المدرسة المغربية وسؤال القيم
الوطن 24/ بقلم: عبد اللطيف أحرشاو
إن القيم هي أهم ما يجمع بين الناس، وهي في الوقت نفسه أشد ما يفرق بينهم، ويظهر أن “الصراع الجوهري بعد أن أصبح العالم شاسعا، وغير متناسب بشكل كبير مع البعد الإنساني في عصرنا الحاضر وحتى في العصور السالفة، هو صراع بين قيم متباينة ومتعارضة” وبين منظومتين رئيستين تخضع إحداهما لمبادئ أخلاقية واجتماعية وإنسانية، وتقوم الثانية على أسس مادية وفردية وأنانية. يشكل الصراع بين هذه القيم واقعا ملحوظا داخل الحضارة الواحدة، وداخل الدين الواحد، وداخل المجتمع والطبقة الواحدة، وقيم المنفعة والمصلحة المادية والأنانية من جهة ثانية.
وتحظى التربية على القيم، بمكانة خاصة في نظامنا التعليمي والتربوي المغربي، يتجلى ذلك في الوثائق والتوجيهات الرسمية، وفي جل الأدبيات التربوية المتعلقة بالمدرسة المغربية، فالميثاق الوطني للتربية والتكوين مثلا يركز على التربية على قيم المواطنة، وحقوق الإنسان، وممارسة الحياة الديمقراطية. وقد وجد هذا التوجه “تجسيدا له في “الكتاب الأبيض” الذي ينص بدوره على التربية على المبادئ الاسلامية والمواطنة وحقوق الإنسان والهوية الحضارية للمجتمع المغربي.” ويكتسي موضوع التربية على القيم أهمية كبرى من حيث راهنيته اليوم لاسيما أمام التحولات العميقة التي تشهدها القرية الكونية، ويحكم هذا تغير المفهوم القيمي وتطور منظومة القيم، إلى جانب التغيرات المتسارعة التي يعرفها العالم على مستوى الأنظمة المرجعية الثقافية والاجتماعية.
فلنطرح إذن هذا التساؤل الجوهري الذي يجعلنا نستفسر عن ضرورة انخراط المدرسة المغربية في ترسيخ التربية على القيم وسلوك المواطنة، والتصدي لكل أشكال العنف التي أصبحت ظاهرة تهدد الحياة المدرسية وسلامة الكيان المجتمعي واستقراره. فبأي معنى يمكن الحديث اليوم عن دور المدرسة المغربية في تكريس السلوك المواطناتي والسلوك المدني؟ وهل تستطيع المدرسة اليوم رغم كل الإكراهات أن تستعيد دورها التربوي الأول لغرس قيم أخلاقية مواطناتية وحديثة، تؤسس لمفهوم وجداني جديد لنموذج المواطن الذي نشيده؟ لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة الكبرى لا بد من تمحيصها من خلال أسئلة وقضايا فرعية كالتالي:
– ما موقع رهان التربية على القيم اليوم إذن في فضاء المدرسة المغربية؟
– كيف يمكن للمدرسة كما هي مسؤولة على تلقين المعرفة للمتعلمين، أن تعمل على تزكية أخلاقهم وقيمهم؟.
عرفت المنظومة التربوية بالمغرب منذ الاستقلال إلى اليوم إصلاحات جذرية، مست كل الجوانب المتعلقة بتأهيل المدرسة المغربية، كما وكيفا قصد تمكينها من أداء رسالتها التربوية والتكوينية على الوجه المطلوب وهي إصلاحات عرفت نقلة نوعية من حيث التعميق والهيكلة، مع الشروع في تطبيق بنود الميثاق الوطني للتربية والتكوين خلال العشرية الأولى من القرن 21 والتي سوف تعرف نفسا جديدا من حيث السرعة في الإنجاز والتنفيذ، مع الأجرأة الميدانية لمقتضيات المخطط الاستعجالي للوزارة 2009-2012.
من هذا المنطق تحاول هذه الدراسة التربوية أن تلامس شكل بسيط موضوع المدرسة كمؤسسة، ودورها الريادي في التربية على القيم، حيث تعتبر المدرسة فضاء وإطار وآلية لتفعيل الحياة التربوية عبر مجموعات متجانسة وتلقائية، فعلية وعملية باعتماد العمل الجماعي والمبادرة والتطوع والمشاركة الإيجابية والمنافسة الشريفة. تمكن المتعلمين من الاهتمام بجميع المجالات، التي تشكل بؤرة تمثلاتهم وذات علاقة وطيدة بحياتهم المدرسية واليومية.
تعتبر المدرسة ذلك الوسط الحي الذي تتكامل فيه مختلف، كما أنه فرصة للعمل الجماعي حسب الميول والاهتمامات، وتشتغل المدرسة المغربية عامة على ما هو وطني اجتماعي وما هو معرفي وما هو تواصلي ثقافي.
– على مستوى الوظيفة الوطنية: تطلع المدرسة المغربية بترسيخ الانتماء الوطني، والتشبث بالثوابت الأساسية للوطن.
– على مستوى الوظيفة الاجتماعية: تركز المدرسة المغربية على ضرورة تنمية العلاقة التفاعلية بين المدرسة ومحيطها، باعتبارها محركا أساسيا للتقدم الاجتماعي والانتماء البشري داخل المجتمع.
– على مستوى الوظيفة المعرفية :تحرص المدرسة المغربية على تزويد المتعلم بالحد الأساسي من المعارف العلمية والأدبية والتاريخية والحضارية، سواء منها الخاصة أو تلك التي تهم حضارات وثقافات أمم وشعوب أخرى.
– على مستوى الوظيفة التربوية: تطلع المدرسة المغربية في توظيف وترسيخ الدعامات التربوية الأساسية التي من شأنها أن تسهل عملية تعليم وتنشئة الأجيال الجديدة.
– على مستوى الوظيفة التواصلية الثقافية :تحرص المدرسة المغربية على ترسيخ المقومات اللغوية الوطنية في إطار الانفتاح على مختلف الثقافات الإنسانية الأخرى “وفق توجيهات الميثاق الوطني للتربية والتكوين ومن ثمة فمن بين الغايات الكبرى للمدرسة المغربية يمكن تسجيل ما يلي:
” – ترسيخ الهوية الحضارية المغربية والوعي بتنوع وتفاعل وتكامل روافدها.
– تكريس حب الوطن وتعزيز الرغبة في خدمته.
– تكريس حب المعرفة وطلب العلم والرغبة في البحث والاكتشاف.
– تنمية الوعي بالواجبات والحقوق.
– التشبع بروح الحوار والتسامح والتربية على تقبل الاختلاف.
– ترسيخ التربية على الشأن المحلي.
– دعم التنوع اللغوي كآلية من آليات التواصل “.
ومن خلال ما سبق نستنتج أن المدرسة المغربية من واجبها الاشتغال على منظومة من القيم تتراوح بين قيم دينية، وقيم وطنية، وقيم اجتماعية، وقيم حقوقية. وأن هذه القيم تندرج من المحلي إلى الوطني ومن الوطني إلى الكوني. (قيم التربية الجمالية والنقدية، قيم الاكتشاف، القيم الاجتماعية والحضارية، العقلانية والحرية والتسامح والتربية على الحق في الاختلاف، قيم التربية البيئية قيم التربية الصحية).
يتضح جليا أن مسألة القيم أصبحت تفرض نفسها على المجتمع، بإيقانه أنه أخطر ما يواجهه في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها العالم اليوم، فهي مسألة وجب تجاوزها إلا ما هو ملموس وألا تبقى حبيسة النقاش الفلسفي أو الديني في مستواهما النظري، كما تأكد أن سلامة الكيان المجتمعي واستقراره، رهين جدا بوضعية التربية على القيم في إطار توجيهات جديدة. فالعالم أدرك أنه يعاني من أزمة تنخر حياته من جل منها وما صغر، أزمة أصبحت متجذرة غدا فيها العالم قائم على قيم السوق ولاشيء غيرها، هذا ما سنجد له تأثيرات خطيرة على المؤسسات الأخرى كالمجتمع التي اصبحت معاناته من سلوك أفراده مؤذنة بانهياره، كما غابت كذلك الثقة بين علاقة الفرد بالمؤسسات العمومية مادام أن كل شيء قابل للبيع والشراء، ولم تعد المدرسة هي الأخرى فاء للاطمئنان حيث غدا فيها المتعلمين والأطر وكل الفاعلين مهددين في سلامتهم الجسدية والنفسية، ومن هنا كانت الدعوة ملحة إلى رجوع القيم للمدرسة بما هي راسمة ملامح المستقبل.
لقد رأى الكل واتفق أكثر من أي قبل على دور المدرسة والمهام المنوطة بها، أنه لإعداد الأجيال وتربية الأطفال والناشئة للعيش في مجتمع التسامح والسلام والاعتراف، وجب أن يكون مجتمع تحتل فيه القيم موقفا مختلفا. لهذا أصبحت التربية على القيم تشغل وضعية مفضلة، ولاشك أنه من الحاجات المجتمعية الملحة اليوم، أن تضطلع المدرسة المغربية بدورها في التنشئة الاجتماعية، باعتبارها مؤسسة للتربية على القيم عبر مجموعة من الآليات والقنوات التي تنتظم لمنظومة قيمية متكاملة، وتجمع بين مفاهيم الهوية وثقافة حقوق الإنسان وقيم المواطنة والسلوك المدني، بما في ذلك الالتزام بالحق والواجب والمسؤولية والكرامة والحق في الاختلاف وممارستها بشكل يتوافق ودينامية التحول القيمي الكوني. لذلك فإن المدرسة بحكم طبيعتها التربوية، لا يمكن أن تقف محايدة بشكل سلبي لتقبل أو تتواطأ بشكل واع أو غير واع في تقبل أو ترويج قيم متضاربة عاكسة بذلك التضارب القيمي الحاصل في المجتمع.
تعتبر المدرسة مجتمعا مصغرا، تتناغم ثقافة ساكنته والثقافة الاجتماعية السائدة المنبثقة من قلب المجتمع سلوكا ومعاملات، لتساهم وبشكل فاعل في صناعة وتشكيل الإنسان وتحرص على “زرع القيم الإنسانية والتطوير والتعديل وتهذيب السلوك ضمن أطر المنظومة الأخلاقية للمجتمع، كما أنها تعمل على إعداد الفرد المتوازن تربويا وأخلاقيا، ليكون مواطنا صالحا نافعا لنفسه ولمجتمعه، ومساهما في رقيه وتقدمه …
وقد أوجدت المدرسة لتحقيق أهداف وغايات نبيلة، وهنا يكمن تصور الثقافة المدرسية “كثقافة متنوعة المكونات، تتداخل فيها عمليات التكوين الذاتي بالتفاعل والتعاون داخل الجماعة، وهو ما ينسجم مع تصور للكفاية، يشمل مفاهيم الاستعداد والقدرة والمهارة ويفيد مجموعة من السلوكات السوسيو_وجدانية”. كما تتجلى أدوارها الأساسية في تنمية شخصية المتعلم في جميع جوانبها الجسمية العقلية والنفسية والانفعالية والاجتماعية والروحية والأخلاقية بصورة متكاملة، ومساعدة الفرد على الاندماج في الحياة العملية، والتكيف مع الثقافة الاجتماعية قيما وأعرافا وعادات، حيث يفد على المؤسسة التعليمية أفراد كثر، تلاميذ وأطر إدارية وتربوية يختلفون باختلاف مشاربهم وبيئتهم الاجتماعية والثقافية، وهكذا كان على مؤسسة المدرسة، أن ترسخ لدى الأطفال مفردات وكلمات وسلوكات ذات الصلة من جهة ببيئتهم الأسرية، ومن جهة أخرى تتصل بأشكال وأنماط المعاملات داخل مؤسسات التعليم والوسط الاجتماعي، وفي هذا الصدد نجد جون جاك روسو يقول “ما أحرى الأخلاق أن تصلح من تلقاء نفسها….. فجاذبية الحياة البيتية هي أفضل ترياق للأخلاق السيئة، ويزداد اعتزاز الآباء والأمهات بمتانة الرباط الزوجي بينهم، ومتى ارتدت النساء أمهات ارتد الرجال آباء وأزواجا”. فمسؤولية أولياء الأمور بالدرجة الأولى، تبدأ في كيفية التفريق بين الصواب والخطأ لمحاربة المؤثرات الخارجية مثل التلفزيون والمجتمع المحيط بهم، حيث ترسخ في أذهانهم معتقدات أو سلوكات خاطئة تؤثر سلباً على سلوكهم.
لا يجادل اثنان أن تنوع الثقافات ثروة ونعمة، لكن سوء التفاعل والتعامل مع هذا التنوع يصبح نقمة بحيث إن تدهور القيمة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمدرسة أو المؤسسة التربوية عموما، لا يعمل في واقعنا الراهن سوى على “تعميق العديد من التصورات التي تساهم في تجذير آليات تبخيس قيم العلم، التعليم، المعرفة، الثقافة والفن وكل أشكال الإبداع والابتكار. ولعل من أهم بل أخطر مسستتبعات هذه القطيعة، التي تخترق علاقة الثقافة المدرسية بالواقع الاجتماعي المغربي، كون هذه الثقافة تظل بعيدة عن أن تساهم في بناء الإنسان “المواطن” ذي الشخصية المتكاملة والمنسجمة وعيا وسلوكا وتصورا للواقع والمستقبل”.
إذن من مهام إحداث المدرسة كمؤسسة تربوية تاريخيا تحلي المتعلمين بأخلاق عالية مبنية على الصدق واحترام الآخر، ويرغب الجميع بأن تكون هذه الثقافة عامة لكي يعيش الجميع في مجتمع مبني على الصدق والأمانة واحترام المقابل، وكذلك مختلف التعبيرات الثقافية وتنمية بهذا وعي ذاتي للمتعلم يمكنه من مراقبة الاختلافات الثقافية، وتشكيل متعلم مواطن بالمستقبل يعي جيدا كيفية تعامله مع الصورة النمطية العامة. وهنا نجد أنفسنا إزاء مجموعة من العادات العقلية، التي يتعين على المدرسة غرسها في نفس الطفل، لا لأنها تصلح لغرض أو نظام معين، وإنما لأنها عادات سليمة ولأن لها أنفع النتائج على سعادة المجموع. ولنضيف لذلك أن “القوى الأخلاقية تحمى من شر القوى الغاشمة غير العاقلة”.
إن المدرسة المغربية مدعوة اليوم في مهمتها التربوية إلى خلق مجتمع ديمقراطي منسجم في ذاته، متوازن وديناميكي، منتج ومتطور ومتفتح على القيم الانسانية والكونية المشتركة. ذلك أن تشبع المتعلم المغربي بهذه القيم الكبرى عبر الأنشطة المدرسية المختلفة، تكسبه مناعة حقيقية ضد كل أشكال العنف وكل السلوكات السلبية، التي تسربت للأسف إلى مؤسساتنا التعليمية كظاهرة الغش والتنميط والعنف… لذلك تشكل التربية على القيم صمام أمان يحمي أمن واستقرار وتوازن المجتمع. ـ فمؤسسة المدرسة بمختلف تجلياتها وبتنوع أهدافها، وأنشطتها يمكن أن تلعب دورا حاسما في تنمية الجانب السلوكي والمعرفي والمهارى للمتعلم بواسطة أنشطة تفاعلية متنوعة يسهم فيها مختلف الفاعلون مما يجعلها آلية تساهم بشكل مباشر في إخراج المتعلمين من الروتين اليومي المنحصر في تحصيل المعرفة.
المراجع
[1] – Baakrim Abdelmajid, « L’école et les valeurs de la modernité, Oualili, cahiers de l’école normal supérieure de meknes, revue pédagogique et culturelle, N16, 2011, p35
[2]– يحيى رمضان، “مشروع التربية على القيم المهمة الصعبة”، وليلي دفاتر المدرسة العليا للأساتذة بمكناس مجلة بيداغوجية وثقافية، العدد 16، 2011، ص56، (بتصرف).
[3]– عبد الله الطني، “من قيم المدرسة إلى مدرسة القيم (سؤال التصور والممارسة في المدرسة المغربية)”، وليلي دفاتر المدرسة العليا للأساتذة بمكناس مجلة بيداغوجية وثقافية، العدد 16، 2011، ص87.
[4]– آيت حمودة حكيمة، “أهمية المدرسة في تنمية القيم السلوكية لدى التلاميذ ودورها في تحقيق التوافق الاجتماعي” ـدراسة ميدانيةـ، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد 5، رقم 26321، 2011، ص29. (بتصرف).
[5]– عز الدين الخطابي، “الثقافة المدرسية ومسار الإصلاح التربوي من تحصيل المعارف إلى اكتساب الكفايات”، الثقافة المدرسية وتكوين المدرسين، منشورات وليلي، العدد 15، فبراير 2010، ص50.
–[6]جان جاك روسو، إميل أو التربية من المهد إلى الرشد، ترجمة نظمي لوقا، الشركة العربية للطباعة والنشر، يوليوز 1958، ص36 .
[7]– مصطفى محسن، الخطاب الإصلاحي التربوي بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضاري (رؤية سوسيولوجية نقدية)، المركز الثقافي العربي (بيروت)، الطبعة الأولى 1999، ص47.
[8] – إميل دوركايم، التربية الأخلاقية، ترجمية محمد بدوي، مراجعة علي عبد الواحد وافي، دار النشر (المركز القومي للترجمة)، طبعة 2015، ص68.