الجابري المفكر “الذي ملأ الدنيا وشغل الناس”

الوطن 24/ بقلم: نور الدين الحاتمي
هذه العبارة قالها ابن العميد الملقب بالجاحظ الثاني عن أبي الطيب المتنبي، وهي تصلح هنا لأن نقولها عن المفكرو”الفيلسوف” العربي الراحل محمد عابد الجابري، إذ لا نعلم مفكرا تفاعل معه العرب، مخالفة وموافقة، كما تفاعلوا مع هذا الرجل، لقد كان هناك مفكرون أخرون غير الجابري لهم “مشاريع” حظيت هي الأخرى بالنقد ك: حسين مروة وطيب تيزيني وحسن حنفي ومحمد أركون، وإذا كانت كتابات هذين الأخيرين توبعت بإهتمام كبير، وصدرت بشأنها دراسات نقدية وازنة ومهمة، فإن الجابري يبقى المفكر الأكثر إثارة للجدل، فقد كثر ناقدوه، متفقين معه أو مختلفين، وإن كان الذين حمدوا جهوده أكثر من غيرهم .
الجابري مفكر عظيم و”فيلسوف” متفرد، وأفضاله على الثقافة والفكر العربيين لا تحصى كثرة، والمشروع الضخم الذي” أرخ” فيه للتراث، ونقد فيه العقل العربي، يؤكد هذه الدعوى. والحال أن جميع مؤلفاته مهمة وقوية، وتؤكدها أيضا، والذي يقرأها لا يتثقف فحسب ولكنه يتغير أيضا، وهذا هو الانطباع الذي يخرج به من يتعود على قراءة كتاباته.
لقد انخرط الجابري في مشروع يعني العرب جميعهم، ويمسهم كلهم، وأصبح مسكونا به و مهجوسا، وتعامل مع هذا المشروع بقدر كبير من الجدية، فانتبه ومنذ كتابته ل”لخطاب العربي المعاصر” الذي يعد، بحق، المرحلة الأولى في هذه المهمة ، مهمة نقد العقل العربي ـ كما قال محمد وقيدي في تقديمه لندوة “نقد العقل العربي في مشروع الجابري”ـ بل وقف فيه على ضعف وعيوب العقل العربي المنتج لهذا الخطاب ـ حسب قوله ـ ورصد فيه عوائقه المعرفية، فعزم على القيام بمغامرة “نقد العقل العربي” وذلك إيمانا منه أنه لا يمكن بناء نهضة حقيقية بدون عقل ناهض ـ حسب عبارته في مقدمة “تكوين العقل العربي”ـ وهذا المشروع/ المغامرة ـ ربما ـ يكون هو السبب في حمل بعض خصومه على القول أن الجابري أخذ من أحمد أمين في عمله الموسوعي، وأنه لم يفعل شيئا غير أن أعاد ترتيبه وجعله وفق خطته في مشروعه، وهو القول الذي تعاطى معه بعضهم كأنه نوع من المسلمات أو يكاد. وإذا كان مما لا شك فيه، أن الجابري قد قرأ أعمال أحمد أمين وأشار إلى بعضها في كتابه هذا، فإن الفارق بين مشروع أحمد أمين ومشروع الجابري فارق واسع وكبير يتبدى لكل من قرأهما. إن البناء والمعمار الفلسفي الذي تشكل منه مشروع الجابري يختلف، تمام الاختلاف، عن بناء ومعمار أحمد أمين. لقد كان أحمد أمين يقوم بعمل تأريخي للفرق والمذاهب، و للثقافة والعلوم العربية، والعناوين التي اختارها لعمله: “فجر الاسلام” و “ضحى الإسلام” و “ظهر الإسلام” دليل واضح على هذا الأمر، وهذا هو الإطار الذي يمكن أن نضع فيه عمله. بينما الجابري لم يكن معنيا بهذا التأريخ، بالقصد وبالأصالة، وإنما ورد فعله التأريخي للثقافة العربية من باب الضرورة، أي حسب ما يناسب موضوعه، الذي هو الوقوف على محطات تكوين العقل العربي وكيفية تشكل بنياته، بمعنى أن التأريخ للثقافة العربية لم يكن مقصودا لذاته، كما يقول هو في خاتمة كتابه “تكوين العقل العربي”. صحيح أن التاريخ لا يكتب لذاته أو من أجل الحقيقة، فقط، في الغالب، وإنما يكتب المؤرخ ليناسب عصره ويخدمه، وأحمد أمين كان يكتب من أجل الحاضر ومن أجل رؤية يراها. ولكن كيفما كانت الحال، فإن غاية أحمد أمين ليست هي غاية الجابري، وأفق أحمد أمين ليس هو أفق الجابري. لقد كان الجابري يتطلع إلى المستقبل، وإلى الإسهام في تهيئة العقل العربي ليكون صالحا للتغيير والنهوض، أي للمستقبل.
ولأن الجابري كان مسكونا بالنهضة، شأنه في ذلك شأن كل المفكرين الكبار، فقد عمد إلى صياغة مشروعه بلغة سهلة ومفهومة ودسمة ـ وبعبارته هو فيها الكثير من الشحم ـ الأمر الذي جعل بعضهم يقول ان لغته كانت بسيطة. ولقد كان الجابري قاصدا أن يكتب بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة، وكان واعيا بذلك، إذ صرح في كتابه “العقل السياسي العربي” أنه يكتب للطلبة أو من في معناهم، ولذلك كان يكتب بالأسلوب السهل والواضح . لقد كان الرهان عنده إذن، أن يصل خطابه إلى القارئ العربي وأن يُعقل عنه هذا الخطاب. والحق أن هذا الخيار التربوي و”البيداغوجي” كان موفقا حيث جعل إنتاجات الجابري، الفلسفية والفكرية، في متناول القارئ العربي كما أراد هو، واختياره لهذا الأسلوب في الكتابة راجع إلى اهتمامه وحرصه على إفهام القارئ العربي وإقناعه. و”بيداغوجيت “ه هنا، قريبة مما أسماها هو ب”البيداغوجيا البيانية” أثناء تناوله و تحليله لطريقة الجاحظ و أسلوبه، وذلك في “بنية العقل العربي”. وتوسل الجابري بهذا الاسلوب في الكتابة، جعل ناقدا كبيرا من نقاده يلاحظ أنه على الرغم من كونه انحاز إلى “البرهان” وانتصر له ضدا على “البيان” و”العرفان” إلا أنه ظل أسيرا لطريقة البيان في التعبير والكتابة، ولم يستطع أن يتحرر منها ، وذلك ربما لأن العربي ـ كما يقول هوـ “حيوان بياني” تسحره اللغة وتؤثر فيه. وفي تقديري أن طريقة الجابري في عرضه لأفكاره وشرحه لها، بهذا الأسلوب البياني، تحسب له لا عليه ،إذ هي آية على تمكنه من موضوعه وسيطرته عليه خصوصا وأن هناك غير واحد من النقاد يعتبر أن السالك مسلك العبارات الغامضة والصعبة إنما يخفي عجزه عن بسط افكاره بالصورة المطلوبة، وإنما يلجأ إلى هذه الطريق التفافا على الغرض المقصود.
وإذا كان النقاد الذين تعرضوا له قد استدركوا عليه و وقفوا على الآفات التي أصابت مشروعه، فهذا لا يقدح فيه البتة. فهم يكتبون دراساتهم النقدية على ما اسس ويبنون على ما دشن، وإذا كان طه عبد الرحمان من أقوى ـ إن لم يكن أقوى ـ من رد عليه و كشف مواطن الضعف ومكامن الخلل في مشروعه، معتمدا في ذلك على عدته المنطقية و قوته الفلسفية ومتسلحا بهما، وبين أن الجابري وقع في نفس الآفات التي وقع فيها من اعترض عليهم، حيث عاب عليهم أنهم تعاملوا مع التراث ب “التجزيئية” فوقع هو نفسه فيها: أي في “التجزيئية”، في حين أنه كان يدعو إلى” الشمولية” في تقويم التراث، وعاب عليهم تعاملهم ب” التفاضلية” فوقع هو نفسه فيها: أي في “التفاضلية” في حين أنه كان يدعو إلى “التكاملية”. فإنه هو نفسه ـ طه عبد الرحمان ـ وقع فيما عابه عليه، وفعل نفس ما فعل الجابري، فإذا كان الجابري قد جزأ قارة التراث وقسمها إلى جزر هي “البيان” و”العرفان” و”البرهان”، وجعل” البرهان” في المقام الأعلى يليه “البيان” ف”العرفان”، فإن طه عبد الرحمان، وإن لم يوافق الجابري في تقسيمه، إلا أنه انتصر لل”عرفان” ورفعه إلى منزلة دونها “البيان” و”البرهان” وهو الذي ما فتئ يصف العقل” العرفاني” بالعقل المؤيد ذي الكمالات، وإذا كان الجابري قد فاضل بين المدارس والشخصيات، الفلسفية والفكرية والعلمية، وانتصر للأسماء المنحازة إلى البرهان والسالكة مسلكه، فإن طه عبد الرحمان أيضا فاضل بين تلك المدارس والشخصيات وانتصر لتلك المنتسبة إلى “العرفان” ويبدو أن جميع المثقفين والمفكرين يقعون في هذه الآفات ويتعاملون في تقويمهم للتراث ونقدهم له ب”التجزيئية” و”التفاضلية” حتى وغن أعلنوا عكس ذلك.
وإذا كان الجابري قد أخل بمنهجه في الكثير من محطات إنتاجاته وكتاباته ولم يتقيد بها كما يلزم، فإنه ليس بدعا في هذا الأمر، فجميع من عرفنا من الفلاسفة والمفكرين يقعون في هذا المطب،
إن محمد عابد الجابري ليس “نبيا” وبالتالي يجوز أن نتفق معه ويجوز أن نختلف معه، إلا أنه يبقى، وللحقيقة، من الأسماء التي لا تموت بسهولة .