البلدة كلها عن بكرة أبيها في استعراض لقوة المسلمين؛ بما فيها النساء ( الحيَّض ) للحضور فقط بدون الصلاة، وكم يتأسف الانسان حينما يرى انصراف المصلين بعد صلاة ركعتي العيد، مع أن الاجتماع هو لحضور الخطبة، التي تنطق تنتقد وتحلل واقع الأمة، ولعل صلاة الجمعة لو انقلبت فكانت مثل صلاة العيد: الخطبة بعد الصلاة، لكان مصيرها مثل مصير خطبة العيد، فهو مؤشر على مرض عميق في جسم الأمة الاسلامية. كذلك فإن الحج هو اللقاء الكوني الأعظم، ولذا ناسبه خطاب عالمي يدشن السلام العالمي.
حصانة الأشهر الحرم:
ولتأكيد أهداف هذا الحج حرص الاسلام على تشريع حصانة (الأشهر الحرم)، فالناس قبل هذا الحدث كانوا معرضين للانتهاب من كل جانب (أولم يروا أن جعلنا حرما آمنا ويُتخطف الناس من حولهم) فجعل الأشهر الحرم ذات بناء كوني (يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) (4) ونحن الآن لا نستطيع أن نتصور وضع العالم مالم نستحضر الصورة التاريخية. فهذه البقعة هي مكان تجربة رائدة في محاولة لتعميمها على الجنس البشري، كي يتم تحويل الكرة الأرضية الى بحيرة سلام.
لقد نجحت هذه التجربة في مساحتها الضيقة وصمدت عبر آلاف السنوات عموماً، لذا كانت مهمتها الأساسية شحن (الحاج) بهذه المهمة العالمية، أي شحن روح العالم بروح السلام، والتوقف عن التضحية بالإنسان لأي شكل من أشكال القوة الكاذبة لآلهة مزيفة، وأصنام خرساء، ودعاوى باطلة، وشعارات فارغة، وطروحات مضللة.
ولكن المسلمين يستولي عليهم شعور (السيف) فيريدون فتح العالم هذه المرة بالسلاح النووي، وهذا الغرام السقيم من التعلق بالقوة هو الذي حرمهم إمكانية الاستفادة من كل هذا الزخم الروحي الفكري من ينبوع الحج ومصادر القوة الاسلامية الروحية.
الحاجة الملحة في العالم العربي لمفاهيم الحج السلامية:
إننا نحتاج في العالم العربي وبشكل اسعافي الى اعلان ميثاق الأمن والأمان الاجتماعي ونقل المجتمع الى الحالة المدنية في الواقع وليس على الورق، ولن يكون هذا بدون تفشي الروح السلامية، من أجل إعادة الحوار لأطراف الوجود الاجتماعي.
إن قصة القربان الموجودة في القرآن في الصراع الذي نشب بين ولدي آدم يروي لنا أسلوبا جديدا في حل المشاكل، فالطرف الناجح تنازل عن القوة من طرف واحد، وأبدى استعداده ليس أن يقتل الآخر بل أن يموت دفاعاً عن الموقف السليم.
إن عدم الدفاع عن النفس تحول المهاجم من بطل الى مجرم، فينسحق تحت شعور الجريمة، إلا ان يغير موقفه فيندم ويتوب، ويكون بذلك من مات قد نقل الحياة الى أفكاره فكسبت الخلود، وتحول القاتل بعد التوبة الى جندي جديد لفكرة المقتول ظلماً. وهذا تكتيك لا نستطيع فهمه في ثقافتنا التي تفيدنا في رد الصاع صاعين والسيف أصدق أنباء من الكتب. مع وجود النصوص الكثيرة في هذا الاتجاه، ولكن العمى الثقافي وضغط الوعي الانتقائي يجعل المرء لا يفهم الأشياء.
إن ما نحتاجه الآن ليس إلغاء الآخر بل إيجاده، لأنه في اللحظة التي نلغي فيها الآخر نلغي فيها انفسنا، وهكذا يسبح الانسان العربي في هذه البلاسما الثقافية المشتركة، قد تورطت فيها كل الاتجاهات والفصائل وشرائح التفكير، ويظن الكثير أن اغتيال الحكام وقلب الانظمة سيغير الأوضاع بضربة سحرية، ولا يظهر أوهام مثل هذه الأفكار إلا الأمثلة الفاقعة؛ مثل لو نقلنا كلينتون لحكم غانا وبالعكس، ورجعنا بعد أربع سنوات لنرى المحصلة، فستكون المفاجأة عجيبة عنما نرى نفس كلينتون الديموقراطي قد تحول الى حاكم دولة من العالم الثالث، وبالعكس الأفريقي الى انسان ديموقراطي مهذب منضبط مراقب محاسب !!
التطور العالمي وحقائق القوة:
إلا أنه على الرغم من سيل القرابين البشرية فإن هناك ( بانوراما كونية ) تسيطر على الرؤية ، فالكون بدأ في الاستجابة لدعوة ابراهيم عليه السلام ، فبدأ العالم يدخل مرحلة السلام ويودع آلهة القوة الكاذبة ، وكان الانعطاف التاريخي في صباح السادس عشر من تموز يوليو عام 1945 م عندما جربت القنبلة النووية للمرة الأولى ووضع الانسان يده للمرة الأولى على قوة استعار النجوم وتوقدها الذري الرهيب، وأصبحت الحرب كما وصفها القرآن ( يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) ولكننا لانفهم هذا التطور الكوني العالمي لسبب بسيط أو لسببين : أننا فقدنا وظيفة (الشهادة) فنحن لانعرف ماذا يحدث في العالم ، ثم إننا لانعرف هذا العالم لأننا لم نشترك في صناعته، كما سألني أحدهم في زيارتي الأخيرة الى الجولان: هل أنت في وهم أم حلم أم جهل ؟!! مات عشرات الآلاف في لبنان من الحرب الأهلية، وامتلأت البوسنة بالمقابر الجماعية، فحديثك السلمي نشاز، وأغانيك بكاء وعويل، وتفاؤلك دموع ودماء، وساحتك قبور.. والانسان وحش!! وأضاف صاحبه الذي كان برفقته إن اليابانيين يستعدون للثأر النووي؟!! قلت لهما واحسرتاه.. نعم كان عدد من الناس يتبركون برسول الله (l) ويجمعون شعره وعرقه ولكنهم لا يفهمون أفكاره، وهذا الصنف هو الذي أضاع الخلافة الراشدة مع الانقلاب الأموي!؟ وكان من الصحابة مثل عمر وعلي (j) من استوعبوا بانوراما التغيير الاسلامية ولكنهم دفعوا حياتهم ثمنا لعدم نضج المجتمع الاسلامي. وما يبدو لي هو وجود ثغرة في إحكام مفهوم السلام العالمي، مثل الطاولة التي لاتستوي على عمود واحد من الخشب!! فلابد من إضافات أقلها اثنان، ولكنني أريد أن أقول للذي يفكر في الثأر النووي أن اليابانيين ليسوا بعقلية فلاح يعيش على الثأر والحقد، فهم يتوجهون الى القرن الواحد والعشرين الذي يفتح أبوابه لاستقبالهم وبدون سلاح!! وأما مظاهر الحروب المشتعلة في العالم فإن احصائيةً بسيطة تظهر أنها حروب تقع في مناطق التخلف في العالم، وأن الذي يملك العلم والتكنولوجيا وأسرار الأسلحة وتقنياتها الرفيعة وإنتاجها وتطويرها قد كف عن خوض الحروب، و أوربا التي ذاقت مرارة الحرب وتجرعت كأسها حتى الثمالة توقفت عن الحرب بشكل نهائي، والعداء الفرنسي الألماني التاريخي المشهور استحال الى وحدةٍ اليوم ، فالعالم الأوربي يتحد بدون أن يخسر أحد مالاً او زعامة أو أرضاً، ولا يهجم أحد على أحد ليوحده بالقوة، و أوربا تتحد اليوم ليس بطريقة هتلر أو نابوليون، بل بطريقة كول وميتران، وحرب البوسنة كانت مثل (سلاقة البيض) في بؤرة محدودة، ولعل الأخلاقية الأوربية هي التي أعطت الضوء الأخضر لصليبي القرن العشرين الصرب أن يقوموا بعملية تطهير أوربا من المسلمين، ولكن روح القرن العشرين لم تعد تتلاءم مع ريتشارد قلب الأسد، وفشلت العملية بين جرَّاح صربي فاشل ضعيف التدريب، ووعي مسلم من طراز أوربي حاذق عند قيادات بوسنية واعية من طراز الفيلسوف الحركي علي عزت بيجوفيتش .
إن التطور العالمي في مفهوم القوة وصل الى ثلاث حقائق أساسية:
تفيد الحقيقة الأولى بتوقف السير في طريق القوة وبدء العد التنازلي وبذلك خذلت هذه الأصنام سدنتها، ومعها بطلت مقولة العسكري الألماني السابق (كلاوسفيتز) من أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى.
والثانية: من يمتلك العلم والتكنولوجيا والقوة العسكرية أدرك طبيعة هذا الانقلاب النوعي؛ فكف عن حل مشاكله بالقوة فلم تعد تحارب السويد في أوربا كما فعلت في حرب الثلاثين عاماً، وبدأت أوربا في التوحد بدون السيف ونظرية البطل الملهم وعسكرتارية بسمارك.
والثالثة: إن حروب العالم اليوم هي حروب المتخلفين أو حملات تأديب المتخلفين الذين لا يملكون لا التكنولوجيا المتطورة ولا قاعدتها العلمية فضلاً عن المناخ الديموقراطي الذي يشكل القاعدة العلمية ويفرز أدواتها التكنولوجية. والمأساة في الحقيقة الثالثة أن من يريد من دول التخلف بدء الحروب واقتحام لجتها يستطيع ذلك، ولكن المفاجأة ستسحره بعد حين عندما يكتشف أن مصيرها وخاتمتها ونتيجتها ليست بيده، فمصير الحروب ترجع مرة أخرى الى يد عالم الكبار، مالكي التقنية العسكرية العلمية، طالما كان مصير الحرب تقنياً، وهذا يقود الى حقيقة مرة ومفزعة وهي أن من يود ان يتسلح ويخوض الحروب يكون قد رهن مصيره بيد صانعي السلاح مرة أخرى وباع نفسه لهم.
ولكن المشكلة في مرض التخلف أنه صفة وراثية مثل قصر القامة (5) لا توجع أحداً ويبقى حاملها آخر من يعلم بها أنه قصير وبشيء من الغيظ، فهو لا يريد أن يعترف بهذه الصفة مالم يقف بين العمالقة، وإذا علم بها مرغما فإن مشكلته غير قابلة للحل لافي جيل ولافي بضعة أجيال لأن مصير الضآلة مصير مكتوب شبه أبدي في الكروموزومات في أصول الخلايا البدائية الأولية!! فكما لا يستطيع القزم مد يده الى النافذة، كذلك فإن العقل المتخلف محروم من الابداع فهو يندفع في الاتجاه السهل: في التقليد؛ فيظن أن ( امتلاك ) الاشياء سيحل ويرفع عنه داء التخلف، ولذا تندفع دول العالم الثالث في شراء السلاح وتكديسه ليتحول الى ( خردة ) لا تضر ولا تنفع بعد مرور عشر سنوات عليها من تطور تقنيات جديدة ، وفي الوقت الذي تشكل فيه خطراً على أساطين ومهندسي السياسة العالمية فإنها تدمر وفي أرضها أو في قاع البحر _ إذا تطلب الأمر _ وفي ساعات قليلة، لأنه مكتوب عليها منذ خروجها من رحم معاملها أمران الأول: صنعت في بلد كذا والثاني: حكمة قديمة ( لا يعقل أن يبيعك خصمك سلاحاً تتفوق به عليه )، فمعالجة التخلف بالامتلاك كمن يعالج قصر القامة بلبس بدلة طويلة، أو تقليد صعود الجبل بتسلق ظله .
إن عادة تسلق الظلال غير حميدة.
الدرس البليغ الذي نأخذه من الحج هو أن السلام أحد أسماء الله الحسنى وهو تحية أهل الجنة وهو دعوة الانبياء، وأما الاسلوب القديم في تقديم القرابين البشرية فقد ألغاه الاسلام وأكده تطور العلم الحالي واستجيبت فيه دعوة ابراهيم عليه السلام.
طاب نهاركم وكل عام وأنتم بخير..
لبيك اللهم لبيك
وشكراً لك أيها الحاج التركي الذي ألهمتني بهذه الأفكار عندما رأيت دموعك وأنت تكاد تقبل أرض الجزيرة عندما وطأتها قدماك.
هوامش ومراجع:
- (قصة الحضارة _ ويل ديورانت _ الجزء الأول _ ص 99) (2) (قصة الحضارة الجزء 30 ص 121) (3) (سورة الحج الآية رقم 27) (4) (سورة التوبة الآية رقم 36) (5) يراجع بحث باسم الطربوش _ كتاب الناقد ص 41